البداة وأثرها في حياة الشناقطة
"واصْل الباديَّ ماهِ عْمارْ
من تصريفْ الحيّْ الرؤوفْ"
شاعر حساني.

الدكتور مختارالغوث

لن نغمض العين عن وجه القضية الآخر: إيجابيات البداوة، فمن إيجابياتها البساطة، وسلامة الصدور، ونقاء السرائر، وحب ذوي القربى، والإحسان إليهم، والميل إلى الزهد، وما يتبعه من مكارم الأخلاق، التي كان عليها مدار جل ما كان يفخر به العرب، كالكرم، وحماية الجار، ونصرة الضعيف، وعدم الحرص على الحياة، وما يستتبع من الشجاعة، وإباء الضيم، والاستهانة بالمادة، وإيثار القيم النبيلة على ما سواها، كما عبر عن ذلك حاتم الطائي:
غنـينا زمانا بالتصـعلك والغِنى وكـلاًّ سقاناه بكأسيهما الـدهر
فما زادنا بغْـيًا عـلى ذي قرابة غنانا، ولا أزرى بأحسابنا الفـقر
أمـاويَّ، إن المال غاد ورائـح ويبقى من المال الأحاديث والذكر
أماويَّ، ما يغني التراث عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر؟!
وزادت بداوةُ شنقيطَ على هذه الإيجابيات العلمَ، وهو شيء عزيز الوجود في التاريخ الإنساني؛ إذ العلم من لوازم الحضارة، كما أن الجهل من لوازم البداوة. وقد مزج علماء شنقيط الربانيون قيم البداوة الفطرية بالعلم والتصوف أروع ما يكون المزج، وغرسوا من ذلك في النفوس غرسا أثمر كل ما في هذا المجتمع من خلق محمود. وقد هيأ القلوبَ لما غرسوا فيها سلامةُ الفطرة، كما هيأت قلوبَ العرب الأولين للإسلام؛ لـ"أن النفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت متهيئة لقبول ما يرِد عليها وينطبع فيها من خير أو شر ... وبقدر ما سبق إليها من أحد الخلقين تبعد عن الآخر، ويصعب عليها اكتسابه"([1]).
غير أن البداوة إذا كان لها أثر في هذه الإيجابيات، هي سبب جل ما في المجتمع الشنقيطي من سلبيات. والأصل في البداوة السلبية، كما يبدو من أكثر نصوص القرآن، فيوسف -عليه السلام- جعل من نعم الله عليه أن أخرج أهل بيته منها: (وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو)؛ "لأن انتقال أهل البادية إلى المدينة ارتقاء في الحضارة"([2]). والآيات التي ذكرت الأعراب لم تثن عليهم إلا مرة واحدة: (ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول)، وما عدا ذلك إنما هو ذم لهم بالكفر، والنفاق، والتعلق بالدنيا، والجفاء: (الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله)، (سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم)، (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم). وفي الحديث: "من بدا جفا".
وقد تحقق جانب من هذه الصورة السلبية في حياة الشناقطة، الذين امتهنوا السلب والنهب وسفك الدماء، والغلظة والجفاء والجهل بالدين، وربما الاستخفاف به، في زمن السيبة، كما تحققت في حياة أعراب الجزيرة قبل قيام الدولة السعودية، فكانوا -كما قال ابن خلدون- "إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب"([3]). ومأتى هذا من الجهل، فهو أورثهم كل ما ذُمُّوا به، منذ الجاهلية، كالنزق، والطيش، والعصبية، والحمية، والكبر، والفخر بالأنساب، وجعلِها المعيار الذي يوزن به الإنسان.
ويمكن أن توجز آثار البداوة السلبية في مجتمع الشناقطة فيما يأتي:
1- العزلة: والعزلة الجماعية أكثر ما تكون من خوفِ قيم سلبية، أو الخوف على قيم إيجابية. والمجتمعات البادية -لما كانت مفطورة على الاعتداد بما عندها- كانت ترى قيمها خير القيم؛ فهي تخشى عليها أبدا، وتعد قيم غيرها قيما سلبية تخافها أبدا؛ فمن هناك حرصت على العزلة استبقاء لما ألِفت، واتقاء لما لم تألف. والنسب من القيم المعتبرة عند البادين، والمحافظة عليه من دواعي ميل القبيلة إلى التميز من غيرها، واعتزاله، إلا أن يكون مكافئا. وحين يتحضر البادي، أو ينتقل إلى إقليم جديد يستصحب عزلته، فتحرص القبيلة على أن تتجاور، ليأنس بعضها ببعض، ويستعين بمن سبقه إلى الحياة الجديدة. ولعل ذلك هو الذي حمل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على أن يأمر بتخطيط الكوفة على أساس قبلي، فجعل لكل قبيلة محلة تتجاور فيها، لما علم من تعلق بعضها ببعض، وحاجة بعضها إلى بعض.
