الأزمة الأصل..الأزمة الورم الولود
الدكتور جيلالي بوبكر

مقدمة
تعاني الشعوب العربية والإسلامية في عالمنا المعاصر أزمة نهضة عميقة متفاقمة باستمرار، شملت كل جوانب الحياة الروحية الفكرية والمادية العملية، بحيث لم يسلم أيّ قطاع من تأثيرها الخطير ومظاهرها وتداعياتها السلبية، في مقابل عالم متقدم عرف النهضة والتطور في جميع مجالات الحياة، واحتكر ذلك من دون اعتبار لقيمة الإنسان عامة ولحقوقه في الحياة الكريمة، ومن دون اعتبار لمحاسن السلوك ومكارم الأخلاق.اختلف المفكرون والمثقفون في تشخيص أسباب الأزمة وأصولها الأولى، إذا ما كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية أو تربوية أو دينية أو أخلاقية، وكثيرا ما تُرد أزمتنا إلى طرف واحد فقط علما بأنّ كل الجوانب المذكورة يؤثر الواحد منها على الآخر ويتصل به ممّا يوحي بأنّ بعضها يمثل الأسباب والبعض الآخر يمثل النتائج. في هذا البحث وقفنا على الأزمة بخيوطها ومظاهرها وتداعياتها وركّزنا على الأسباب الأولى والأساسية المسئولة عن وضعنا الحالي المأزوم، وفي حالة النجاح في تشخيصها بداية صحيحة في اتجاه التخلّص منها.

1- أزمتنا حقيقة وواقع:

يتفق المفكرون والساسة وعامة الناس في الجزائر المعاصرة على أنّ حياتهم عامة يطبعها الفساد حتى صار جزء لا يتجزأ منها، إذ لا يمكن لأيّ جانب فيها أن تقوم له قائمة من دون فساد في الأنفس وإفساد لهذا الجانب وذاك، ولا يختلف اثنان على تدهور أوضاع بلادنا وسائر البلاد العربية والإسلامية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، على الرغم مما صنعه الشعب الجزائري من بطولات وأمجاد تجسّدت في ثورته على الاستعمار الفرنسي وفي استقلال الأرض الجزائرية عن فرنسا، وبالرغم من القيّم التاريخية التراثية الأخلاقية والدينية المثلى الخالدة الرّاسخة في الذات الجزائرية والمتغلغلة في وجدانها، البطولات والأمجاد والقيّم العليا التي من المطلوب تُشكّل الرّصيد المعنوي والروحي للأمة الجزائرية، تدفعها بقوّة في اتجاه البناء الحضاري المعاصر من خلال استثمار القوّة المادية التي تزخر بها البلاد، القوّة البشرية والموقع الجيوسياسي الاستراتيجي الهام والثروة الطبيعية بكافة أنواعها، فتخرج من عالم التخلّف والانحطاط المطبوع بالاستبداد والفساد في الداخل والتبعية إلى الخارج مع أوهام الاستقلال والحرية والكرامة.
