أتحفنا الأستاذ الفاضل الدكتور إحسان هندي بمقالة مركزة جيدة الأفكار نشرتها مجلة نهج الإسلام على صحائف عددها ذي الرقم 52 لشهر ذي الحجة الحرام عام {1413} هجري الموافق شهر حزيران عام {1993} ميلادي وإني أشكر الدكتور هندي على جهده الرائع وأسأل الله عز وجل أن يجزيه كل خير على ما قدم من فوائد لا يستهان بها عبر مقالته التي جاءت تحت عنوان " عقد الزواج في الشريعة الإسلامية " وبينما يحدثنا الأستاذ الفاضل عن شروط صحة عقد الزواج يقول في السطرين الآخرين عند شرح الشرط الخامس " عدم المانع ":
" ويضاف إلى النساء المحرمات اللاتي ورد ذكرهن في هذه الآية 23 من سورة النساء المرأة التي يطلقها زوجها ثلاثاً مما يؤدي إلى البينونة الكبرى فلا يحل له العقد عليها من جديد إلا بعد أن تتزوج من غيره ولو لمدة بسيطة " قضية المحلل "(1)
وهنا لي ملاحظة أدلي بها مذكراً ناصحاً عملاً بقول الله عز وجل { فذكر إن نفعت الذكرى}(2) وسأبين عبر ملاحظتي هذه موقف الإسلام من قضية المحلل التي وضعها الدكتور هندي بين قوسين كما هو واضح .

موقف الإسلام من قضية المُحلل :

يقول أستاذنا الفاضل الدكتور عبد الرحمن الصابوني في كتابه شرح قانون الأحوال الشخصية السوري الجزء الأول " الزواج وآثاره " ص 158 :
" ولا خلاف بين فقهاء في تحريم المطلقة ثلاث طلقات بالنسبة لمن طلقها لثبوت حكمها في القرآن الكريم حتى تنكح زوجاً غيره بالشروط الواجبة في عقد الزواج ونسب هذا الكلام إلى فتح القدير الجزء الثالث ص 157.
يقول الله عز وجل { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره فإن طلقها فلا جناح أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله نبينها لقوم يعلمون } (3)
والمتأمل في ألفاظ الآية يدرك ما يلي :
- تحريم المطلقة ثلاثاً على زوجها " فلا تحل له "
- إن الله عز وجل لما أحلها لزوجها الأول جاء ذلك عقب زواج إسلامي مستوف كافة الشروط المطلوبة لعقد الزواج ومن بينها أن يكون العقد مؤبداً ذلك أن التوقيت يفسده .
- أن القرآن الكريم سمى الرجل الذي يتزوج المطلقة ثلاثاً بعد انقضاء عدتها زوجاً لا محللاً { حتى تنكح زوجاً غيره }.
-ينبغي أن تعيش هذه المرأة الحياة الزوجية الجديدة في كنف الزوج الثاني على النحو المعهود وقد يحصل الحمل والولادة في كنفه فإن اختلفا حل الخلاف بينهما في ضوء ما أرشد إليه القرآن الكريم حيث جاء بالتدابير التالية :
1-الوعظ والنصح بإتباع الرفق واللين .
2-الهجر في المضاجع فإن ذلك له أثر لا يخفى في إعادة المرأة إلى الصواب .
3-الضرب غير المبرح حيث لا يراد به الإهانة وإنما التأديب والتقويم .
4-إن لم تجد التدابير السابقة يلجأ هذان الزوجان إلى تحكيم حيث يختار حكم من أهل الزوج وحكم من أهل الزوجة يدرسان الخلاف فإن حل فبها ونعمت .
5-الطلاق هو آخر التدابير ولا يلجأ إليه إلا بعد انغلاق السبل السابقة .
6-إذا طلقت ثلاثاً ثم انقضت عدتها جاز لزوجها الأول أن يعود إليها بعقد ومهر جديدان .
7-فأين مكان المحلل في كل ما سبق ؟ بالطبع لا وجود له إلا في مجتمع الجهلة والعوام.
8-لا يخفى أن التدابير العلاجية السابقة ذكرت عبر سورة النساء في قوله تعالى : { الرجال قوامون على النساء ..واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً إن الله كان عليهن علياً كبيراً وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما إن الله كان عليماً خبيرا }.(4)
9-لا حرج إن عاد الزوج الأول إلى زوجته بعد هذا الزوج الثاني الذي استوفى شروطه وتجرد عن التواطؤ وخلا من شرط التوقيت وانتهى بالطلاق .
10-تقوى الله عز وجل بعد العودة والوقوف عند حدود وعد تجاوزها .
هذا كله مما يدرك لدى المتأمل في الآية الكريمة أساس المسألة وقد جرى فهمها في ضوء غيرها من آيات القرآن الكريم مثل آيتي سورة النساء .
ما سبق بيان لحكم المسألة في ضوء القرآن الكريم والآن نبحث عنها في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نعقب بطائفة من أقوال الصحابة والتابعين والفقهاء من بعدهم.

النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسألة:

1-عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال :" لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلّل له " رواه الحاكم في الصحيح والترمذي وقال : حديث حسن صحيح.
2-روى الإمام أحمد في مسنده والنسائي في سننه بإسناد صحيح الحديث السابق ولفظهما: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة و المستوشمة والواصلة والموصولة والمحلل والمحلّل له وآكل الربا وموكله ".
3-روى الإمام أحمد وأهل السنن كلهم إلا النسائي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه :" لعن المحلل والمحلّل".
4-روى الإمام أحمد بإسناد رجاله كلهم ثقات عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لعن الله المحلل والمحلّل له ".
5-روى ابن ماجدة بإسناد رجاله كلهم موثوقون لم يجرح واحد منهم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أخبركم بالتيس المستعار قالوا بلى يا رسول الله قال : هو المحلل لعن الله المحلل والمحلّل له ".(5)
تلك طائفة من النصوص مروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم عن عدد من الصحابة حتى بالنسبة للحديث الواحد والرواة ثقات كما يشير ابن القيم رحمه الله تعالى .
وبالتأمل في النصوص السابقة ندرك ما يلي :
1-تحريم نكاح التحليل وأن كل من تزوج مطلقة ثلاثاً يقصد تحليلها لزوجها الأول ملعون من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ومثله أيضاً المحلل له إن علم بذلك ورضي به .
2-الإقدام على نكاح التحليل هذا كبيرة من الكبائر لورود اللعن على فاعله ذلك أن اللعن لا يكون إلا على فغل ذنب عظيم . وقد عد الإمام الذهبي رحمه الله هذا الذنب في سلسلة الكبائر في كتابه الموسوم ب" كتاب الكبائر وتبين المحارم " تحقيق وتخريج الأستاذ محيي الدين مستو حفظه الله إذ أورد هذا الذنب في الصحيفة (103) فقال : الكبيرة التاسعة والعشرون المحلل والمحلّل له ثم أورد حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .
هذه طائفة من الحقائق يمكن إدراكها بتأمل بسيط في النصوص السابقة وتنضم إلى مجموعة الحقائق السابقة المدركة من الآية الكريمة فيصبح الحكم بالتحريم مسألة متيقنة بلا مراء.

طائفة من أقوال الصحابة والتابعين في المسألة:

1-من أقوال الصحابة رضي الله عنهم :
- في كتاب المصنف لابن أبي شيبة وسنن الأثرم والأوسط لابن المنذر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال :" لا أوتى بمحلل ولا محلّل له إلا رجمتهما " ولفظ عبد الرزاق وابن المنذر :" لا أوتى بمحلل ولا محلله إلا رجمتهما".
-عن معمر والزهري عن عبد الملك بن المغيرة قال :" سئل ابن عمر رضي الله ا عنهما عن تحليل المرأة لزوجها فقال : ذاك السفاح".
-عن مالك بن حارث عن ابن عباس رضي الله عنهما –وسأله رجل – فقال :" إن عمي طلق امرأته ثلاثاً؟ فقال :إن عمك عصى الله فأندمه وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجاً ،قال : كيف ترى رجل يحللها ، قال : من يخادع الله يخدعه".
-عن سليمان بن يسار قال :" رفع إلى عثمان رضي الله عنه رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها الأول ففرق بينهما وقال : لا ترجع إلا بنكاح رغبة غير دلسة ".
-عن يزيد بن أبي حبيب عن على بن أبي طالب رضي الله عنهما في المحلل:" لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة ولا استهزاء بكتاب الله ".
2-من أقوال التابعين رضي الله عنهم :
- قال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة قال :" إذا نوى الناكح أو المنكح أو المرأة أو أحد منهم التحليل فلا يصلح ".
-أخبرنا ابن جريح قال :" قلت لعطاء : " المحلل عامداً هل عليه عقوبة ؟ قال :" ما علمت وإني لأرى أن يعاقب قال وكلهم مسيئون وإن أعظموا الصداق ".
-أخبرنا ابن جريح قال : " قلت لعطاء:" فطلق المحلل فراجعها زوجها قال يفرق بينهما ".
-قال ابن المنذر وقال إبراهيم النخعي : " إذا كان نية أحد الثلاثة الزوج الأول أو الزوج الآخر أو المرأة : أنه محلل فنكاح الآخر باطل ولا تحل للأول ".
-قال سعيد بن المسيب رحمه الله :" في رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها الأول ولم يشعر بذلك زوجها الأول ولا امرأة قال : " إن كان قد نكحها ليحلها فلا يصلح ذلك لهما ولا تحل له "
-وقال الحسن البصري رحمه الله :" إذا هم أحد الثلاثة بالتحليل فقد أفسد "(6).