وحين يكون المغترب أشتاتا من مجتمع، تحل العصبية الإقليمية محل العصبية اللقبيلة، إذا لم يجد المهاجرون من قبائلهم ما يكوِّن مجتمعا قائما بذاته كالقبيلة، فينزعون إلى التجاور في الغربة، على وجه يحول بينهم وبين الانفتاح على الغير والإفادة مما عنده، فيكون تحضرهم تحضر أبدان لا تحضر أرواح وعقول، فيبقى كل ما ألفوا في البادية على حاله، إذ تطيل العزلة أمد البدواة والتمنع على الامتزاج بالغير، وتقبُّل غير المعهود. وإن كان مثل هذا التجاور قد يوجد عند الشعوب المتحضرة، غير أنه لا ينحو منحى عزلة الشعوب البادية؛ لأن المتحضر -ما لم يكن عنصريا- ليس من دأبه الانغلاق ولا العزلة، ولا الشعور بالتميز والفوق العرقي. إلا أن عزلة كهذه ليس من دأبها أن تطول، ما لم يكن لها مستند من دين أو عنصرية؛ فإن ضروريات الحياة تجعل أهل البادية في حاجة أبدا إلى أهل الحاضرة، وقيم الحاضرة، في الجملة، خير من قيم البادية، وحتم على من عرف أين مصلحته أن يصير إليها، ويتخلى عن القيم التي صنعها التوحش والعزلة، والجهل بما عند الغير، وقلة التجربة، وهي -بعد- تضر بالمتعصب لها أكثر مما تنفعه. وهذا من أسباب تحلل المجتمعات العربية المهاجرة إلى الأمصار الإسلامية المفتوحة، والمجتمعات العربية التي تحضرت في تاريخها كله من البداوة.
وما يزال مجتمع الشناقطة بالحجاز، من حيث هو تجمع كبير، ما يزال حديث عهد بالحضارة، وهو صائر حتما إلى ما صار إليه سائر الشعوب العربية التي سبقته إلى التحضر. وربما كان من أسباب تأخر اندماجه حداثة عهده بهذه البلاد، فلم يكد يمضي على أكثره قرن من الزمن، ولم يأت دفعة واحدة، وإنما قدم دفعات صغيرة؛ فمن ثم كان تفاوته بالتأثر والاندماج على قدر قدمه وتعلمه. هذا إلى أن عزلته تستند في جانب منها إلى دينه، وليس إلى ثقافته البادية وحدها: فقد كان القادمون الأولون ثلة من العلماء الزاهدين، تركت الدنيا لتفرغ لما بعد الموت، وتحصل على قبور في البقيع؛ فمن ثم كان عدم حرصها على خلطة من لا يعينها على السفر إلى الدار الآخرة.
ووجدوا طرائق المجتمع الحجازي في التربية والتعليم غير الطرائق التي ألفوا، إذ كان من أعراف الشناقطة أن حفظ القرآن فرض على كل طفل، وأن يمضي الشاب زهرة عمره في طلب العلم، ولا سيما أبناء الزوايا، والأسرة الكريمة منها خاصة. ويرى الحجازيون حفظ القرآن أمرا مستحبا، ولا يقصرون أولادهم على العلم الشرعي وحده؛ فخاف الشناقطة أن تحمل الخلطة أبناءهم على الصدود عن العلم الشرعي، إذ كان النهج غير النهج. هذه أصول عزلة الشناقطة الأولى، وقد زالت أسبابها، وهي زائلة مع الأيام، وإنما يراخي زوالها ذهنية أهل البادية، التي حالت دون أن يراجع الخلف ما ألْفوا عليه السلف.
