نشرت صحيفة «هآرتس» تقريراً لمراسلها للشؤون الاستخبارية، يوسي ملمان، زعم فيه أنّ الجاسوس المصري المعروف برأفت الهجان لم يكن سوى عميلاً مزدوجاً للمخابرات المصرية والإسرائيلية، واصفاً ذلك بأنه كان «عملية الخداع الأنجح في تاريخ الإستخبارات الإسرائيلية».
وكتب ملمان في تقريره أمس: أُلقيت في مركز التراث الاستخباري، الثلاثاء الماضي، محاضرة عن إحدى عمليات الخداع الأنجح في تاريخ الاستخبارات الإسرائيلية: فقد جرى القبض على عميل أُدخل إلى إسرائيل في الخمسينيات أرسلته الاستخبارات المصرية. وافق على التعاون مع إسرائيل، أي "أصبح مزدوجًا"، ونُقلت بوساطته إلى المصريين معلومات كاذبة. كان الاسم الشيفري الذي أُعطي للعميل وعلى أثره العملية "يتيد" (وتد)».
وأضاف: إن الشخص الأكثر مماهاة من كل واحد مع العملية، والذي كان مدة ست سنين مُشغلا لـ "يتيد" هو دافيد رونين الذي أصبح بعد ذلك نائب رئيس "الشباك". لكن ما زاد المفاجأة انه لم يُلق المحاضرة. قال لي رونين إنه لا يعلم لماذا لم يُدع لإلقاء المحاضرة وأنه لم يأت الى الاستماع احتجاجا على ذلك قد يكون سبب تجاهله غضبا طويلا في "الشباك" لأنه تجرأ قبل سنين على الإيماء إلى القضية. ففي التسعينيات نشر رونين رواية عنوانها "لسعة النحلة (قصة عميل مزدوج)، فيها إيماء إلى عملية "يتيد". وقبل خمس سنين كتب كتابا في هذا الموضوع، لكن "الشباك" و"الموساد" أيضا يعوقان نشره طالبين أن تُدخل فيه تعديلات.
وحسب التقرير «بدأت القصة بتجنيد رفعت الجمال للاستخبارات المصرية. تورط الجمال مع القانون وعُرض عليه مقابل عدم محاكمته أن يكون جاسًوسا. وافق وجرت عليه سلسلة تدريبات اشتملت على زيارات كُنس من اجل معرفة الدين اليهودي. وبعد إعداده أُلصقت به هوية مختلقة ليهودي مصري اسمه "جاك بيطون". في بداية 1955 أبحر الجمال/ بيطون من الإسكندرية إلى إيطاليا. مكث في ايطاليا وقتا ما، بل عمل فيها من اجل تعزيز أمر التغطية. وفي النهاية هاجر إلى إسرائيل. حسب خطة طموحة أعدها مُستعملوه كان يجب عليه أن يندمج في المجتمع الإسرائيلي. ومن اجل ذلك زودوه بمبلغ كبير من المال استثمره في شراكة في وكالة سفر "سي تور" في شارع برنار في تل أبيب».
وتابع: «تحت غطاء السفر للعمل أكثر الجمال/ بيطون الخروج إلى أوروبا للقاءات مع مستخدميه في الاستخبارات المصرية. أثارت هذه الأسفار شك شريكه، الدكتور ايمرا فريد، وهو من رجال جهاز الأمن المتقاعدين؛ "من أين لمهاجر جديد المال في حين إن عملنا لا يكسب البتة"، سأل – اشتكى على مسامع "الشباك". وُضع بيطون تحت المراقبة التي استمرت بمساعدة "الموساد" في الخارج أيضا، حيث شوهد يلتقي مستخدمه المصري. مع عودته إلى إسرائيل قبض عليه رجال "الشاباك" في المطار وخيّروه بين إمكانين: إما المكوث في السجن عشرات السنين بسبب التجسس وإما الموافقة على أن يكون عميلا مزدوجاً. واختار بيطون الخيار الثاني. كان مستعمله الأول شلومو غولند، وبعد عدة شهور نُقلت المتابعة إلى رونين. ومن اجل تثبيت الثقة به عند المصريين صور بيطون، تحت رقابة وثيقة من رجال "الشباك"، قواعد للجيش الإسرائيلي، وجنودا في محطات وشعارات وحدات ونقل المعلومات إلى المصريين».
