لقد كان على مئات الآلاف من المسلمين الذين تخلّفوا بأرض الأندلس بعد سقوط دولة الإسلام مجابهة فتن كقطع الليل المظلم استهدَفت دينهم و دنياهم: فقد حُكم عليهم بترك العقيدة و المظاهر الإسلامية و إتباع العقيدة الكاثوليكية و التشبه بالنصارى حتى في أبسط الأمور, و من لم يلتزم بتلك الأوامر يٌعرّض نفسه للقتل و السجن و التعذيب و التهجير و مصادرة الأملاك و الأموال. فاضطروا لإظهار النصرانية و إضمار الإسلام في انتظار فرج من عند الله يكشف غمتهم و يرفع الحيف عنهم؛ و استمروا على هذه الحال إلى سنة 1609م لمّا قرر الملك فيليبي الثالث طرد الأندلسيين من مملكته الكاثوليكية إلى بلاد البربر بشمال إفريقيا.
لقد حاول الأسبان الدفاع عن هذا الطرد و قدّموا عدّة مبررات محاولين إخفاء فظاعة عملهم الهمجي اتجاه شعب مسلم هو أولى بالأندلس التاريخية من غزاة برابرة قادمين من الشمال. و من بين هذه المبررات:
[color=blue]1-تشبّث الأندلسيين بالإسلام و رفضهم الاندماج في المجتمع النصراني.
حسب الرواية القشتالية الرسمية, لم يُبد الأندلسيون رغبة في الاندماج في المجتمع النصراني و بقوا في معزل عنه, يقومون بشعائرهم الإسلامية و يدافعون عنها بكل تفان. و حتى لا يصطدموا بمحاكم التفتيش لجئوا إلى ممارسة التقية فأظهروا النصرانية و أخفوا الإسلام, فكانوا يتوضئون و يصلون و يصومون... كل ذلك في خفية عن أعين الوشاة و المحققين.
يتحدث مول في كتابه عن قرية مويل Muel فيصف كيف يصنع سكانها الأندلسيون الخزف و يُضيف :"قالوا لي إن القرية ليس بها سوى 3 مسيحيين قدامى هم الكاتب الشرعي, و القسيس و صاحب الحانة..أمّا الباقون فهم يُفضّلون الذهاب إلى مكة للحج عن السفر إلى كنيسة سانتياغو في غاليثيا". (1)
سنة 1601م, كتب المطران ربيرا, مهندس قرار الطرد, تقريرا عن هذا الوضع قدمه إلى الملك قال فيه:"إن الدين الكاثوليكي هو دعامة المملكة الإسبانية, و إن المورسكيين لا يعترفون و لا يتقبلون البركة و لا الواجبات الدينية الأخيرة, و لا يأكلون لحم الخنزير, و لا يشربون النبيذ, و لا يعملون شيئا من الأمور التي يقوم بها النصارى..." ثم يقول:"إننا لا نتق في ولائهم لأنهم مارقون, و إن هذا المروق العام لا يرجع إلى مسالة العقيدة, و لكنه يرجع إلى العزم الراسخ في أن يبقوا مسلمين, كما كان آباؤهم و أجدادهم, و يعرف مفتشو العموم أن المورسكيين بعد أن يحجزوا عامين أو ثلاثة و تشرح لهم العقيدة في كل مناسبة, فإنهم يخرجون دون أن يعرفوا كلمة منها, و الخلاصة أنهم لا يعرفون العقيدة, لأنهم لا يريدون معرفتها, و لأنهم لا يريدون أن يعملوا شيئا يجعلهم يبدون نصارى" (2)
و في تقرير آخر يقول نفس المطران:"إن المورسكيين كفرة متعنتون يستحقون القتل, و أن كل وسيلة للرفق بهم فشلت, و إن إسبانيا تتعرض من جراء وجودهم فيها إلى أخطار كثيرة و تتكبد في رقابتهم و السهر على حركاتهم و إخماد ثوراتهم كثيرا من الرجال و المال.." (3)