- الاعتداد بما عندهم، واستصغار الآخر وما عنده، والشك في عقله. وهي خليقة من خلائق الأعراب، حيثما كانوا، تعبر عنها قولة خالد بن صفوان، وقد خطب خطبة زوَّج بها مولى له من أمته، فقال: "أما بعد، فإن الله أجل وأعز من أن يذكر في نكاح هذين الكلبين، وقد زوجنا هذه الفاعلة من هذا ابن الفاعلة"([4]). وقد فسر الجاحظ ذلك منهم بعزلتهم عن الخلق، وعدم مخالطتهم للناس، فكان ما ألفوا مثَلهم الأعلى الذي يقيسون إليه كل شيء. وتُرى صحة ذلك في مجاهرة المجتمعات البادية بما ترى، وعدم تهيب الإقدام على فعل ما ألِفت، عند من قد يستهجنه، كما بال الأعرابي في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-. ومن مظاهر هذا في المجتمع الشنقيطي انتهاك النظم والأعراف، والمجاهرة بما لا يجاهرون به في بلادهم، استهانة بالغير. وأشدهم في ذلك النساء؛ لأنهن أشد عزلة، وأقل تعلما وتحضرا، وأصلب وجوها.
- الأنفة من المهن، وهي ظاهرة في تاريخ البداوة العربية كلها، فقد كان أعراب الجاهلية يعيرون القبائل المتحضرة مزاولةَ المهن، كالزراعة والحدادة. وكان بعضهم يؤثر كل حياة على حياة الكد، كما قال الحارث بن حلزة:
والعيشُ خيرٌ في ظلا ل النُّوكِ ممّن عاشَ كدّا
ولما كانت أبواب الرزق في الحياة التي يعيش فيها الشناقطة هي: رأس المال، والمؤهل العلمي، وقد حرموهما، لم تكن لهم إلا البطالة؛ لأنهم يأنفون من المهن التي يأنف منها غيرهم من عرب البادية. ورأس مال المجتمعات البادية قيمها ونسبها، فإن لم يكن لأحدهم عمل يلائم نسبه ونظرته إلى نفسه لم يكن له إلا البطالة أو المسألة. أما الشعوب العريقة في الحضارة فهي شعوب كادحة، تصنع المال من العدم، ولا يكاد يُرى فيها سائل أو بطَّال؛ لأن طبيعة الحياة علَّمتها أن تعمل أو تموت؛ فقد شتت الحضارة الشمل، وقطعت الأواصر، فصار المرء يجهل مَن وراء جده الرابع، وحفظت البداوة الأنساب فهيأت للمرء أن يعان في كل ملمٍّ، وألا يترك لصروف الدهر، فصار الكسِل كلاًّ على ذوي قرابته، يطعمونه ويكسونه ويسكنونه، إذا احتاج، حتى صارت البطالة أحيانا لا تؤرق البادي القبلي كثيرا؛ لأنه في منعة من قومه. وحفظ النسب وما يتبعه من التعاون على نوائب الدهر خلة كريمة، مأمور بها شرعا، بيد أن ثقافة البداوة وتواكُلها وكسلها وكبرياءها استغلتها استغلالا غير كريم.
- ضعف الارتباط بالوطن؛ لأن القبلية التي هي لازمة من لوازم البداوة هي الدولة التي ينتمي إليها المرء، وانتماؤه إلى ما سواها ضعيف، إذ حسبه سلامة قبيلته، وقوتها واستقلالها في ديارها ومنازلها، ولا شيء وراء ذلك. ومن آثار هذا في حياة الشناقطة استقرارهم حيث يضطرون إلى الهجرة، فإنهم يحرقون سفن العودة إلى وطنهم، ويرون أن الأرض التي تطمئن بهم حينا ستبقى على اطمئنانها أبدا. فمن ثَمَّ كانت تلك الكوارث التي حلت بهم في بلدان شتى، أقاموا بها زمنا طويلا، وكوَّن بعضهم ثروة كبيرة، تمتعوا بها حيث هاجروا، ونسوا منها وطنهم، ثم سُلُّوا منها فجاءة كما يسل الشعر من العجين، فرجع بعضهم ما يملك إلا ما يستر به بدنه. ولو كان لهم تفكير غير تفكيرهم لعمروا وطنهم بما حازوا، عمارة تغنيهم عن الغربة، لكن ذلك يحتاج إلى تفكير غير تفكير البداة.