وما حلّ بالجزائر من تخلّف وانحطاط تعرفه سائر البلاد العربية وتعيشه شعوب العالم الثالث قاطبة بدرجات متفاوتة، ولم تستطع الكثير من دول العربية ودول أمريكا الجنوبية وغيرها أن تتخلّص من الانحطاط الفكري والضعف الاقتصادي والاضطرابات السياسية والنزاعات المسلّحة على الرغم من امتلاكها الطاقة وقدرتها على امتلاك التكنولوجيا استيرادا واستهلاكا لا إنتاجا، فأزمة العالم العربي والإسلامي حقيقة وواقع، عميقة تتسع باستمرار، ترتبط بالماضي وتتفاقم مع مرور الوقت بسبب تعقيد الحياة وتشابك أوضاعها ومشكلاتها وقطاعاتها، وبسبب دخول التكنولوجيا المعاصرة المتطورة باستمرار عالم الحياة بجميع مناحيها، الحياة التي صارت تختلف تماما عما عرفه الإنسان في الماضي في المجال الفكري والعلمي والعملي، بروز إنسان المعرفة والعلم والتقانة واختفاء الإنسان الكلاسيكي البدائي فكرا وعملا.
وحال العرب والمسلمين المقصيين من مواكبة العصر ضعيف فاسد في خضم التدفق المعرفي العلمي الهائل والتطور التقني المذهل خاصة في وسائل الإعلام والتواصل، عرفوا الإقصاء منذ البدايات الأولى للنهضة الأوربية، حيث ارتبطت حياتهم بأزمة الاستعمار الذي احتل الحقول والعقول وانتهك الأعراض وعمل على تشويه قيّم الهوية وعناصرها، وبقي الاستعمار السياسي والفكري والثقافي حتى بعد الثورات التحررية وتحرير الأرض من الاحتلال، حيث غرقت الشعوب العربية والإسلامية وغرقت أنظمتها السياسية في التبعية للقوى الكبرى التي تمتلك قوة العلم وقوة التكنولوجيا وقوة المال والاقتصاد وقوة العسكر، فتحولت إلى شعوب غائبة عن الإبداع والعمل المنتج تعيش على الاستهلاك لا الإنتاج وعلى الاستيراد لا التصدير، تنفق من عائدات النفط والثروات الطبيعية الأخرى، الحياة السياسية يطبعها الاستبداد، والحياة الاجتماعية يعمّها الفساد، والحياة الفكرية والثقافية تفتقر إلى إستراتيجية ليس فيها سداد ورشاد، والاقتصاد متوقف عن الإنتاج والنّماء إلاّ من استيراد منتجات الغير واستهلاكها والإنفاق عليها من العائدات النفطية والثروة الطبيعية الجاهزة فهو اقتصاد ريعي فاشل يكرس التبعية ويعزز الاستعمار بمختلف أشكاله.
أما في الجانب الديني والتربوي والأخلاقي وهو جانب لا يمكن فصله عن جوانب الحياة الأخرى تطغى الخلافات القاتلة على الدين ويطغى الفشل على التربية في جميع مكونات المنظومة التربوية ويسيطر الانحلال الأخلاقي، في هذا الجوّ المظلم الأسود التشاؤمي تكثر أقلام وتتعالى صيحات الباحثين توصيفا للأزمة الأم الأصل التي هي وراء كل الأزمات والمعاناة التي نعيشها وتحديدا لها ولمكوناتها، إذا ما كانت أزمة واحدة بعينها في السباعية أم السباعية ذاتها وكاملة وهي سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية وفكرية أو تربوية أو دينية أو أخلاقية، وفي كل الحالات الكينونة العربية الإسلامية المعاصرة في خطر وجودا في الحاضر وفي الماضي وفي المستقبل وكل المؤشرات الراهنة توحي بأننا مازال الوقت طويلا عن فجر النهضة، فالأزمة قويّة عميقة ورمية ولود.