و جاء في قرار الطرد الخاص بمسلمي بلنسية: " ...قد علمت أنني على مدى سنوات طويلة حاولت تنصير مورسكيي هذه المملكة و مملكة قشتالة, كما علمت بقرارات العفو التي صدرت لصالحهم و الإجراءات التي اتخذت لتعليمهم ديننا المقدس, و قلة الفائدة الناتجة من كل ذلك, فقد لاحظنا أنه لم يتنصر أحد, بل زاد عنادهم."(4)
2-الخطر الديمغرافي
اعتُبر ارتفاع نسبة النمو لدى الأندلسيين من أكثر النقاط التي أثارت انتقادات النصارى. و قد عبّر عن ذلك الأديب الاسباني الشهير ثيرفنتس في روايته "Persiles y Segismunda" حيث ذكر :"لم تكن بينهم الرهبانية, و لم يكونوا متدينين؛ جميعهم يتزوجون, جميعهم يتكاثرون". فالنصرانيكان يكتفي بالزواج بإحدى قريباتهأو يلتحق بالكنيسة أو الجندية. هكذا ازداد الخوف من أن يخرج النمو الديمغرافي للأندلسيين عن السيطرة فيشكل خطرا على هوية الدولة الكاثوليكية. من أجل ذلك طُرحت عدة حلول منها إخصاء جماعي للذكور المسلمين أو إرسالهم لأداء الأعمال الشاقة في المناجم و السفن حيث لا أمل في العودة للحياة. لكن هذه المشاريع لم تر النور لأن "الكنيسة رأفت بهم و اختارت أرحم الحلول و هو طردهم من إسبانيا".
يقول الشهاب الحجري الأندلسي – الذي فرّ من إسبانيا إلى المغرب سنوات قليلة قبل الطرد- محاولا تفسير إخراج المسلمين من موطنهم: " اعلم أن أهل الأندلس كانوا مسلمين في خفاء من النصارى, و لكن يظهر عليهم الإسلام و يحكمونه فيهم. و لمّا تحقق منهم ذلك لم يأمن فيهم و لا كان يحمل منهم أحدا إلى الحروب, و هي التي تفني كثيرا من الناس. و كان أيضا يمنعهم من ركوب البحر لئلا يهربوا إلى أهل ملتهم, و البحر يفني كثيرا من الرجال. و أيضا في النصارى كثيرون قسيسون و رهبان و مترهبات, و بتركهم الزواج ينقطع فيهم النسل. و في أهل الأندلس لم يكن فيهم قسيسون و لا رهبان و مترهبات, إلا جميعهم يتزوجون و يزداد عددهم بالأولاد و بترك الحروب و ركوب البحر. و هذا الذي ظهر على إخراجهم لأنهم بطول الزمن يكثرون".
(5)
3-أخطار الغزو الخارجي
حسب الرواية الإسبانية, ظل الأندلسيون على اتصال مستمر بمجاهدي البحر الأتراك و المغاربة, يُوفّرون لهم المعلومات و الدعم عند نزولهم في سواحل إسبانيا لمهاجمة النصارى و حمل المسلمين إلى العدوة الأخرى.
* الخطر المغربي:
ضخّم المروّجون لخيار طرد الأندلسيين خطر غزو مغربي وشيك لإسبانيا لاستعادة الأندلس, خصوصا بعد استقرار الأوضاع به بعد سنوات من الحروب الأهلية. فبعد وفاة السلطان أحمد المنصور رحمه الله سنة 1603م, تقاتل أبناؤه الثلاثة على خلافته, فأدخلوا المغرب في محن لا توصف من الحروب الأهلية و التجزئة, انتهت بسيطرة المولى زيدان على الأمور و فرار شقيقه المأمون إلى إسبانيا مستنجدا بملكها ضد أخيه. "فأرسل مورسكيو بلنسية رسلهم إلى زيدان يخبرونه بعلاقات المأمون بفيليبي الثالث, و يطلبون منه تحرير الأندلس, و يحاولون إقناعه بسهولة ذلك, و يؤكدون استعدادهم لتقديم 60 ألف مقاتل متى أبحر جنوده في أحد الثغور الإسبانية. لكن السلطان زيدان لم يهتم بهذا العرض, و لم يحرك ساكنا. و لمّا علمت الدولة الإسبانية بالخبر ازدادت حقدا على مسلمي الأندلس عامة و مسلمي مملكة بلنسية خاصة". (6)