وإذا هاجر أحدهم قدم إليه أقرباؤه مستميحين، فأنفق عليهم ما جمع. ولما كانت الأعراف توجب أن يُرفَد الزائر كان الرفد سببا من أسباب الافتقار، حتى إن بعضهم مما يتحمل من الديون والتكاليف ربما اختبأ عن أقربائه، إذا علم بقدومهم خوفا من العار الذي لا يرفعه -إذا ضاقت ذات يده- إلا أن يتكلف اقتراض ما لا طاقة له بسداده، وإن كان ذا سعة كان كده لغيره، وحسبه أن يعمل ليعطي، من غير أن يكون له حظ كبير فيما تعنى واغترب في جمعه. فإن سلم أحدهم من الممتاحين أنفق ما يجمع في شهواته الآنية، فلبس الدراعة الفاخرة، والحذاء غلا ثمنه، ولم يطعم إلا اللحم، وإن نزل به ضيف أكرمه بما يجاوز طاقته، ثم يودعه بالهدايا، التي ربما اقترض ثمنها أوبعضه. أما الشعوب الأخرى فثمن الغربة عندها العودة بالغنى، وغربة الشنقيطي هدر، لضعف ارتباطه بالوطن، وعيشه في الحياة بفطرة وتلقائية، لا مكان فيها للتخطيط. وغير غريب أن تجد الشنقيطي طاف العالم: تنقل في إفريقية السوداء تاجرا، وفي ليبية عاملا أو معلما، ثم ألقى عصا التسيار بالحجاز مُعدَما، ولا يشعر -مع ذلك- بأنه خسر شيئا، أو فرَّط، وإنما كانت تسوقه الأقدار سوقا لا فكاك منه، وهو راض بما ساقته إليه، رضاه بتحقق ما كان يؤمل، لو تحقق، كأنما حاله قول الشاعر:
مشيناها خطا كُتبت علينا ومن كتبت عليه خطا مشاها
ثم لا يتعظ بتجاريبه وعنائه، أو يفكر في سيرة جديدة، تنتهي به إلى غير ما انتهى إليه. وقد صنعت فيه البداوة وزهدها، وارتجالها، هذا الرضا وقرار العين بكل ما قد كان، وعدم التطلع إلى ما وراء اللحظة التي هو فيها، وصيرت فلسفته في الحياة قول الشاعر:
ما مضى فات، والمؤمَّل غيب، ولك الساعة التي أنت فيها!
وقول الآخر:
دع المقادير تجري في أعنتها ولا تبيـتنَّ إلا خاليَ البال
ما بين غمضة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال
وإذا كانت هذه الفلسفة جنبته العقد النفسية التي يُمنى بها المخفقون في الحياة، وهو أثر حسن من آثار الزهد والرضا بالقضاء والقدر، فقد جرته إلى عقيدة جبرية، سلبته الإرادة، وجعلته ينتظر -من غير سعي منه- أن يُؤتَى بما يهوى، من غير عناء، وسلبته روح التدبير والمبادرة، وإنما يعيش في كل لحظة بما تأتي به، أما غده فسيأتي بعُدَّته، كما جاء بها أمسه. ومن مظاهر هذا أنك تراه يتزوج وهو لا يملك قوت يومه، عابرَ سبيل، وطالبا معدَما، ثم يترك لكل أرض ما تلد، ولا يفكر في تحمل شيء من أمر من ترك.
- التعلق بقشور الحياة المدنية، والعجز عن النفاذ إلى جوهرها. فالبادي أبدا عاجز -لبساطة تفكيره- عن التفكير خارج المعهود، وتتحكم فيه ذهنية المألوف والعادة، وإذا أعجبه ظاهر الشيء كلِف به عن غير بصيرة، كما يكلَف الصبي باللعبة، يخيل إليه أنها من عالم الواقع. ويظهر هذا في التعطش إلى استهلاك منتجات المدنية، حتى الرديء منها، لأنه ما يميزه من غير الرديء. وتُرى آثار هذا في كَلَف الشباب والنساء بمظاهر الحياة الفارغة، والإيهام، والتعالم، والثقافة اللفظية، إلخ. وهي ظاهرة في الشعوب المنهزمة كلها، وأكثر الشعوب عرضة للهزيمة، وأقلها حصانة من ثقافة الغالب الشعوب البادية. والمقلد الساذج إذا حاكى عمد إلى اليسير؛ لأنه لا يُعْجز أحدا، كما فعل العرب في محاكاتهم للغرب، كما قال نزار قباني:
خلاصة القضية
توجز في عبارة:
لقد لبسنا قشرة الحضارة
والروح جاهلية!