2- مسؤولية الفكر عن الأزمة:

إنّ مسؤولية المفكر والفكر والثقافة عامة عظيمة وخطيرة، فالفكر شاهد ومشهود وشهيد، فهو يدلي بشهاداته على حال الزمان والمكان، مُطالب بتحرّي الدّقة والصدق والكفاية في تسجيل شهاداته في المنطلق والمنهج والغاية. والفكر أداء ومردود، نظر وعمل، مادة وروح، منجزات في الزمان والمكان، يسجّلها التاريخ ويحكم عليها الإنسان، فنكبة سقراط ومحنة أحمد بن حنبل وغيرها مما يعبّر بجلاء عن الصراع الأبدي بين الخير والشر وبين الحق والباطل وبين الجمال والقبح وبين الخطأ والصواب، كل من ذلك يحوي في أسبابه وسبله وإفرازاته إما بذور الخير واتجاهات الحقّ والعدل والحرية والكرامة وإما منابت الشر ونوازع السوء والظلم والقمع والاستبداد وإذلال الآخر وامتهان كرامته، لذا خلّد التاريخ وإلى الأبد قصص العظماء وسيّرهم ومواقفهم مدوّية إلى الأبد ينهل منها الإنسان اقتداء واعتبارا وتتشبّه بهم الأجيال المتعاقبة تأسّيا وإتباعا، كما دوّن التاريخ من دون رحمة أو شفقة أسماء عديدة في سجل المغضوب عليهم ورمى بهذه الأسماء في مفرغات السوء والشر لتكون عبرة لمن يعتبر. وتحت وطأة شدّة الصراع بين الفضيلة والرذيلة كثيرا ما ينكسر الحقّ ويعلو الباطل تحت سطوة الجهل أو قوّة المال أو قوّة الحديد والنار أو حتى قوّة الحيلة والمكر والخبث لأنّ الناس كثيرا ما يأسرهم المال أو السلطان، فيكون الفكر النيّر الحق شهيدا مثلما كان سقراط ضحية الكلمة الطيّبة النبيلة الصادقة ومثله أحمد بن حنبل ومثلما كان شهداء الدين والتوحيد في الإسلام وفي غيره وشهداء الوطن في الجزائر الحديثة والمعاصرة وفي غيرها وشهداء العدل وشهداء الحرية والكرامة والعزّة وشهداء الحق والخير عامة.
فالدور المنوط بالفكر والثقافة تسجيل الشهادات مع الحرص على ضمانها بالدقة والصدق المطلوبين ليكون دورا فاضلا مشهودا بالخيرية لا غير، وأن يستشهد القائمون على هذا الدور في سبيل شهاداتهم لأنّ التردد أو التراجع عن ذلك انتكاسة لما يجب أن يكون عليه أهل الحق والعدل والجمال والخير عامة، فيُفسح المجال لاستئساد أهل الباطل والجور ولاستنسار الجهلة وضعاف النفوس فينزل غضب الفطرة السليمة على البشر وتحلّ بهم لعنة السماء بسبب غياب التوازن الطبيعي الإلهي في الحياة بما تصنعه أيادي الإجرام. ولما كان الفكر بهذه الدرجة من التأثير على الحياة والدفع بها في اتجاه القوّة والمنعة أو في اتجاه الضعف والسلبية فهو كثيرا ما يكون لدى العديد من المفكرين والمثقفين وحتى عامة الناس بعيدا عن المطلوب من الدقة والصحة والعمق والكفاية، فيؤدي ذلك إلى اختلال الفكر ذاته واختلال العلاقة بين الفكر والحياة وواقع في جميع جوانبها، فكثيرا ما يخطأ الفكر في التصور والتحليل والتركيب والاستنتاج فلا يربط الظاهرة بالشروط التي أحدثتها على أساس مبدأ العلية الكافي أو مبدأ الحتمية كما هو في المنهج التجريبي في العلوم الطبيعية والتكنولوجية بل يربط الظاهرة بإفرازاتها وتداعياتها ونتائجها السلبية أو الإيجابية وهي متعددة ومتداخلة ومتشابكة ومعقدة متوهما وموهما غيره بأنّه وقف على أسبابها هذا ما يفعله الكثير في قراءاتهم لواقع الدول والشعوب التي تعاني التخلف والانحطاط مجسدا في الفساد والاستبداد الداخلي وفي التبعية للخارج، بحيث يربط الكثير أزمة هذه الشعوب والأمم ربطا علّيا بما أفرزته هذه الأزمة ذاتها لا بما الدواعي والأسباب التي أحدثتها وأوجدتها، حيث ينصب الاهتمام بعوارض ومنتجات الأزمة لا بالأزمة ذاتها وبما تخلّفه المشكلات من آثار على الحياة لا بالمشكلات عينها وفي هذا مجانبة للحقيقة وانحراف عما تتطلبه الأوضاع المتأزمة من ضرورة وجود رؤية صحيحة ثاقبة وإستراتيجية مضبوطة تتحدد فيها الأساليب والأهداف بما يسمح بتحويل الإستراتيجية والفكر إلى واقع ملموس وتسخير جميع الإمكانات المتاحة النظرية والعملية بما من شأنه يحقق التنمية الشاملة والتطور والازدهار في السياسة والاقتصاد والثقافة والفن والعلم والتكنولوجيا وسائر مجالات الحياة، أما عند العجز عن وعي الواقع وعن إيجاد نظرية صحيحة تفسّره ففي ذلك خطورة كبيرة على كل محاولات التنمية والإصلاح والتغيير والنهضة.

3- الأزمة والسياسة:

الربط الموضوعي لأزمة الجزائر خاصة وأزمة العالم العربي والإسلامي عامة وأزمة العالم الثالث بشكل أعمّ بأصولها ودواعيها الحقيقية، الربط المؤسس بين الاثنين، بين الأصل والفرع، بين المرض والأعراض، بين أثر السير والمسير، بين البعرة والبعير، بين المنبع والمجاري، بين المشكلة وإفرازاتها ونتائجها، بين العلة والمعلول بالمنظور المنطقي والرؤية العلمية، المنظور الجامع بين جميع ظروف الزمان والمكان، البعيد عن الأحادية والارتجال والعفوية، تجده لا يردّ الأزمة إلى الفساد والاستبداد في الأنظمة الحاكمة وفساد الحكام وإفسادهم لأوطانهم وقمع الحريات الفردية والاجتماعية وطغيان النفاق السياسي والتبعية السياسية وغياب مشاركة الجماهير والأفراد الحقيقية في اختيار نظام الحكم وفي انتخاب ممثليهم وحكّامهم وقتل كل المبادرات السياسية على مستوى الفرد والجماعة، وهي أوضاع وظروف تطبع بقوّة الحياة السياسية الراهنة في بلادنا العربية والإسلامية وفي سائر البلاد المتخلّفة في مختلف أصقاع المعمورة، بل يعدّ كل ما لحق بالسياسة والحكم والدولة من شرور ومآسي ونكسات ليس هو السبب في تخلّف الشعوب وتدني أوضاعهم في الحياة بجميع قطاعاتها بل كل ذلك إفرازات وآثار من صنيع الأزمة الأم التي لم تُعالج في صميمها فأدّى ذلك إلى تفاقمها مع غياب كل أمل في تجاوزها لأنّ ما مضى أحسن وأفضل مما هو لاحق.
صحيح للحاكم مثلما للعالم من دور وتأثير على الرعية، إن صلح الحاكم وصلحت بطانته صلحت أحوال الرعية، وإن فسدت أحوال الحاكم وأصابها الاعوجاج والانحراف عن جادة الصواب فسدت أحوال الرعية وفي معنى المثل الجزائري في هذا السياق "العصا عوجاء من أعلى لا من أسفل" إشارة إلى فساد الرعية بسبب فساد رأس نظام الحكم، والجنة في الإسلام لا يدخلها حاكم جائر، وحكّامنا فاسدون في أنفسهم ومفسدون لأوطانهم وشعوبهم، وأنظمة الحكم لدينا في كثير منها غير مستمد من قيّمنا الحضارية وهويتنا التاريخية لا تراعي حاجاتنا ومطالبنا في الحياة الكريمة وتعول كثيرا على القوى الكبرى في تشريعاتها، الأمر الذي جعل الشعوب تتهم الحكام بالعمالة وبالإضرار بمصالحها القومية والدينية والاجتماعية وتسحب الثقة منهم وتتمرد عليهم وتعمل لإسقاط أنظمة الحكم بمختلف الوسائل والأساليب، والحراك الثوري العربي الإسلامي الراهن يعكس بجلاء وبقوّة ما آلت إليه علاقة المحكوم بالحاكم من صراع على البقاء، الأمر الذي عمّق الأزمة وعقّد الوضع أكثر فأكثر.

4- الأزمة والمجتمع:

قد يردّ البعض الأزمة الأم إلى الحياة الاجتماعية، معلّلين ذلك بالطابع التراثي والحياة البدائية والريفية والعقلية المطبوعة بالقسوة والغلظة والشدّة في المجتمعات التاريخية التراثية التي مازال فيها التراث منهج الحياة ومحورها في المنطلق والمسار والهدف وفي ارتباط حاضر الإنسان بماضيه ومستقبله، فينحرف المجتمع القطيع عن السير في سبل الحضارة والمدنية ونظام الحياة الذي يُنتج التطور والازدهار ويؤسس للمجد والسؤدد، النظام الذي عرفته البشرية في الكثير من مراحل عمرها الطويل، ونظام الحياة الاجتماعية في البلاد العربية والإسلامية المعاصرة وفي سائر البلاد المتخلّفة مستمد في جانبه الاجتماعي من الموروث الثقافي والفكري ومن الإرث الاجتماعي في التربية والأخلاق والعادات والتقاليد والأعراف وفي العمل والإنتاج والاقتصاد وفي الدين وفي الحياة عامة التي تشهد فيها شبكة العلاقات الاجتماعية اختلالات كثيرة تسببت في غياب تجانس القيّم الاجتماعية السائدة في عالمنا المعاصر مع القيّم الموروثة الدينية والثقافية وفي وغياب الانسجام بين الجماعات المكونة للدولة والمجتمع والأمة على المستوى السوسيوسياسي والعقدي والإيديولوجي وغياب أواصر التماسك الاجتماعي، كل هذا في الوقت الذي يعيش فيه العالم المتقدم المعاصر الديمقراطية وما فيها من تعددية وحرية فردية واجتماعية وتداول على الحكم، ويحيا المدنية وما يلزم المجتمع المدني المعاصر من تحديث مادي تكنولوجي وحماية حقوق الإنسان ومحاربة الفقر والجهل والمرض والمحافظة على البيئة والقضاء على النزاعات والحروب وعلى أسلحة الدمار الشامل، فأصبح العالم المتقدم في عصرنا على الرغم ما فيه من مشكلات مختلفة تقليدية موروثة وأخرى أفرزتها الحياة المعاصرة ينعم بالاستقرار والأمن والازدهار في مختلف مناحي الحياة في مقابل التخلّف والاستبداد السياسي والفساد الاجتماعي والتبعية بمختلف أشكالها المطبوع عليها العالم الثالث وعالمنا العربي والإسلامي المعاصر جزء منه.

