ثلاثة وفي إتجاه واحد...بقلم آرا سوفاليان
تحت الخطر تسعى وراء لقمة العيش...من واسطة نقل الى أخرى أو الى سيارة عابرة حسب الحال...لديها طالب في باب توما وطالبة في باب شرقي...وأخرى بالقرب من بيتها تتركها للعودة...وتلك الطالبة التي تسكن بالقرب من بيتها هي ابنتي...وابنتي تحبها وتعرف أن في قسوتها كل الخير والعطاء والفائدة...لا تهتم هذه المعلّمة لقيمة العملة التي انهارت...وبقي الأجر الذي تتقاضاه عن الجلسة ثابتاً...على الرغم من أن بائع الحليب صار يضربه ماء ويضع في اللبنة اكسيد الزنك السام لتبدوا جامدة ويضرب سعرها بعشرة أضعاف على مبدأ التقريش على الدولار دون أن يتمكن أحد من الوصول اليه وقطع ذراعيه، وهذا المرض قديم العهد لأنه كان في آخر سلّم الاهتمامات ولكنه استفحل الآن بعد الذي حدث.
صاحبة مبدأ وتحب المتفوقين...ولا تضيع وقتها مع العابثين والكسالى ولا تحب المال الذي يأتيها عن طريقهم، فتشعر أنه ليس حلالاً... فتقطعه بعد أن تخبر أهلهم...بقيت مبادئها رغم ضياع المبادئ...وضاعت سوريا وبقيت هي وفي قلبها سوريا...نخاف عليها من هاون يرميه واحد من جماعة وما رميت إذ رميت وإنما الله رمى...فتنقطع عن زيارتنا بأمر من الله الذي رمى!!!
تحت الخطر يسعى وراء لقمة العيش يحمل في فكره حضارة الاقدمين من الاغريق وأهل روما والقسطنطينية... اقليدس وفيثاغورث وأرخميدس ورافعته مروراً بالخوارزمي الذي منحني نعمة الآلة التي أخطّ بواسطتها ما أخطّ...الى نيوتن وديكارت وباسكال صاحب نظرية الاحتمالات التي تقول: ابقوا في بيوتكم لأن التعرض يؤدي الى الاصابة بالهاونات والتعرض الأكبر يزيد من احتمال الاصابة والذي يبقى في بيته فإن تعرضه يساوي الصفر إلا في حال دخول الهاون الى داخل بيته...ولهذا السبب قررت بقاء الأولاد في البيت بدون مدرسة...مع العلم بأن الله لا يرمي الأبرياء ولا المدنيين المسالمين: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون*وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين* وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين * فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين)...تفيض بالدمع نعم لأن المنهل واحد... ولأن جلّ جلاله أوصى بهم في محكم تنزيله...( وقال أبو بكر مقولته الشهيرة التي هي دستور المسلمين في الحروب: " لا تخونوا ولا تغدروا ، ولا تمثلوا بالقتلى ، ولا تقتلوا طفلا، ولا شيخا كبيراَ ولا امرأة، لا تعقروا نخلة ولا تحرقوها، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا للأكل، وإذا مررتم بالذين يتعبدون في صوامعهم فاتركوهم لشانهم، وعلى هذا فسيروا على بركة الله)
الى أقاصي الأرض ذهب يبحث عن عمل بعد ان ضاع رأسماله وتحول الى عاطل عن العمل وبقي لمدة سنتين يصارع الهمّ والغمّ واليأس والندم...حرّض إخوته على الهجرة فهاجروا وبقي هو ...امتدت له يد المساعدة ممن صدقت فيه المقولة "رب أخٍ لم تلده أمك".
اتصل بزوجته صوت وصورة عبر الأداة التي وفّرها الكفار ووضعوها بالمجّان في يد الأخيار فأخبرته أن مدرّس الرياضيات في البيت...تحت الخطر جاء يسعى وراء لقمة العيش الشريف ليعيل اسرته بشرفٍ وإباء يركض وراء اللقمة الحلال...وفجأة توقف المتصل عن الكلام وانتابته رعشة من الخوف.
في بيتي رجل وانا بعيد...وجاءت نسمة عليلة لفحت وجهي ومنحتني الهدوء والسلام لأنني عرفت مرسلها وعرفت لماذا أرسلها وفي هذا الوقت بالذات...أنا الذي وافق على أن يدخل هذا الاستاذ بيتي...لأنه يحمل رسالة انسانية...يحمل كل الصدق والشرف والاخلاص والرغبة في اعالة نفسه واسرته باللقمة الحلال...مع العلم بأنه وفي سوريا اليوم وقبل اليوم وبمتناول اليد ألف وسيلة أخرى أهون بكثير وأربح بكثير...وقد قصدها الكثيرين دون أن تتوازع ضمائرهم ذرة ندم.
نعم أنا سمحت له بأن يدخل بيتي لأنه مثلي ويشبهني واعرفه ويعرفني على الرغم من أني لم أقابله في عمري ولا هو قابلني، ويتميز عنّي بأنه يعرف اسمي المكتوب بعناية على جرس البيت، أما انا فلا أعرف عنه شيء!!! ولا حتى أسمه ولا دينه ولا مذهبه ...يشبهني نعم يشبهني في الانسانية وحبي لها...يشبهني في السعي للوصول الى اللقمة الحلال...يشبهني في الرسالة التي يحملها...وهذا دينه الذي أحببت وهذا مذهبه الذي أعجبني...قلت لزوجتي: قولي له: إن والد هذه الفتاة يهديك السلام ويشكرك لأنك من البقية الباقية من الشرفاء الذين أصرّوا على نشر الفضيلة التي لها جذور عميقة في سوريا والذين أصرّوا أن يحملوا الماء لسقاية شجرتها والاعتناء بها فتبقى مزهرة ثم مثمرة، لا تموت... لكي لا يقال ضاعت الفضيلة في ديار أهلها...وأقصد بلاد الشام.
آرا سوفاليان
كاتب انساني وباحث في الشأن الأرمني
06 12 2013