نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


أيام في سويسرا



محمد موسى الشريف
د. محمد بن موسى الشريف
كنت في زيارة لسويسرا لحضور مؤتمر إسلامي، والتقيت بعض الإخوة هناك الذين أحسنوا استقبالي جزاهم الله خيراً، وأكرموا وفادتي، وتحدثت معهم في مواضيع شتى، لكن الموضوع المهم الذي أود نقله إلى القراء الكرام لما فيه من عبرة وعظة هو: قصة مؤلمة تحكي معاناة الإخوة الدعاة الفارين من ليبيا وتونس عبر البحر إلى بلدان أوروبا.

وأصدقكم القول: إن هذه القصة لما سمعتها شغلتني عن ملاحظة الجمال الرائع الذي حبا الله تعالى به هذا البلد، ذلك أنني سمعتها وأنا مسافر من جنيف إلى زيورخ، فأنساني همُّ القصة كل شيء، وشغلني عن كل شيء، وملخص القصة أنه في مايو 1998م كانت هناك أحداث في ليبيا أدت إلى تعقب الحكومة لبعض الأشخاص، وقبض على كثير من الدعاة، وزُج بهم في السجون، وهناك آخرون استطاعوا أن يخرجوا من البلاد فراراً بدينهم من الأوضاع الجائرة، ومن جملتهم أحد الأشخاص، وإليكم قصته التي أنقلها عمن سمعه يقصها:


