تحرير العلم من سجن الأيديولوجيا
أحمد أبو رتيمة ـــــ كاتب فلسطيني من غزة
يؤمن العلم بالتفكير الحر والتساؤل في كل الاتجاهات، ويُخضع كل دعوى للبحث والتمحيص، وهو يتجرد للحقائق وحدها وليس معنياً بإثبات أحكام مسبقة، ولا يعترف بخطوط حمراء يمنع على العقل الاقتراب منها، والمسلمات بدورها ينبغي أن تُراجع باستمرار بحثاً عن نتائج أفضل، في المقابل تفرض الأيديولوجيا قيوداً على العقل بأحكامها الشـموليـة التي تُقدم تفسـيراً جاهزاً لكل جوانب الحياة، وهي تُقدم هذه الأحكام على هيئـة قالب جامد من المعتقدات لا يحتمل المناقشـة والنقد، وتسـعى لتطويع أي حقيقـة علميـة في الاتجاه الذي يخدم أحكامها المسـبقـة؛ مما يعني أن الأيديولوجيا تضع النتائج التي يفترض أن يصل البحث العلمي مسبقاً ثم تلوي أعناق الحقائق وتطوعها حتى لا تخرج نتائج البحث العلمي عن المسار المفروض عليها..
للوهلـة الأولى يظن المتدينون أن نقد الأيديولوجيا هو نقد للدين، وبصراحـة فلو كان الدين كذلك لكان جديراً بالنقد لأن العقل العلمي لا يمكن أن يعمل إلا في أجواء الحريـة والانطلاق الكامل في البحث والتسـاؤل، لكن نظرةً متعمقـةً إلى طبيعـة الرسـالـة القرآنيـة يُثبت أن مفهوم الدين لا يتفق مع مفهوم الأيديولوجيا الجامدة؛ إذ إن القرآن لا يُقدم مجموعـةً من المعتقدات الجاهزة التي يحظر على المرء مناقشـتها، بل إنـه يفتح الباب أمام المحاورة العقليـة ثم يُقدم اسـتنتاجات علميـةً مدعمـةً بالبرهان:(((قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)))، (((ومن يدعُ مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند الله)))، ومادام بناء الحقائق القرآنية مستنداً على البرهان فإن هذه سِمة العلم لا الأيديولوجيا، ولن يكون المؤمن بعد ذلك خائفاً من مناقشة أي مسألة بالبرهان مادام القرآن قد رضي بالاحتكام إليه حتى في القضايا الوجودية الكبرى: (((قالوا اتخذ الله ولداً سبحانه هو الغني إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون))) أي أن مشكلة قولهم باتخاذ الله ولداً أنه لم يكن قولاً علمياً لذلك فالقرآن يُطالبهم بالإتيان بالدليل الذي يُثبت قولهم إن كان عندهم!!
هناك مثل تقليدي يُبرز مشكلة إقحام الأيديولوجيا في العلم وهو الموقف من نظرية التطور؛ ففريق كبير من المتدينين يُسارع إلى رفض هذه النظرية لما يظهر من تعارض ظاهري بينها وبين نصوص خلق آدم في القرآن، والمشـكلـة ليسـت في رفض النظريـة أو تأييدها فهي في نهايـة المطاف مادة للمناقشـة وليسـت صنماً يحرم المسـاس بـه، لكن المشكلة هي في منطلقات رفضها حين نُسارع إلى ردها لاعتبارات أيديولوجية وليست علميةً مما يعني أنه صار للأيديولوجيا سلطان قاهر على البحث العلمي.
السـعي إلى إبطال نظريـة التطور عبر اسـتحضار النصوص الدينيـة يوقع أصحابـه في خطأ منهجي فادح وهو أنهم يحرفون القرآن عن وجهتـه، هناك حقيقـة بسـيطـة تقول إن القرآن لم يأتِ ليُقدم حقائق علميـةً تفصيليـةً فهو كتاب هدىً ورحمـة وشـفاء لما في الصدور أي أنـه ذو طبيعـة روحيـة، وحين يتطرق إلى القضايا العلميـة فهو يُعالجها من زاويـة مختلفـة عن الزاويـة التي يُعالجها منها العلم.. العلم يسـعى ليُجيب على سـؤال: كيف؟ بينما القرآن يُقدم إجابـةً على سـؤال: لماذا؟ العلم يُفصل لنا كيف تتكون السُـحب وتهب الرياح والقرآن يذكر لنا أن تكون السُـحب وإرسـال الرياح هو آيـة من آيات رحمـة الله.. العلم يرصد التسـلسـل التاريخي للأحداث الذي قاد إلى سـقوط الإمبراطوريات، بينما القرآن يُقدم الخلاصـة الروحيـة وهي أن تلك الإمبراطوريات زالت بسـبب ظلمها دون أن يكون معنياً بالتفاصيل الظرفيـة الدقيقـة لتلك الأحداث.