ونقل التقرير عن رونين قوله: «كانت المعلومات التي نُقلت غير سيئة البتة من وجهة نظر المصريين، في ظاهر الأمر»، حسب رونين، وتابع التقرير: ولهذا رأوه أحد أفضل عملائهم. في العام 1963 في إحدى زياراته إلى أوروبا التقى امرأة ألمانية. تزوجا وولد لهما ابن. كانت ذروة عملية "يتيد" نقل معلومات كاذبة إلى المصريين في العام 1967، قُبيل حرب الأيام الستة. نقل بيطون إلى المصريين انه بحسب خطة الحرب التي أحرزها من مصادره، ستبدؤها إسرائيل بإجراءات برية. وكان هذا تضليلا من الطراز الأول. يمكن أن يساوي في قيمته "عملية تقطيع"، وهي خداع الاستخبارات البريطانية اللامع زمن الحرب العالمية الثانية، فيما يتعلق بمكان نزول قوات الحلفاء وقت غزو أوروبا في العام 1944.
وأضاف: «إن المعلومات المضللة لبيطون كانت أحد أسباب أن مصر كانت وادعة جدا قُبيل الحرب وتركت طائراتها مكشوفة لأنظار الجميع على مساراتها في المطارات. لم يصعب على سلاح جو إسرائيل القضاء عليها في ثلاث ساعات وبهذا حُسمت المعركة بقدر كبير في واقع الأمر. "وفر علينا دما كثيرا، كان استعماله مساويا لقوة فرقة"، قال في زمانه ابراهام احيطوف الذي كان زمن استعمال بيطون رئيس الشعبة العربية في "الشباك" وأصبح بعد ذلك في الثمانينيات رئيس المنظمة. لم تعد ثم حاجة بعد الحرب إلى بيطون؛ والى ذلك كان متعبا أيضا من التوتر اليومي لعمله السري، فأصبح عصبيا وأخذت تكبر مطالبه المالية من الدولة.
استقر الرأي على قطع الصلة به وإعادة تأهيله. رتب جهاز الأمن دخوله في شراكة مع رجل أعمال ايطالي، مثّل شركة نفط نقبت قبل الحرب في سيناء وأصبحت إسرائيل الآن تسيطر على حقولها. لكن هذا لم يكن كافيا لبيطون وطلب ملايين الدولارات مقابل خدمته التي استمرت 12 سنة. وأخذت تتدهور علاقته بمستخدميه من "الشاباك"».
ويزعم معد التقرير حسب رواية رونين إنه بعد ذلك بوقت قصير أُصيب الجمال بالسرطان. عولج في مستشفى في إسرائيل لكنه ارتاب في أن رجال "الشاباك" سيحاولون تسميمه، ولهذا طلب نقله للعلاج في أوروبا. استجاب "الشاباك" لطلبه وعولج في مستشفى في ألمانيا ومات هناك.
دُفن الجمال في مصر. بعد عشرين سنة من موته في العام 1988، نشر الأديب وكاتب السيناريو المصري، صالح مرسي، قصة جاسوس مصري جريء دخل عمق أرض "العدو الصهيوني". لم يكشف عن اسمه الحقيقي. ومن اجل التحقيق استعان مرسي بملفات أرشيف الاستخبارات المصرية. بعد ذلك تم تهيئة القصة لمسلسل تلفزيوني ذي شعبية، بُث في العالم العربي كله. اسم الجاسوس البطل في المسلسل "رأفت الهجان". بعد ذلك تم الكشف في مصر عن اسمه الحقيقي وسُمي أحد ميادين القاهرة باسمه.
في إسرائيل ظلوا يحافظون على الصمت. قال لي في مطلع التسعينيات رئيس "الموساد" و"الشباك" سابقا إيسر هرئيل: "ليفرحوا، وليظلوا يصدقون حكايتهم".
http://knspal.net/arabic/index.php?act=Show&id=19320