الميثيولوجيا اليونانية..
الأساطير التي نصدقها حتى الآنكتب (برنارد إيفسلين 1922-1993) الرواية والسيناريو، واشتغل في الإخراج المسرحي، قبل أن يتخصص في الميثيولوجيا اليونانية، لهذا تناول الأساطير وعالجها في كتابه الأكثر شهرة (أبطال وآلهة ووحوش) بطريقة درامية، وهذا كان السبب الأول وراء رواج كتابه، فقد تلقفه القراء على اختلاف ثقافاتهم ومستوياتهم التعليمية. فالأسطورة مكتوبة كحكاية ممتعة جميلة لا تخلو من العبرة والفائدة، والكتاب- بحسب الأديب الأستاذ (حنا عبود) مترجم الكتاب- (ليس كتاب معلومات عن الأساطير الإغريقية، وليس كتابا شاملا مثل موسوعة بولفينتش الميثيولوجية، وإنما هو اختيار غرضه عرض الموقف اليوناني من العالم الفوقي والعالم السفلي والزراعية والصناعية والقوانين والشرائع والفن والأدب والفلسفة وعلم النفس والشعر والغناء والموسيقا والطب والرياضة).
يقول المؤلف:«إن الآلهة تخلق الأبطال الخيّرين الذين يحبون المغامرة والصيد والسباحة والركض والطيران والنور»، كما تخلق الوحوش الأشرار الكسالى الذي يقبعون في الكهوف المظلمة، ويختبئون في شقوق الأرض العميقة. ولابد من أن يلتقي الأبطال والوحوش للقتال، الذين ينتهي غالبا بمقتل الوحش وانتصار البطل، وهذا هو صراع عائلي بغض النظر عن الواقعة، فالاثنان قد يعودان بنسبهم إلى الآلهة».
كانت بداية الصراع مع (كرونوس) الذي قتل والده (أورانوس) الذي تنبأ له وهو يحتضر أن أحد أبنائه سيقتله أيضا وستتكرر الجريمة العائلية، لهذا أخذ (كرونوس) يبتلع أولاده، ولكن الابن الموعد (زيوس) نجا بفضل حيلة من أمه، وبذلك تحققت النبوءة، وأصبح (زيوس) بدوره زعيم الآلهة في الأولمب، ولاحقته أيضا نبوءة تقول إنه سيطيح بعرشه أحد أبنائه ويسلبه سلطته إذا حملت منه الآلهة (ميتس) لهذا ابتلعها كما كان يبتلع أبوه أطفاله، مستبقا أي ولادة غير مرغوب بها، ولكن هذه الفعلة لم تمر بسلام، فقد شعر (زيوس) فجأة بألم عظيم في رأسه، ثم تمخض هذا الألم العجيب عن خروج (أثينا) وبهذا الميلاد الغريب انتهت حقبة انقلابات الآلهة، وربما ساعد في ذلك أن المولود أنثى، فالانقلابات كانت ذكورية بامتياز.
ومن غرائب هذه العائلة الإلهية أن (هيرا) زوجة كبير الآلهة (زيوس) أنجبت ولدا قبيحا فلم تشعر نحوه بالحب أو العطف والشفقة، فقذفت به من أعلى جبل الأوليمب حيث تقيم الآلهة دون علم زوجها، ودون الشعور بتأنيب الضمير.
ولكن ذلك الابن التعس لم يمت لأنه من الآلهة كأبويه، فانكسرت ساقاه فقط، ثم جرفه الموج بعيدا، فعثرت عليه (ثيطس) إحدى حوريات البحر، وربته في كهفها.
وكانت لدى هذا الولد البشع موهبة تحويل الأشياء المهملة مثل أصداف وأحجار البحر إلى أشياء جميلة، لهذا أخذت الحورية بعض ما صنعه اللقيط عندما دعيت إلى إحدى الحفلات الكبيرة في الأوليمب، فرأتها (هيرا) وسألتها عن زينتها التي لم تر مثلها من قبل، فأخبرتها بقصة اللقيط الذي لديه قدرات غير بشرية.