بنفس المنهج فإن القرآن حين يتطرق إلى خلق آدم فإنه لا يتناول المسألة من زاوية التفاصيل العلمية فهو يتحدث عن تكريم آدم والنفخ فيه من روحه وسجود الملائكة له وتسخير ما في السماوات وما في الأرض له وتفضيله على كثير ممن خلق تفضيلاً.. التكريم والتسخير وسجود الملائكة هي قضايا روحية مختلفة عن اهتمام العلم..
نظرية التطور تتناول ميداناً مختلفاً فهي تحاول فهم كيف نشأت الكائنات الحية عبر افتراض وجود سلم للتطور يقف على رأسه الإنسان.. كل ما يُخبرنا به القرآن هو أن آدم في مرحلة تاريخية ما تم اصطفاؤه والنفخ فيه من روح الله وأُمرت الملائكة بالسجود له، كما أنه يُخبرنا أنه بدأ خلق آدم من طين، أما ما حدث بين الطين وسجود الملائكة فيقف بينهما حرف العطف "ثم" الذي لا نستطيع تقدير مدته الزمنية فقد تحتمل "ثم" في الميزان الإلهي ملايين السنين وما يُدرينا!!
لذلك فإن النص القرآني يقف محايداً من العلم التجريبي، فللعلم أن ينطلق إلى آخر مدىً وأن يضع ما يرتئيه من فرضيات ونظريات دون طابو من رجال الدين وفي النهاية مهما وصل العلم إليه من حقائق فإن هذه الحقائق ستظل متعلقةً بـ "كيف" ولن يكون فيها ما ينقض "لماذا" التي هي اختصاص القرآن..
إن حقيقة أن الله على كل شيء قدير لن تتأثر بنتيجة البحث العلمي إن خلصت إلى نظرية التطور أو نظرية أخرى، ففي جميع الأحوال فإن التفسير العلمي يُقدم الكيفية لقدرة الله تعالى ولا يُناقش المبدأ الإيماني..
هناك بعض المُحدثين يرون وجود إشارات قرآنية قوية تدعم نظرية التطور مثل حديث الملائكة (((أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء))) وما قد يعنيه ذلك من وجود إنسان سابق لآدم رأته الملائكة يسفك الدماء فخافت أن يظل آدم على سيرته، وكذلك حديث القرآن عن خلق الأطوار: (((وقد خلقكم أطواراً)))، لكني رغم هذه الإشارات لست متحمساً لمحاولة إثبات أي دعوىً علمية أو عكسها من نصوص القرآن لأن القرآن ذاته يأمرنا بالسير في الأرض لا بالبحث فيه لفهم الحقائق العلمية: (((قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق)))، (((سنُريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق))).
الآيات القرآنيـة التي تذكر تفاصيل علميـةً غالباً ما تأتي بدلالات ظنيـة تحتمل تعدد الأفهام، وهو ما يجعل من تبني نظريـة علميـة محددة لإثبات الإيمان مغامرةً غير مأمونـة العواقب لأن العلم لا يعرف التوقف بل هو دائم الحذف والإضافـة، لذلك فإن البحث العلمي متروك للسـير في الأرض والتنقيب في الآثار.
قال لي أحدهم فرحاً: لكن العلماء أنفسهم قد أبطلوا نظرية التطور، وهاك تقرير من الجزيرة يُثبت فشل نظرية (دارون)! قلت له دون أن أشاهد التقرير: لا يعنيني سقوط النظرية أو علوها فهي في النهاية نظرية، ولو كنت مهتماً ببقائها أكثر من اهتمامي بالحقيقة فهذا يعني أن النظرية العلمية تحوَّلت إلى أيديولوجيا جديدة لا تقل سوءً عن الأيديولوجيا التقليدية التي نرفضها، لكن ما لي أراك فرحاً تتلقف أي خبر فيه شُبهة تفنيد نظرية علمية، هل هذا موقف علمي أم موقف أيديولوجي!؟ يا سيدي فلتسقط النظرية ما المشكلة!؟ لكن من له الحق في محاكمتها هم أهل الاختصاص وليس أنا أو أنت.. حسـناً فلنبحث في الأرض ولنجمع بقايا الهياكل العظيمـة ولنُنشـئ مختبرات متخصصـةً لتحليل النتائج ثم لنُعلن على أسـماع العالم فشـل النظريـة ولنُقدم تفسـيراً علمياً جديداً..
لا أُناقـش نظريـة التطور بقدر ما أُناقـش منهجاً عاماً، يتمثل في أن طريق البحث العلمي المسـتندة إلى التجربـة والبرهان هي الطريقـة الآمنـة للتوصل إلى الحقائق العلميـة وكل ما عدا ذلك فهو خرص ورجم بالغيب، ولا يمكن لطريق العلم أن تقود صاحبها إلى الضلال، فالضلال كل الضلال هو في مجانبـة المنهج العلمي واتباع الظن والأوهام.