نظرة في أقوال الصحابة والتابعين في المسألة :

لدى النظر في هذه الطائفة من أقوال الصحابة والتابعين نجد المعطيات التالية :
-اعتبار التحليل للمطلقة ثلاثاً بزواج موقوت زنى كما في قول سيدنا عمر رضي الله عنه إذ لا يستحق الرجم إلا من زنا .
- التحليل للمطلقة ثلاثاً بزواج متفق على توقيته سفاح كما في قول عبد الله بن عمر رضي الله عنه .
-إنه خديعة لله عز وجل وتلاعب بشريعته وتحايل على أحكامه سبحانه .
-إن تم هذا الزواج المقصود به التحليل لا غير يفرق بينهما في الحال لأنه نكاح دلسة لا نكاح رغبة .
-هذا العمل يعتبر غير صالح بمجرد نية التحليل لدى أي من الأطراف المعينة.
- على فاعل التحليل العقوبة ويعود تقديرها للإمام إذا كان لا يرى حجية قول الصحابي .
- إذا كانت نية أحد الأطراف المعينة التحليل بطل النكاح ولا تحل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول به حتى وإن لم تشعر المرأة أو زوجها الأول بذلك فالحكم ذاته.
-مجرد ألهم بالتحليل إفساد فما بالك به إذا وقع فالفساد أعظم .
أقوال فقهاء المذاهب في القضية:
-ذهب الأئمة مالك وأحمد وسفيان الثوري رضي الله عنهم وأهل الظاهر وغيرهم إلى بطلان نكاح المحلل ولا تحل به الزوجة المطلقة ثلاثاً لا للزوج الأول ولا للثاني . حتى ينكحها الزوج الثاني نكاح رغبة يراد به الدوام والبقاء.دليلهم ما رواه عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ألا أخبركم بالتيس المستعار ؟ قالوا بلى يا رسول الله قال هو المحلل .لعن الله المحلل والمحلّل له"(7)
-قال الماليكة والشافعية والحنابلة : يبطل العقد بالمرة إذا اشترط فيه التحليل .بل قال المالكية والحنابلة : لو قصد التحليل ولم يتلفظ به بطل العقد (8)
هذه طائفة من أقوال فقهاء المذاهب في المسألة تؤكد بطلان العقد إذا أريد به تحليل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول .
وأخيراً : أقول هذا ما وفقني الله إليه في هذه القضية المهمة من قضايا مجتمعنا حيث بت على يقين بتحريم زواج التحليل لما في طياته من المفاسد والتلاعب على شريعة الله عز وجل .والذي دفعني لطرح هذه القضية أن كثيراً من عوام الناس في ريفنا يفعلون هذا النوع من الزواج يقودهم إليه جهلة من أنصاف المتعلمين .وأتوجه بجزيل الشكر للأستاذ الباحث الدكتور إحسان هندي الذي طرق هذا الموضوع بمقالة قيمة أشرت إليها في البداية وما قلته ما هو إلا بيان لقضية المحلل الذي أثارها دون أن يدلي بشيء حولها حتى لا يفهم القراء جواز التحليل .هذا وبالله التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الكرام البررة وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
**********************************************



























*الحواشي*

(1) مجلة نهج الإسلام عدد (52) ص(118).
(2) سورة الأعلى الآية (9).
(3) سورة البقرة الآية (230).
(4) سورة النساء الآيتان (34-35).
(5) النصوص مختارة من كتاب إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان ج1 ص269 270 لابن القيم رحمه الله.
(6) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان لابن القيم رحمه الله الجزء الأول 271-273 بتصرف يسير.
(7) تفسير آيات الأحكام محمد علي السايس ص 147بتصرف يسير.
(8) الفقه على المذاهب الخمسة محمد جواد مغنية ص420