إكرام إلهي


استطاع هذا الأخ أن يجدد جوازه بطريقة عجيبة فيها إكرام إلهي له، وخرج إلى تونس، فبقي فيها شهرين، ثم ذهب إلى مالطا ومكث فيها أسبوعين، وضاقت عليه الأرض فلم يدر أين يذهب، إذ الدول الأوروبية ترفض استقباله هو وإخوانه، وضيق عليهم الأمن المالطي فشعر هو ومجموعته (5 أشخاص) أنهم لابد أن يتصرفوا، وفي بداية شهر أغسطس خرجوا من مالطا إلى إيطاليا، فخرجوا من فندق في مالطا الساعة 11ليلاً، وجاء مهرب تونسي فأخذهم في حافلة ففوجئوا بتسعة آخرين جمعهم بهم المهرب من تونس والمغرب وإفريقيا، ولفت نظرهم وجود تونسي عمره ستون سنة هارب، فوصلوا شاطئ البحر منتصف الليل، وركبوا قارب صيد من أحد موانئ مالطا، وكان القارب من طابقين وضع قائد القارب بعض الركاب فوق وآخرين أسفل، فوصلوا إلى إيطاليا بعد ساعة ونصف تقريباً، والمسافة تسعون ميلاً والقارب خفيف سريع، وكان توقع الأخ ومجموعته أن يُعتقلوا أو يغرقوا، لكنهم حفظهم الله تعالى بقراءة القرآن.
السير في الغابات: وكان من المقرر أن يبيتوا ليلتهم على الشاطئ، لكن بعض الإخوة خالفوا الأمر فاضطروا للسير ليلاً، ولو باتوا ومشوا نهاراً لكان أفضل حتى يظهر أنهم سائحون لكن هكذا قدر، وصاروا يسيرون في غابات القصب وسط المزارع على شاطئ البحر، وتنبحهم الكلاب، وصاروا يبحثون عن منطقة فيها أنوار ليتوجهوا إليها، ومشوا من الثانية إلا ربعاً إلى السابعة صباحاً، وكانوا يمشون على عجل، ثم افترقوا مجموعتين (3+2) حتى إن قبض عليهم لا يقبض عليهم مجتمعين، واتفقوا على اللقاء في منطقة محددة، وساروا فقبضت الشرطة على مجموعة، ثم عادت لتقبض على المجموعة الأخرى التي فيها صاحبنا الذي نتحدث عنه، فسلموهم جميعاً إلى قسم الشرطة الذي عاملهم معاملة إنسانية لطيفة، وسألوهم عن الأوراق الثبوتية؟ قالوا: ليس عندنا أوراق، وسألوهم عن جنسياتهم فقالوا: تونسيون ولم يقولوا: ليبيون؛ لأن علاقات ليبيا مع إيطاليا كانت جيدة آنذاك، وعلاقتها مع تونس متوترة، وكان يمكن أن يسلموا لو قالوا: ليبيون. وبدأ التحقيق، وكان هم الشرطة أن يعرفوا من أين جاؤوا، فقالوا: من اليونان حتى يحفظوا خط التهريب من مالطا فلا يفتضح حتى يستفاد منه بعد ذلك، وأتوا لهم بخبير مجري يسألهم، ويتأكد من كلامهم فاستبعدوا مسألة اليونان، وطلبوا منهم أن يخبروهم عن المنطقة التي أتوا منها فرفضوا أن يخبروهم أنها عن طريق مالطا.
وتعرض الإخوة بعد ذلك لأخذ البصمات، ثم أُخذوا إلى مكان حجز اللاجئين الذي كان ممتلئاً بمئات العرب، حتى إنهم لم يجدوا مكاناً لهم، فجهزوا مكتباً من مكاتبهم بأسرَّة ووضعوهم الخمسة منفردين.
وفي اليوم التالي ذهبوا بهم إلى شرطة الأجانب، وحقق معهم خبراء مختصون، واستطاع المحققون بأساليبهم أن ينتزعوا منهم الاعتراف بأنهم ليبيون، حيث طلبوا منهم أن يرسموا علم تونس، وسألوهم عن أماكن في تونس فأسقط في أيدي الإخوة واعترفوا بأنهم ليبيون. والعجيب أنهم بعد اعترافهم بأنهم ليبيون صارت المعاملة أفضل حيث قالوا لهم: نحن لا نحب القذافي، ثم سألوهم بعض الأسئلة عن القاعدة وابن لادن فأكد هذا الأخ معرفته بهما، وكان صادقاً كما ذكر لي، فلم يكن يعرف حقيقة أي شيء عن ابن لادن أو القاعدة، ثم سألوه معلومات عن بلده فلم يخبرهم وقال: أنا عندي مشكلة مع القذافي وليس مع بلادي.
ثم وضعوهم في حجرة منفردة وأكرموهم، ومكثوا سبعة أيام، ثم حولوا ملفهم إلى القاضي، وكان هذا إكراماً من الله لأن القاضي عادة لا يقابله اللاجئون إلا بعد 3 أشهر.
القاضي أخبرهم أنه سيعيدهم إلى ليبيا فقالوا: إن أعدتنا أُعدمنا، فأنهى القاضي معاملتهم ونقلهم إلى القاضي الأعلى بعد معاملة حسنة، ثم سأل القاضي الآخر صاحبنا: ماذا تطلب من الحكومة الإيطالية؟ فقال: أنا عندي مشكلة مع النظام الليبي وأطلب أن تلحقوا أولادي وأهلي بي، وسألهم: هل ستعملون في إيطاليا؟ قالوا: نعم، فوعدهم خيراً، ووضعوهم في (فيلا) راقية في منطقة سارا جوزا، ووضعوهم مع مجموعة من الكشميريين من الجماعة الإسلامية، وأعطوهم بطاقة يستطيعون بها التجول في إيطاليا كلها، ونشر خبرهم في الصحافة الإيطالية، ونزلوا السوق ورجعوا ليجدوا أن الجيران بعد أن علموا بأمرهم أرسلوا لهم بيتزا طولها متران إكراماً لهم، وكانت الحكومة تأتيهم بكل احتياجاتهم إلى المنزل!
وكان الذي يأتيهم بالطعام يقول لهم: امشوا إلى الشمال فهنا لن تجدوا عملاً، وكأنه يشير عليهم بالخروج إلى سويسرا، فخرجوا من سارا جوزا إلى ميلانو بالقطار لمدة ست عشرة ساعة، ثم ذهبوا إلى منطقة (كومو) في أقصى شمال إيطاليا، حيث التقوا بمجموعة إخوة آخرين قبض عليهم أيضاً وعوملوا مثل معاملتهم (3 أشخاص) ليصير العدد ثمانية، فركبوا سيارة من ( كومو) ليأخذهم المهرب، ثم التقى بهم تونسي من جماعة (النهضة) هارب أيضاً فصاروا تسعة، ثم جاء رجل من أوروبا الشرقية وزوجه ليصيروا أحد عشر، في سيارتين، ثم ركبوا في (فان) بدون كراسي وكانوا ستة عشر شخصاً، ثم أخذتهم السيارة إلى قمة الجبل في الحدود، ثم أخذوا في المشي ليلاً مع دليلهم المهرب إلى سويسرا، وكان شاباً رياضياً قوي الجسد، أوروبياً، ويمشون على حافة الجبل فزلقت رِجْل المرأة وأمسكها أحد الدكاترة الليبيين وأنقذها من الموت، والمطر يصب عليهم، وكانوا يدعون الله تعالى أن ينجيهم من الخوف والمطر والبرد، فمشوا قرابة أربع ساعات، ثم جاءت السيارة نفسها لتوصلهم إلى منطقة (لوجانو) السويسرية.
وكان قد حجز لهم إخوانهم في سويسرا في فندق، وأتوا لهم بملابس ونقود لحجز التذاكر في القطار إلى زيورخ (خمسة أشخاص) وقدموا طلب اللجوء في منطقة تسمى (كروس لنجن) على الحدود الألمانية، وأتى لهم إخوانهم بجوازات سفرهم التي تركوها في مالطا، ومكثوا في مقر اللجوء أسبوعين في معاملة قاسية (بالنسبة إلى إيطاليا ومعاملة الشرطة فيها) وكان المقر ممتلئاً، فصاروا يدعون الناس إلى الصلاة ويحاورونهم؛ حيث كان للأسف المسلمون المحجوزون لا يصلون، وكان الإخوة يقرؤون القرآن ويدعون الآخرين، ثم اختار السويسريون بعد التحقيق المبدئي اثنين للإقامة في (زيورخ) وثلاثة آخرين الإقامة في مكان آخر، فتوجهوا إلى مركز اللجوء في (زيورخ) ومكثوا فيه أربعة أشهر، ثم حققوا معهما في كانتون (زيورخ) والكانتون منطقة وهو التحقيق الثاني، ثم نقلوا الأخ صاحب القصة إلى منطقة ثالثة، ليمنح حق اللجوء السياسي في سويسرا ويقيم في ( زيورخ). انتهى كلام الأخ.
وهذه القصة الأليمة تتكرر مراراً مع إخواننا في تونس وليبيا خاصة، وعدد كبير من الفارين يموت غرقاً في البحر، وهذه فتنة عظيمة يضيق بها صدر المؤمن؛ حيث لا يجد ملجأً في بلده فيلجأ إلى بلاد الكفار ليجد المنعة والإكرام. فرحماك يا رب واقشع بفضلك وكرمك عن عبادك هذه الغمة، وأرجعهم إلى بلادهم سالمين آمنين، وارض عنهم يا رب العالمين، وأزح عنهم الحكام الطغاة، والظلمة الجفاة، وأرجع يا رب تلك الديار إلى حكم الإسلام الذي نعمت به طويلاً، واستضاءت به قروناً. آمين.