- الاتباعية؛ فحياة البداوة قائمة على النمطية، وتقليد الأسلاف، وتسيِّرها الطبيعة، كما تسير غيرها من الأحياء. وهذا سبب ما بين حياة الشناقطة وحياة العرب في الجاهلية من شبه، على بعْد العهد، وشحْط الدار. ومن سلبيات الاتباعية في الاجتماع توريث الأبناء العداوات، كما يورثون الأخلاق والصفات، فترى الحروب التي انتهت منذ مئات السنين تعيش في القلوب، كأنما حدثت أمس، تصاغ عليها النفسيات والأمزجة، فيعادي المرء من لا يعاديه، ويكيد من لا يكيده، ويتحين الفرص أبدا للثأر منه بكل وسيلة، وتحكم علاقته بغيره المخاوف والتوجس، وعدم الثقة، وتفسير كل قول أو عمل على ضوء تلك الثقافة الموروثة.
ومن آثارها في العلم والأدب اختزال الذكاء في الذواكر، وغياب النقد، وندرة المجتهدين، مع وفرة ما يستظهر علماء الشناقطة. فالعالم منهم يتقبل الخرافة والأسطورة، ويحفظ الخبر والقصة يأباهما العقل، وهو يرى صحتهما، ويحفظ الأقوال المتناقضة يسلِّم بها جميعا، على تناقضها، ويحفظ الشعر المصنوع السقيم، يتعنَّى في حفظه، كما يحفظ الشعر البديع، لا يميز هذا من ذاك. ولما كان جل الشعراء من العلماء، وكان جل ما يحفظ العلماء إنما هو الشعر الذي قيل في عصور الاحتجاج، كان أكثر ما قالوا على شاكلة ما حفظوا من الشعر الجاهلي، فإن تنزلوا عن الجاهلية قليلا لم يتجاوزوا الشعر الأموي. مع أن شعر هذه الحقبة -وإن كان أصح الشعر لغة- ليس أمثله من الناحية الفنية، وإنما أمثله ما قيل في العصر العباسي، قبل القرن السادس الهجري، وقد فاتهم بالإعراض عنه ما أبدع بشار، وأبو نواس، وأبو تمام، ومسلم بن الوليد، وابن الرومي، والمتنبي، والشريف الرضي، ومن شاكلهم من الشعراء الذين قالوا ما لم يسبقهم إليه عربي. ومن خرج منهم عن النمط الجاهلي كَلِفَ بالسمِج من الصنعة اللفظية، على طريقة المتأخرين. وحصروا همهم في التقليد، فلم يقولوا إلا ما قد قيل، وإذا قرأ المرء ديوان الشاعر الشنقيطي لم يجد فيه سوى ذاكرة تلفِّق.
- الارتجال: فحياة البادية قائم جلها على التلقائية والارتجال، بخلاف حياة الحضارة القائمة على التأنق والروية والتخير، التي تبلغ بها من كنه الأشياء ما لا تبلغ البداوة، وتأتي من الغريب البديع المعجب بما لا يخطر للبادية ببال. وقد آنس اللغويون الفرق بين شعراء البادية، ولا سيما الجاهليين، والشعراء المولدين، فكانوا يقبلون من البداة ما لا يقبلون من المولدين؛ لأن أولئك لا يتخيرون، ويتخير هؤلاء. وكان الجاحظ فضَّل العرب على الفرس بأنهم أصحاب بديهة وارتجال، "وفي الفرس خطباء، إلا أن كل كلام للفرس، وكل معنى للعجم، فإنما هو عن طول فكرة، وعن اجتهاد وخلوة، وعن مشاورة ومعاونة، وعن طول التفكر، ودراسة الكتب، وحكاية الثاني علْم الأول، وزيادة الثالث في علم الثاني، حتى اجتمعت ثمار تلك الفكر عند آخرهم. وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة، ولا إجالة فكرة، ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف وهمه ... إلى جملة المذهب وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني أرسالا، وتنثال عليه الألفاظ انثيالا".