5- الأزمة والاقتصاد:

يرى البعض أنّ التخلّف العام الذي ألمّ بالبلاد العربية والإسلامية في عصرنا والمآسي التي تعيشها والمشكلات التي تتخبط فيها ترجع في الأصل إلى ما هو اقتصادي وإلى كل ما يرتبط بالحياة الاقتصادية من إنتاج ووسائل إنتاج وعلاقات إنتاج وغيرها في كافة القطاعات الاقتصادية، أما المشكلات السياسية والاجتماعية والثقافية فهي أعراض أفرزتها الأزمة الاقتصادية لكونها الأزمة الأم التي هي وراء كل أزماتنا وأحوالنا المنهارة والمتردية باستمرار، فالعمل غير فعّال وغير منتج وهو شرط تطور الاقتصاد وازدهار الحياة عامة، ووسائل العمل بدائية لا تواكب العصر في منتجاته التكنولوجية ومناهجه التقنية، وإن وجدت التكنولوجيا فهي غير محلية الصنع بل مستوردة تُعزّز التبعية الاقتصادية التي بدورها تُعزّز التبعية السياسية والثقافية وبالتالي تُعرّض التابع للاستعمار بمختلف أشكاله، أما الإنتاج الاقتصادي في القطاع العام أو في القطاع الخاص في جميع المجالات الاقتصادية من دون استثناء فهو هزيل في الكم والنوع غير قادر على دخول السوق الحرّة ومنافسة المنتج الاقتصادي العالمي لأسباب كثيرة بعضها ذاتي وبعضها موضوعي، الأمر الذي جعل حياتنا الاقتصادية والاجتماعية استهلاكية غير منتجة تعيش على الواردات ولا تصدر إلاّ الثروة الطبيعية التي تستثمر في استخراجها وتسويقها الشركات الأجنبية وتتلقّى بلداننا العائدات النفطية وغيرها من دون إنتاج وتصدير، في مقابل دول أخرى لا تملك الثروة الطبيعية مثل اليابان لكنّها في مصف الدول الأكثر تصديرا لمنتجاتها الاقتصادية حتى أنّ الأسواق العالمية الكبرى في الغرب الأوربي وفي الولايات المتحدة الأمريكية الدولة الأكثر تقدما في العالم المعاصر وفي غيرها من بلدان العالم صارت هذه الأسواق مستعمرات يابانية اقتصاديا بالنظر إلى البضاعة اليابانية المصدرة إليها، وهذا ما يخشاه الغرب لأن المعركة المعاصرة معركة إنتاج ووسائل جبهة اقتصاد التفوق فيها يضمن قوّة الدولة وسيادتها وخسارة جبهة الاقتصاد يترتب عنها خسارة جبهات أخرى في الأمن والسياسة والثقافة وغيرها مع فقدان السيادة والسقوط في التبعية، وهذا هو حال البلاد العربية والإسلامية اقتصاديا، فلا قيمة للعمل باعتباره شرط بناء الاقتصاد وتطويره وأساس الحياة الكريمة، ولا إنتاج اقتصادي قويّ كمّا وكيفا في مستوى المنتجات الاقتصادية المعاصرة وبالمعايير العالمية العلمية والتكنولوجية، ولا شبكة علاقات اجتماعية اقتصادية تسمح بتطوير الإنتاج وتضمن الاكتفاء الذاتي وتحيل الحياة الاقتصادية بما فيها من سواعد وجهود ورؤوس الأموال والثروة الطبيعية إلى منبع رزق ومصدر إنتاج المال وتزكيته وتحقيق التنمية الشاملة، لأنها شبكة مختلة بسبب غياب آليات وقوانين وتقاليد وثقافة راسخة تمجد العمل ووقت العمل وتحترم رب العمل لكونه رب العمل لا لغاية أخرى وتبني الثقة بين أطراف العملية الإنتاجية، العامل ورب والعمل ووسائل العمل ومنتجات العمل وغيرها، ما زاد في تعفن الأوضاع الاقتصادية وفسادها هو أن الشعوب العربية والإسلامية شعوب استهلاكية تستورد وتعيش على العائدات النفطية وغيرها فهي تميل إلى الكسل والخمول لا إلى الجد والاجتهاد والمثابرة فقضى عليها التواكل ولم تبذل الأنظمة الحاكمة الوسع في فرض إستراتيجية تدعم النهوض الاقتصادي المأمول في ظل النظام الرأسمالي السائد الذي كثيرا ما يبرر به البعض فشل السياسة الاقتصادية والعجز عن التنمية الشاملة بحيث لا يمكن الفصل بين الإيديولوجي والاقتصادي والنظام الرأسمالي في كثير من جوانبه يتعارض مع القيم الموروثة في العالم العربي والإسلامي ولا يعكس حاجيات ومطالب الإنسان العربي المسلم الأمر الذي جعل هذا الأخير متخلّفا ولم يجد سبل الخروج من أزمته العميقة.

