مرارة التضحية

Bob Herbert



لا يزال يتذكر الرقيب "مايك كروس" تلك الإجازة القصيرة التي عاد فيها للوطن العزيز قادماً من العراق، والتي لم يمضي عليها أمدٌ بعيد. تذكر أنه بينما كان يمشي بين ردهات المطار الجوي مرتدياً بزته الرسمية بَصره مسافرون آخرون، وبادروا بإلقاء التحية عليه. ثم شرد بذهنه قليلاً وقال: "كان أمراً له أثر في النفس". وأضاف "كانوا يصفقون ويهللون، وكان هذا أمراً عظيماً، بيد أنني قلت في أعماق نفسي: "سيسافر هذا الفتى إلى توليدو في رحلة عمل ما، بينما تسافر هذه المرأة جواً لقضاء أجازتها، إنهم يعيشون حياة طبيعة، بينما سأستقل الطائرة للعودة إلى أكثر الأماكن شذوذا على وجه الأرض".

وأوضح الرقيب ذو الأربع والعشرون ربيعاً ما يعنيه بأكثر الأماكن شذوذا عندما وصف أسوأ مهمة كان عليه تنفيذها في العراق، وتحدث بتردد وقال: "لابد أنكم ستلتمسون لي العذر، حيث أن هذا الأمر ليس من السهولة أن أتحدث عنه بهذا الشكل، كان جزء من مهام عملنا أن نُحَمل الجنود، وكان تدور رحى عملنا في المجال الجوي، حيث كنا نُحَمل هؤلاء الأبطال على متن الطائرات الحربية".

وأضاف الرقيب: "كانت الفصيلة التي كنت انتمي إليها لها سياسة واضحة، فكان الرقيب الكبير يرفض انخراط الجنود ذوي الدرجات الدنيا، وأخبرنا: لا أريد أن يفعل الجنود العاديون هذا الأمر، أنتم يا رجال من ستحملون هذا اللواء معكم سواء رضيتم أم أبيتم طوال حياتكم. لو كان في استطاعتي أن أحمي هؤلاء الجند العاديين لفعلت.

لا أدري إن كان في استطاعتي أن أشرح لكم كيف كان ذلك الأمر. قمت بتحميل هؤلاء الشباب على الطائرة، وأعرف أسماءهم بالتمام والكمال، بيد أنكم لا تعرفون كيف يكون ثقل وزن شاب ما عندما يوضع في كيس لحمله، عندما لا يقتصر الأمر على وزنه فقط والذي ربما كان يصل إلى 180 رطلاً عندما تدرك أنك تقوم بتحميل حياته أيضاَ.

وارتاح بال الرقيب "كروس"، الذي خدم في الفرقة 101 المحمولة جواً في الجيش الأمريكي، حيث يعيش في حي هادئ من الأحياء التي تقطنها الطبقة الوسطى، لا يبعد كثيراً عن "فورت كامبل"، والتي تقع على الحدود بين ولايتي "تينيسي" و"كنتاكي". واستلقى "كروس" على ظهره في غرفة المعيشة مرتدياً الجينز وقميص البولو حيث تبدو عليه علامات السعادة بعدما عاد سالماً إلى دياره بعدما حارب في ثلاث ميادين قتالية: واحدة في أفغانستان واثنتان في العراق لمدة عاميين. وخطب "كروس" امرأةً، وسيحصل على درجة علمية قريباً من جامعة "اوستين باي ستات". وستنتهي فترة خدمته الإلزامية العسكرية في غضون بضعة أشهر. وكان "كروس" قد انخرط في العسكرية بعد تخرجه من المدرسة الثانوية في "هانتسفيل".

وعن النسبة الضئيلة من الشعب الأمريكي التي تتحمل عبء الحروب الضروس في العراق وأفغانستان تحدث "كروس" بنبرة انفعالية وضحت في صوته متبنياً اتجاهً معارضاَ لكل الاتجاهات السائدة فقال: "إننا لا محالة مشاركين في التضحية"، وأضاف: "بالأحرى يجب علينا أن نشارك فيها، لأنه بهذه الطريقة فقط سيعتني المجتمع بحق بتطورات الأحداث هنالك".

وأردف "كروس": توجد أقلية صغيرة من العائلات التي جابهت هذا الخطر في الوقت الحاضر، وأستغرِب عندما أرى بعض الناس يقولون أموراً مثل: "نحن فقدنا العديد من الأناس الأخيار هنالك" حيث أغمغم بطريقة تهكمية وأقول: "نحن؟! كيف وأنتم لم تفقدوا فرداً واحداً" وأنتم تعرفون ما أعنيه بالطبع؟".

وهذا هو حال الدنيا، ففي حين أن معظم الأمريكيين أحرار في الذهاب لأعمالهم بصورة يومية غير متضررين من آثار الحروب نجد عشرات الآلاف من الجنود تم إرسالهم إلى جبهات القتال بصورة متكررة. وحسبما أفادت جماعة دعم جنود العراق وأفغانستان التي تتألف من جنود أمريكيين مخضرمين فأن ثلثي الجنود الذين يبلغ عددهم 92.000 قد انتشروا للمرة الثانية على الأقل منذ بداية هذا العام.

وفي السياق نفسه خدم معظم الجنود الأمريكيون أكثر من ثلاث أو أربع مرات في جبهات القتال من أمثال الرقيب "كروس"، مع أنه لا يوجد ثمة مبرر واحد لدولة عظمى وثرية ومتقدمة مثل الولايات المتحدة لكي تلقى بأعباء هذا الحمل المأساوي والثقيل على كاهل حفنة قليلة من الشعب.

وأعرض عليكم صورة من هذا العبء، وهي بالفعل صورة، عرضها عليّ الرقيب "كروس" لجندي يدعي "دينيسزيلسنكي" كان من المفترض أن يكون زوج أخته. وكان "دينيسزيلسنكي" في الثالثة والعشرين ربيعاً، وتخرج من "وست بوينت"، وقال لي لقد لقي حتفه في نوفمبر الماضي مع أربعة جنود آخرين في قنبلة زرعت على حافة الطريق بالقرب من بيجي في العراق.

وقال الرقيب "كروس" رؤية مثل هذا الأسى العميق على وجهَِيّ والدة وخطيبة "دينيسزيلسنكي" يسوق رياح المعنى الحقيقي للتضحية في زمن الحرب إلى الوطن. ومع هذا فإن الرقيب "كروس" فخور جداً بخدمته الإلزامية، ولا زال يحب العسكرية، وأردف قائلاً:"ولكننا دولة في حالة حرب، ويجب أن نكون يداً واحدةً". وقال لو كنت أملك عصى موسى لجعلت الانخراط في الخدمة العسكرية أمراً إلزامياً. وأضاف: "يجب ألا يكون أمر انضمام المرء إلى العسكرية رغماً عن أنفه بيد أنه توجد طرق شتى يقدم المرء خدماته من خلالها للوطن كالعمل لصالح جمعية "اميركورب" أو الصليب الأحمر أو أمن الوطن الداخلي، وذلك لأن هذا العمل يأتي من قبيل المسؤولية الاجتماعية على الفرد لاسيما في زمن الحرب.

صحيفة نيويورك تايمز