وقد رأيت الشناقطة إلى البديهة والارتجال أميل منهم إلى الروية والصنعة، ويرون ذلك أدل على العبقرية، فمن ثَم يؤثر طلابهم في تقديم أطروحاتهم الجامعية أن يحفظوا مقدمات يكتبونها، ليظهر أنهم يرتجلونها أمام الحاضرين، على أن يقرؤوها من ورق، كما يفعل غيرهم من الطلاب. وإذا كانت البديهة والقدرة على الارتجال تدلان على طبع وموهبة، فإن الطبع والموهبة لا تستوجبان أن يكون نتاجهما خيرا من نتاج العبقرية المتئدة. وليس يخفى على أحد أن أبلغ خطب العرب لا يقع قريبا مما كتب ابن المقفع، في سداده وعمق نظره، ووفرة عقله، وحسن ترتيبه، وإن اشتملت الخطبة العربية على أمثال وحكم، ينثرها الخطيب نثرا، من غير أن يكون لبعضها قران، كما يعلم كل ناقد فضيلة شعر زهير والحطيئة على سائر الشعر الجاهلي، وفضيلة شعر أبي تمام وابن الرومي والمتنبي على سائر شعر العرب، كما يكفي أن تقارن مقالة مترجمة لمفكر غربي بخطبة جاهلية، ليعلم الفرق بين البديهة والارتجال، والروية والصنعة.
ومن تفضيل الشناقطة للارتجال على الروية أن ترى خطباء الجمعة في موريتانية يأنفون من الخطب المكتوبة، ويؤثرون عليها ارتجال، غير أنك تخرج من خطبهم لا تدري ما قال أحدهم، ولا ما كان يريد أن يقول، مع أنه لم يقل إلا معادا من القول مكرورا، أمضى فيه مدة تتقاذفه محفوظاته حتى فرغ مما استحضر منها، لم يقل شيئا. وترى الخطيب الذي يعد خطبته، ويلقيها قراءة قد رتب أفكاره، ونظم حججه، واستحضر شواهده وأمثلته، ثم تفرغ لتنميق إلقائه، وتنغيم صوته، لا يشغله استحضار فكرة أو نص، يتكلف استحضارهما، فقد جمع من ذلك ما يريد، فلم يبق له إلا أن ينصرف إلى التفنن في الإلقاء، وهي في الحالين خطبته، وأفكاره، كتبها أو ارتجلها. ولكنه أفاد السامع ما لم يفده المرتجل.
أما بعد، فهل إلى خروج من البداوة من سبيل؟ ذلك ما كتبت هذه المقالة من أجله. نعم، سبيل الخروج منها الخلطة، والقراءة الناقدة المفكرة التي تبني العقل المستقل، فطول الخلطة يورث ثقافة جديدة تتسرب إلى النفس بتؤدة، حتى تغلب على الثقافة الأولى، فتنسخها، والقراءة تدل القارئ على المثل، وتقيمها في عقله، وتعلق بها قلبه، وتعلق الشيء يورث الرغبة في احتذائها. فمن أعياه أن يسلك بنفسه مسلكا يخرجه مما لا يرضى، فليعن بنيه، فقد يكون الخروج عليهم أسهل، وهو أضعف الإيمان.


([1]) مقدمة ابن خلدون، 120.

([2]) التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور، الطبعة التونسية، 13/ 58.

([3]) المقدمة، 149.

([4]) البيان والتبيين، 1/ 337.




ثانيا : نحن والبداوة : أبو أشرف


نحن والبداوة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله :
وصلتني عبر مجموعة الدكتور عبد العزيز قاسم البريدية،كلمة كتبها أخي الدكتور مختار الغوث،تحت عنوان : (البداوة وأثرها في حياة الشناقطة).
قرأت الكلمة،كما قرأها أخوين لي – الدكتور ناجي حين،والدكتور أحمد عبوده – للأسف أننا لم نجر نقاشا حول الكلمة،ولكن أحد أخوي علق بكلمة تشي بموافقته على الأفكار التي تضمنتها الكلمة،بينما علق الآخر بكلمة تدل على أنه يتحفظ على بعض ما جاء فيها.