أقسمت (هيرا) أن ذلك الطفل الذي يدعى (هيفاستوس) ابنها، ثم أعادته إلى الأوليمب ليصنع لها الحلي. وهنا نجد أن (هيرا) لا تملك عاطفة الأمومة، وأنها في غاية الأنانية ولا يعنيها سوى أن تبدو كأجمل النساء.
وعدت تلك الأم المحبة للتبرج ابنها (هيفاستوس) بأنها ستزوجه بأجمل الربات إذا صنع لها أشياء جميلة لم ترتدها امرأة من قبل. ثم ذهبت إلى زوجها (زيوس) وطلبت منه أن يبحث عن زوج مناسب لـ(أفروديت) لأنه من غير اللائق أن تظل ربة الحب والرغبة دون زوج، فأعلن (زيوس) عن رغبته بالزواج من (افروديت) دون أن يفطن لما تخطط له زوجته الماكرة (هيرا).
أسرع كبار الآلهة في عرض الهدايا العظيمة، بينما كان (هيفاستوس) متواريا خلف الحضور، فقد كان خجلا من مظهره المنفر، فسحبته (هيرا) من مخبئه وقدمته إلى (افروديت) التي قبلته دون أن تتفوه بكلمة. وفي ليلة العرس التي زف فيها أقبح الآلهة من الذكور إلى أجمل الآلهة من النساء حدثت أشياء مشينة حقا، فقد طافت العروس على كل من تقدم لخطبتها وأخبرتهم متى يمكن أن يأتوا إليها فيما بعد وبصحبتهم الهدايا!.
***
نجد مما سبق أن الآلهة اليونانية لا تستطيع القيام بكل ما تريد، وأنها لا تعرف خفايا الأمور، ويمكن خداعها، أو سلبها سلطتها، كما ترتكب الجرائم لنيل مرتبة أعلى، أو إذا تعرضت مصالحها الشخصية للخطر، رغم ذلك لا ينقصها الغرور، وتحرص على الظهور بأبهى زينتها، كما أنها تملك رغبات جامحة لا تستطيع السيطرة عليها، أو هي لا تريد ذلك لأنها تريد المتعة وتسر بها، لهذا تقع في الخطيئة، وترتكب الآثام دون أن يجعلها ذلك تشعر بالعار، أو حتى بالقليل من الحرج، فضلا أنها لا تقدم نفسها كمثل أعلى يجب محاكاته وتقليده.
وهذا ما ساعد على بقاء تلك الأساطير في المخيلة البشرية لآلاف السنين، وجعلها منبعا ثرا للكثير من الأدباء والفنانين في مختلف أنحاء الأرض. فتلك الآلهة ليست في الحقيقة إلا نماذج من البشر، ولكنها تمتلك بعض القدرات الخارقة، وهذا ما جعل حكاياتهم أكثر إثارة ومتعة، فأخذت تنتقل من جيل إلى جيل.
كما نجد أن الفكر الجمعي- بحسب كارل يونغ- هو من صاغ هذه الخيالات على أنها حقيقة، لهذا ظلت متداولة حتى بعد ذهاب العقيدة الوثنية، لأن تلك الشخصيات الأسطورية تفعل الكثير من الأشياء التي يعجز الإنسان عن القيام بها، كما تفسر له الكثير من الظواهر حوله بطريقة مشوقة تثير في نفسه الكثير من المشاعر، بعكس التفسير العلمي المحايد الذي قد يقتل متعة التخيل.
وهنا أذكر العالم الكبير (ألبرت آينشتاين) الذي قال: (الخيال أكثر أهمية من المعرفة، وذلك لأن المعرفة محدودة، أما الخيال فيحيط بالعلم كله).

سامر أنور الشمالي
العنوان: أبطال وآلهة ووحوش

http://www.albaath.news.sy/user/?id=908&a=81518