و قد اتخذت السلطات الإسبانية هذا التهديد على محمل الجد, حيث يقول الباحث الإسباني الشهير خوليو كارو باروخا:"يمكن أن نعتبر هزيمة سلطان فاس مولاي الشيخ على يد ملك مراكش مولاي زيدان في ربيع عام 1609م قد أثرت في قرار الطرد الذي صدر بعد ذلك" [/
COLOR](7)
* التآمر مع فرنسا
كانت الجارة الشمالية لإسبانيا, فرنسا, ذات أغلبية بروتستانتية (الهوكونو) و كانت علاقتهما متوثرة للغاية. و رغم تحول هنري دي بورون إلى المذهب الكاثوليكي عندما أصبح ملكا على فرنسا تحت اسم هنري الرابع, فقد بقي على عدائه لإسبانيا, و تابع علاقته بالأندلسيين, و أصبحت الدولة الإسبانية تنظر إلى علاقة هنري الرابع بالأندلسيين بتخوف أكبر. سنة 1602م, تمّ وضع مخطط بين الأندلسيين و الفرنسيين لغزو إسبانيا, لكن وفاة الملكة إيسابيلا, ملكة انجلترا التي حاولت فرنسا الحصول على مساعدتها للغزو, أفشل المخطط, ذلك أن خلف إيسابيلا جاكوب الأول وقّع معاهدة صداقة مع إسبانيا, و قدّم للملك فليب الثالث جميع الوثائق الخاصة بعلاقته مع المسلمين البلنسيين, كعلامة على حسن نيته, فقبضت السلطات الإسبانية على أكثر زعماء الأندلسيين الذين شاركوا في هذا المخطط, و عذبتهم حتى اعترفوا ثم أعدمتهم. (8)
لقد استفادت إسبانيا من غياب تأريخ إسلامي موثوق لما جرى بالأندلس بعد سقوط دولة الإسلام, فسطّروا التاريخ كيف شاءوا و صاغوا الافتراءات التي تخدم مشروعهم المناوئ لأي وجود إسلامي بالأندلس, فألصقوا كل العيوب بالمسلمين و رموهم بكل داء حتى عافهم من حولهم و ازدراهم أراذل الناس و أخسهم, ثم رٌموا إلى أقرب السواحل الإسلامية من أوربا.
و كأنه لم تطأ قدم مسلم تلك الأرض أبدا.
الهوامش:
(1)"مسلمو مملكة غرناطة بعد عام 1492" تأليف خوليو كارو باروحا. تعريب :د جمال عبد الرحمان. ص 225.
(2) "الحياة الدينية للمورسكيين" للأب بيدرو لونكاس. نقلا من كتاب "المسلمون المنصرون" لعبد الله جمال الدين. ص 209
(3) نهاية الاندلس. لعبد الله عنان. ص 395.
(4)"المورسكيون الأندلسيون" تأليف مرثيدس غارسيا أرينال. تعريب د جمال عبد الرحمان. ص 229.
(5) "ناصر الدين على القوم الكافرين" للشهاب الحجري الأندلسي.
(6) "انبعاث الإسلام بالأندلس" د. علي المنتصر الكتاني. ص 226.
(7) "مسلمو مملكة غرناطة بعد عام 1492" تأليف خوليو كارو باروحا. تعريب :د جمال عبد الرحمان. ص 226
(8) "انبعاث الإسلام بالأندلس" د. علي المنتصر الكتاني. ص 158-159
كتبه أبوتاشفين هشام بن محمد المغربي.
------------------
[right]مواضيع ذات صلة:
طرد المسلمين من الأندلس.(مع ملحق خاص بنص قرار الطرد من بلنسية)
أربعة قرون من دون المورسكيين
أورناتشوس و الرباط سيحتفلان سويّة بذكرى 400 سنة على طرد الأندلسيين
هورناتشوس و الرباط يتذكرون طرد الأندلسيين
باحث انجليزي يؤكّد بالوثائق أن طرد الأندلسيين من إسبانيا فشِل جزئيا
بعض الأندلسيين يطالبون إسبانيا بتعويض معنوي مماثل للّذي تلقّاه اليهود السفاريد
مع طرد المورسكيين …وُلِدت أول دولة عنصرية في التاريخ
هشام أبوتاشفين.