6- الأزمة والثقافة:

على الرغم من عدم قدرة أي أمّة من الأمم التخلّي التام عن تاريخها وتراثها وثقافتها وسائر الأفكار والعادات والتقاليد الموروثة عن الأسلاف لأنّ التراث سنّة كونية وضرورة حضارية وحتمية في التاريخ، نجد الكثير من الباحثين يربطون أزمة العالم العربي والإسلامي الحديث والمعاصر بالحياة الفكرية والثقافية التي تشهدها شعوبه ربطا سببيا حتميا، ويعتبرون النماذج الثقافية والفكرية والأنثروبولوجية العربية الإسلامية الراسخة في فكر وسلوك العرب والمسلمين يحيون عليها ولا يرضون عنها بديلا هي المسئولة عن انحطاطهم وعجزهم عن استيعاب الراهن الحضاري ومواكبته، حيث خلت العلوم الدينية الإسلامية العقلية والنقلية والنقلية العقلية من التعاطى الإيجابي مع التطور الذي شهدته العلوم الإنسانية والاجتماعية في حضارة الغرب الحديث والمعاصر وأن تكون في مستوى هذا التطور، أما العلوم التجريبية الطبيعية والتكنولوجية وكذلك العلوم الدقيقة عرفت ازدهارا كبيرا في عصرنا لم تستطع ثقافة العرب والمسلمين الراهنة التي يغلب عليها الطابع التراثي التاريخي استيعابه والتعامل معه على سبيل الشراء والاستهلاك لا على سبيل التجديد والإبداع والإسهام في تطوير العلم والتكنولوجيا.
أما الجانب الفكري والفلسفي في الثقافة العربية الإسلامية الراهنة يتأرجح بين التراث والوافد فهو تراثي محض أو تغريبي بحت أو توفيقي بين الاثنين وقد يكون تلفيقيا، ولا وجود لفلسفة عربية إسلامية حديثة ومعاصرة استطاعت أن تهضم الفكر الغربي المتشعب والمتنوع في المنطلقات والأسس وفي المناهج والأهداف، وتنطلق من الواقع المعيشي ومن التراث لتؤسس لنهضة حقيقية عكس ما يحدث الآن من تغيير في أشكال الحياة ومظاهرها لا في المضامين الأمر الذي يزيد في تعميق الأزمة وتفاقم المشكلات وتعزيز التبعية الفكرية والثقافية، فالعلوم والتكنولوجيا المتطورة المعاصرة التي يُقبل على شرائها واستهلاكها العالم المتخلّف تتضمن قيّما تعكس فكر وثقافة وأهداف الشخصية المنتجة، وهي قيّم قد لا تكون بريئة من محاولات غزو الغير ثقافيا والمساس بسيادته التاريخية وبكرامته الفكرية وطمس هويته في الوقت الذي تحافظ فيه كل أمة من أمم العالم المتقدم على ذاتها وتُسخر ما لديها من إمكانات لذات الغاية، وإذا كانت مظاهر الحياة الثقافية شتى، أفكار في الدين والعلم والفلسفة والأدب وغيره وأعمال في الفن والتقنية وغيرها مما هو عملي أنثروبولوجي من أعراف وعادات وتقاليد، هذه المظاهر في عالمنا العربي والإسلامي المعاصر ارتبطت لدى الأكثرية بالتاريخ والتراث وعجزت عن التكيّف مع الواقع الراهن الذي تسيطر فيه ثقافة الغرب وقيّم حضارته متمثلة في قيّم الحداثة التي قامت عليها النهضة الأوربية وأبرزها العقلانية والعلمانية والحرية والعلمية والديمقراطية والتحديث وما رافقها من مبادئ تخص حقوق الإنسان والمحافظة على البيئة وفظ النزاعات بين الدول وحماية الشعوب من الحروب وأسلحة الدمار الشامل، وهي قيّم شعارات لا ممارسات لأنّ مبادئ الحداثة والتحديث تنطلي على شعوب وأمم العالم المتقدم لا العالم المتخلّف.