كثيرا ما أقف حائرا أمام بعض قناعاتي،على طريقة (النفس تطمع والأسباب عاجزة / والنفس تهلك بين العجز والطمع).
قناعتي أن الحضارات تقوم على (تدافع الأفكار) – مع حفظ مقام "الثوابت" – وبناء على ذلك لا يمكن لمجتمع أن يتغير ومثقفوه يعبرون عن آرائهم – وهذه ليست إشارة إلى الدكتورين الحبيبين – بتعليق موجز ينم عن الرضا،أو الاكتفاء بأن يشيح (يشير) الشخص بيده قائلا : (أح)!! انطلاقا من هذه القناعة كان عليّ أن أكتب وجهة نظري في كلمة أخي الدكتور (مختار).
أولا : لا بد أن أحيي أخي الدكتور مختار على هذه المقالة التي تخالف (المألوف) في ثقافتنا،أي تمجيد الذات،الذي قد يتجاوز الحد أحيانا!!
ثانيا : يقول "زرق العيون" أن الشيطان يكمن في التفاصيل،وهي "حكمة"نحن أحق بها،لنطبقها على هذه المقالة التي بين أيدينا،فنحن نتفق مع مجمل الفكرة،أي أثر البداوة على المجتمع الشنقيطي،ولكننا نختلف مع بعض تفاصيل الفكرة،وسوف نشير – مجرد إشارة – إلى بعض الملاحظات :
1- في تصوري أن هذه المقالة تصلح أن تكون نواة لكتاب،يحيط بتفاصيل الفكرة وتفرعاتها. ولو أن كل من قرأ مقالة الدكتور مختار،كتب وجهة نظره،مؤيدا،أو مختلفا،أو متحفظا على بعض ما جاء فيها،لوجدنا حزمة من الأفكار،تضاف إلى الكتاب أو تغني عنه.
2- أعترف بأن كثيرا من السلبيات التي ذكرها الدكتور موجودة في مجتمعنا،وفي كل مجتمع (بدوي) أو (قبلي). إذا تخلصنا من فكر البداوة،هل يقضي على ذلك سلبيات (القبلية) – وشقيقتها "الجهوية" – بمعنى آخر هل يمكن التخلص من فكر البداوة،والحفاظ على (القبلية)،بجانبها الإيجابي؟ أم أننا أمام دعوة لتفكيك القبلية؟
3- إذا أردنا أن ننظر حولنا فسوف نجد أن المجتمع المصري وهو أحد أعرق المجتمعات العربية في الحضارة،كان ينظر باستنقاص للقادمين إليه من الخارج،للدراسة في الأزهر مثلا،وكان يطلق عليهم (المجاورين)،كما توجد تسمية أخرى للمصريين غير (الأقحاح)،وهي ( البزر ميط). من المصادفات أن رسالة وصلتني – هذا الأسبوع. منتصف شهر صفر الخير 1431هـ - من مجموعة الدكتور عبد العزيز قاسم،يدعو صاحبها إلى إصلاح المجتمع السعودي عبر حل إشكال (خضيري)،وهو مصلح استنقاص يطلقه أهل نجد على كل من قدم إليهم من خارج نجد – وقد ذكر الشيخ أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري،أن نسب أسرتهم يعود إلى الأنصار،وأنهم استقروا في نجد قبل أكثر من قرنين،ومع ذلك فهم واقعون تحت مسمى "خضيري" – مهما كانت عراقة أصولهم. لكي لا نطيل،فإن مشكلتنا – كشناقطة – لا تخصنا بمفردنا فهي مشكلة تبدو متجذرة في هذه الأمة. نستطيع أن نضيف - في الهامش – أن الدول التي فككت (القبلية)،لم تتخلص من كل عيوبها. فقد نشأت (قبائل) أخر : (آل الدولار) و (آل اليورو) و (آل المليم )،وأبناء القبيلة الأخيرة ليسوا (أكفاء) لبنات القبيلتين الأوليين!! طبعا الأنموذج المقابل،أو المناقض،هو (الفردية) الغربية .. القاتلة... أو قيم (الإسلام)،ولعل كل واحد منا يستطيع أن يسأل نفسه : هل أنا "امرأ فيّ جاهلية"؟!! ثم يتعجب – ما شاء له التعجب – من القيم التي نؤمن بها،وما نطبقه على أرض الواقع.