فن الحكاية الشعبية
في الأساطير العربية والعالميةلقد كان الاهتمام بجميع الحكايات الشعبية وتسجيلها موضع اهتمام الأدباء والفنانين منذ قرون طويلة، منها ما وجد منقوشاً على جدران المعابد القديمة أو على صحف من الفخار، أو صحائف البردي وجلد الحيوانات، ومنها ما هو تسجيل للأحداث من خلال رؤية الفنان نفسه، ومنها ما هو تجريد لوقائع ورمز لحقائق الحياة، فنحن نعرف آثاراً فينيقية وبابلية وفرعونية جديرة بالإعجاب، كما نملك شواهد ذات قيمة لأقصى ما وصلت حضارة أوغاريت، هذا إلى جانب البحوث الجديدة، التي اكتشفت تصاوير كاملة للعصر الحجري، يعود تاريخها إلى عشرات الآلاف من السنين، كل هذه الآثار نعجب لها وندهش لنضوج فنها وأشكالها وبنائها، حقاً أن الزمن يفصلنا عن مبدعات الروح الإنسانية المبكرة التي تبرز أمامنا، إذ أصبح الكثير منها غريباً علينا، كما ظل الكثير منها بعيداً في مغزاه عن مداركنا.
ولكننا نرى أن الكلمة أقوى من الحجر، وأن أعمال الشعراء المجهولين في وسعها أن تصمد أمام مئات، بل ألوف السنين، ولا تزال في عصرنا تنبض بالحياة، فما حكاه الإنسان ذات يوم عن الآلهة والأبطال والإنسان في بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين ووادي النيل، لا يزال بعضه يعيش حتى اليوم مع الحكاية الخرافية، فنحن نملك، كما يقول عالم الانثروبولوجيا «دير لاين»، حكايات خرافية لحضارات عاشت ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد كحضارة بابل وحضارة أوغاريت وحضارة الفراعنة، كما أن أقدم حكايات بلاد الهند والصين نشأت في الألفية الثانية قبل الميلاد، ثم تبع ذلك ظهور بوادر الحكايات الخرافية في بلاد الإغريق، وكثير من هذه تتعرف عليها دون مشقة في الحكايات الخرافية، ولقد كانت الحكاية الخرافية ترتبط دائماً بالأساطير وحكايات البطولات، كما أنها اقتحمت عالم الشعر الرسمي وعالم القصص والملاحم والروايات، فأفضت عليها كلها حيوية خاصة وجدة.
وقد كانت بعض الشعوب تملك موهبة خاصة في خلق الحكاية الخرافية مثل العرب والهنود، إذ صاغوها في أكمل صورة فنية لها، كما غذوها بخيالهم وكسوها بالبهاء والروعة، وفي وسعنا من خلال حكايات هذه الشعوب أن نستخلص كثيراً من خصائص هذه الشعوب وطابعها وأفكارها الخاصة وتأملاتها، ولقد اكتسبت الحكايات الشعبية العربية والهندية في العصور الوسطى وما تلا ذلك من مئات السنين شهرة واسعة في جميع أنحاء العالم، فامتزجت بمجموعات الحكايات الشعبية عند الشعوب الأخرى، كما عملت على إخصاب شعرها وأدبها، وطبيعي كما يقول «دير لاين»: لا نستطيع أن نعد هذه الشعوب مصدراً للحكايات الشعبية بأسرها، كما أنه ليس هناك شعب من الشعوب في حدود ما نعرف أهمل الحكايات الشعبية الغنية بفنيتها.
وقد انتشرت هذه الحكايات عبر حدود المكان الذي نشأت فيه، وكل من يتتبع انتقال الحكاية الخرافية من بلد لآخر، يلمس شيئاً من طريقة التأثير الأدبي للحكاية الخرافية، وهي الوسيلة بعينها هي التي تمكن الباحث من أن يستخلص مجموعة من القوانين الأدبية، وعدداً وفيراً من الخصائص القومية، وذلك عن طريق دراسته للتطورات المختلفة، التي تعتري المادة الأدبية نفسها عند بعض الشعوب، وكذلك من خلال مدى قوة الشعوب المانحة، وعجز الشعوب المستقبلة أو قدرتها على التحرير، فالحكايات الشعبية من أهم الموضوعات، التي يهتم بها الباحث الفلكلوري، بل تعتبر الحكايات الشعبية هي البداية العلمية الأولى لدراسة المأثورات الشعبية حينما قام العالمان الألمانيان الاخوان «غريم يعقوب» (1785- 1863)، و«ويلهام» (1786- 1859) بجمعها، ومن قبلهما كان الاهتمام بالحكايات الشعبية هو اهتمام أدبي وانعطاف نحو التراث الشعبي.
وقد قام الاخوان «غريم» بجمع نصوص كثيرة من الحكايات الشعبية، التي يرويها الشعب الألماني ويتناقلها مشافهة الأحفاد عن الأجداد، وكان من أهداف عملهما هذا التعرف على خصائص وقواعد اللغة الجرمانية، ودراسة أصل القصص الشعبية، وكانا يجمعانها من رواتها في القرى وداخل البيوت، وقد نشرا مجلدين تضمنا ما جمعاه من حكايات صدر الأول عام 1812 والثاني عام 1815 تحت عنوان «الحكايات المنزلية»، وقد لقي هذان الكتابان إقبالاً كبيراً من الشعب الألماني، حتى كان يعتبر الكتاب الثاني بعد الإنجيل انتشاراً داخل البيوت، ويعتبر الاخوان «غريم» مؤسسا علم الفلكلور، الذي اصطلح على استخدام المأثورات الشعبية كترجمة عملية لهذا المصطلح الإنكليزي «فولك- لور»، الذي استخدمه العالم الإنكليزي «سيرجون وليام تومز» في أواسط القرن التاسع عشر، كمصطلح يدل على مادة المأثورات الشعبية، كما يعتبر الاخوان «غريم» صاحبا النظرية القائلة: بتناقل المأثورات الشعبية شفاهة، كما أنهما صاحبا الرأي القائل: بأن الحكايات الشعبية، التي تتشابه كل منها مع مثيلاتها في أماكن أخرى هي حكايات نازحة أصلاً من أسلاف هند جرمانية، كما أن الحكايات مرتبطة بالأساطير ويمكن فهمها من خلال فهم الأساطير التي تنتمي إليها.

وهدان الحسن