إنّ التركيبة الثقافية في البناء الحضاري الراهن ذات طابع مادي استهلاكي آني لا اعتبار فيه لمطالب الفكر والروح والوجدان في حين مازالت الثقافة العربية الإسلامية روحية دينية مشحونة بالعواطف والمشاعر لم تستطع استيعاب ثقافة الغرب ولم تقدر على مواجهتها وتجاوزها لغياب شرطي التقدم الفكري والثقافي وهما الحرية والإبداع، فثقافتنا تكرارية اجترارية للموروث التاريخي أو للوافد الخارجي أو توفيقية تلفيقية بين الموروث والوافد ولم تبدع فتتجاوز الموروث والوافد وتشارك في الإعمار الثقافي والحضاري الراهن، وما زاد في تفاقم الوضع الفكري والثقافي في اتجاه التدهور والانحطاط في عالمنا العربي والإسلامي ظاهرة عولمة الثقافة المعاصرة من خلال فرض ثقافة العولمة، ثقافة الحداثة وثقافة ما بعد الحداثة وقيّم الغرب الأوربي وأمريكا الشمالية الفكرية والمادية والعملية في الحياة عامة، كل هذا صار يمثل التوجّه الثقافي العام الأوحد الذي تفرضه قوى المركز في معادلة المركز والأطراف في سياق العولمة عامة والعولمة الثقافية خاصة على جميع شعوب العالم، بما في ذلك الشعوب العربية والإسلامية التي تئن تحت وطأة الاستعمار ومخلّفات الاستعمار وتحت ضربات الغزو الفكري والثقافي الموجعة في قلب الهوية العربية الإسلامية ناهيك عن الآلام التي تعانيها أمتنا العربية والإسلامية بسبب الذين يطعنون كرها ومكرا في قيم ورموز هويتنا الدينية والثقافية.
يستغل المركز كل الوسائل والأساليب المتاحة المشروعة وغير المشروعة لتمرير المخطط الثقافي والمشروع الفكري للعولمة الثقافية وللجمع بين ثقافة العولمة وعولمة الثقافة، أي التوحيد بين الانتشار والانصهار، انتشار ثقافة العولمة التي هي ثقافة المركز القويّ الطاغي المتجبّر وانصهار ثقافة من في الأطراف الضعيف المتهيّب المقهور المغلوب على أمره، المركز يستغل سائر وسائل الإعلام والاتصال ووسائل التثقيف والمثاقفة والتجارة والمال والاقتصاد والسياسة والفن والعلم والتكنولوجيا وغيرها وحتى الجيوش وقوة الحديد والنار إن استدعت الضرورة ذلك، في ظل هذه الأوضاع الثقافية والفكرية الفاسدة المتعفنة لم تستطع أمتنا الحياة على الموروث وحده ولا هي تمسّكت به ولا أن تحيا على الوافد وحده ولا اندمجت فيه بل تعيش حقيقة أزمة مشروع فكري وثقافي وهي أزمة يعدّها العديد من المفكرين والمثقفين بأنّها المعضلة الأمّ التي وراء تخلّفنا.

