في الذكرى الحادية والأربعين على استشهاد الأديب غسّان كنفاني، لا أستطيع أن أتناول جانباً من شخصيّته، دون أن أعرّج، ولو بإشارات خاطفة للخوض في حالة إنسانية وطنيّة قومية أدبية متفرّدة نادرة عنوانها غسان كنفاني.

وأنا في مسار الخوض فيما أقدر عليه مستحّضراً الذاكرة والذكريات، أحاول أن أضيء شمعة قد يؤسس طيف ألوانها إلى فهم جديد لقامة غسّان الذي قضى شهيداً ولمّا يبلغ بعد ربيعه السادس والثلاثين، أحاول أن أخرج بغسان من عباءة الامتلاك الضيّقة «الأسرة»، إلى العام الوطني والقومي، والإنساني والعالمي.
ذلك أن شخصية نادرة كشخصية غسان تستحّق أن تُدرس بكامل أبعادها لمواصلة رصف ٍالطريق التي بدأها غسّان ووضع في ذلك الوقت السابق المبكّر المفاتيح التي نستطيع، كأدباء ومفكّرين ومثقفين إذا أعملنا فيها الدراسة الجادّة الواعية، أن نلج بها إلى الأقفال التي تبدو لنا في هذه المرحلة عصيّة ومستحيلة.
رسم ونحتَ وخطَّ وكتب القصّة القصيرة «ستون قصة قصيرة منشورة ضمن مجموعات» والخاطرة والرواية «ثماني روايات منشورة ثلاث منها غير مكتملة» والمسرحيّة «ثلاث مسرحيّات منشورة» وثلاث دراسات واعية وهامّة، ناهيك عن مئات المقالات النقديّة، كل ذلك إلى جانب انخراطه في العمل النضالي، وعمله اليومي في الصحافة مؤسساً ورئيساً لتحرير مجلّة الهدف.. فأبدع أيّما إبداع في المجالات كلها، وطرح أمام الأجيال وسيلة الخلاص المستخلصة من طموحات الناس «المقاومة» لأنه آمن أنه وأمثاله يمثلون ضمير الناس.
تُرجمت كتاباته إلى عشرات اللغات الحيّة، وتناقلتها الذواكر حتى صارت دليلاً ومرجعاً وشاهداً، ليس للحقبة الضيّقة التي عاشها، بل إلى مدى غير منظور.
هل قرأنا غسّان حقّاً وهو الذي خرج بأدب المقاومة السجين من المعتقلات الصهيونية إلى النور وقدّمه إلى العالم بصورته النورانية الساطعة.؟ يقول غسّان في معرض تقديمه لكتاب «أدب المقاومة في فلسطين المحتلّة» الصادر في العام 1966:
(أدب المقاومة ظلّ مجهولاً بالنسبة لنا طوال سنوات المنفى، على الرغم من أنه يشكل الجانب الأكثر إشراقاً في كفاح الشعب المغلوب على أمره)
هل قرأنا غسّان جيداً وفهمنا ماذا أراد أن يقول ويؤسس عندما تناول بدراسة سابقة جداً الأدب الصهيوني ما زالت حتى الآن أحد أهم المراجع العربية التي ينهل منها الباحثون الشواهد لقراءة وفهم الأدب الصهيوني.؟ يقول في تقديمه للكتاب الصادر في العام 1966 أيضاً:
(كل ما تطمح إليه هذه الدراسة هو أن تلقي ضوءاً آخر على الشعار الصعب «اعرف عدوّك»)
ويتابع: (تجربة الأدب الصهيوني هي التجربة الأولى من نوعها في التاريخ حيث يستخدم الفن في جميع أشكاله ومستوياته للقيام بأكبر عمليّة تضليل وتزوير تتأتى عنها نتائج في منتهى الخطورة).
ويقول: (الصهيونية الأدبية سبقت الصهيونية السياسية، وما لبثت أن استولدتها، وقامت الصهيونية السياسية بعد ذلك بتجنيد الأدب في مخططاتها ليلعب الدور المرسوم له في تلك الآلة الضخمة التي نُظمت لتخدم هدفاً واحداً. وإذا كانت الصهيونية السياسية هي نتاج للتعصب وللعرقية فقد كانت الصهيونية الأدبية هي أولى إرهاصات ذلك التعصّب).
فهل استطعنا أن نستخلص وندرك السبب الحقيقي الذي شغل الصهاينة وأجهزتهم الاستخباراتية والعسكرية لإسكات صوته ولم يكن من سبيل إلى ذلك إلا بتصفيته جسديّاً على يد الموساد الصهيوني في الثامن من تموز 1972 وهي بفعلها ذاك سجّلت سابقة غريبة وخطرة.
إحدى وأربعون سنة مرّت على استشهاد الأديب المناضل غسّان كنفاني، وما زالت إبداعاته تعيش بيننا مسايرة لواقع الحال، كأنه كتبها للتوّ، ممتلِكةً قدرة استثنائية على الاستشراف الدقيق.
رحم الله الأديب المناضل الرمز غسان كنفاني.. الشاهد والشهيد.