7- الأزمة والتربية:

لا شك في أنّ المنظومة التربوية وبما تتأسس عليه من مبادئ وقيّم وبما تتحدد به من مكونات مختلفة ومن وسائل ومناهج وأهداف تُشكل أساس بناء الإنسان الفرد والمجتمع، تحافظ على الكيان الإنساني الفردي والاجتماعي وتؤثر فيه بشكل ملموس سلبا أو إيجابا، تمنحه القدرة على التطور والازدهار أو تدفع به في اتجاه التخلّف والانحطاط، وذلك للدور الذي تلعبه الأطراف الفاعلة والمؤثرة في المنظومة التربوية، متمثلة في الأم والأب والأسرة والمدرسة وسائر مؤسسات المجتمع السياسية والثقافية والإعلامية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية عامة، ولكل منظومة تربوية في أي مجتمع سياستها وفلسفتها يُحددها أهل الحل والعقد في المجتمع، وتتباين الفلسفات التربوية بتباين الشعوب والأمم في حضاراتها وثقافاتها ودياناتها، أما التربية في المجتمعات العربية والإسلامية كمنظومة اجتماعية وكفلسفة وكممارسات وكمناهج ونتائج معتلّة مثلها مثل بقية القطاعات الأخرى.
يرد الكثير من المثقفين علل وأمراض العالم العربي والإسلامي إلى اعتلال التربية وفسادها، وهو أمر يؤكده الواقع المعيشي ولا يختلف حوله اثنان، لكن هذا الوضع لا يؤهل التحليل الموضوعي لوضع التربية ولظروف الأزمة العميقة للجزم بأنّ الأزمة الأم والأصل هي أزمة تربية، لأنّ فساد التربية واختلال المنظومة التربوية وفشل فلسفة التربية في بلادنا له عوامله وظروفه الذاتية والموضوعية، على الرغم من أننا نملك من التاريخ التربوي المضيء ومن القيّم التراثية المُشرقة في التربية ومن المعالم التربوية الحضارية الراقية ما يسمح لنا باحتلال الصدارة والقمّة في الميدان التربوي بين أمم العالم، بحيث لم تعد القيّم التربوية الموروثة في الأسس والمناهج والأهداف كفيلة بضمان نشء مكفول الإعداد البدني القويّ والتكوين النفسي والعقلي السليم والتنشئة الاجتماعية اللاّزمة، ولم نستطع إيجاد إستراتيجية تربوية قادرة على الجمع والتوحيد بين الموروث والوافد من دون تلفيق في التربية، تدعم بعث التراث وإحياء قيّمه الغرّاء وتستفيد من التطور الذي عرفه العصر وتستجيب لسائر التحدّيات التي تفرضها المرحلة الراهنة، لأنّنا لا نقدر على الحياة من دون هويتنا وتراثنا وتاريخنا ولا من غير خوض غمار معركة الاندماج في الركب الحضاري.
في ظل الوضع الصعب والخطير الذي تعيشه التربية في بلادنا لم يتحدد المشروع التربوي المنشود ولم تتضح معالمه، والمشروع التربوي في أي مجتمع هو أساس بناء إنسان هذا المجتمع، الإنسان الفرد والإنسان الجماعة، وعدم وضوح المشروع التربوي في المجتمع في حقيقته غياب مشروع بناء المجتمع، يعرّض المجتمع للعواصف من مختلف الأشكال والألوان، فلا يعرف الاستقرار ولا النماء والازدهار، لأنّ مشروعنا التربوي غير قار فهو منقسم على نفسه سياسيا ودينيا وطائفيا ومذهبيا، انقسام سلبي يحكمه صراع وجود وبقاء أي صراح تناحر واقتتال لا صراع عمل وإنتاج وتعاون، على عكس ما يجري لدى الأمم المتقدمة، الصراع فيها في اتجاه الأفضل والأقوام في التربية وإعداد الأجيال، ولأنّ المشروع يتأرجح بين كونه عربيا إسلاميا وكونه تغريبيا وبين كونه يجمع بين الاثنين، ولأنّ المشروع لا يعكس بصدق مطالب وحاجيات الأمة في الحياة عامة لتأثره بالتطورات المعاصرة ولا يتماشى مع العصر ولا يستجيب لتحدّياته لأنّه ينطلق من قيّم الماضي ويهدف إلى بعثها من جديد.
مجتمعاتنا العربية والإسلامية بلغت قمّة الانحدار التربوي بسبب الفشل التام الذي انتهت إليه المؤسسات التربوية والاجتماعية، ولم تقف هذه المؤسسات عند الفشل بل راحت تُسهم في إفساد الأجيال أفراد وجماعات وباستمرار، فالأسرة لم تعد تضطلع بالدور التربوي المنوط بها لتفككها وانفتاحها على قيّم أخرى غريبة عنها واستعمالها للتكنولوجيا المعاصرة خاصة تكنولوجيا الإعلام والاتصال والإشهار التي جرّت على الأسرة وابلا من الويلات تسبب في إعاقتها تربويا وأخلاقيا، أما الظروف المأزومة التي تعيشها المدرسة في المعلم والمتعلم وفي عمليتي التعليم والتعلم وفي المناهج والمواد التعليمية وفي كافة مكونات الفريق التربوي وفي محيطها وفي الوصاية عليها وفي سياسة التعليم وفلسفته، كل هذا جعل بلداننا في ذيل قائمة بلدان العالم بالنسبة لنتائج التعليم المحصودة، ناهيك عن الأمية والجهل الذي يوصف به الطلبة والأساتذة في جامعاتنا، بحيث تُمنح الشهادات العلمية الجامعية وهي لا تعكس المستوى العلمي والبيداغوجي والتربوي لحامليها ففيهم من الضعف العلمي والتربوي واللغوي ما يضعهم في درجة الجهلة والأميين العجزين عن منافسة ذوي الشهادات في البلدان المتقدمة، أما عن المؤسسات الاجتماعية الأخرى ذات الطابع التربوي، مثل وسائل الإعلام والتواصل والمسرح والمكتبات ودور النشر والمؤسسات الاقتصادية والأمنية وغيرها مثلها مثل الأسرة والمدرسة، بل هي تُلقي اللّوم على الأسرة والمدرسة بحكم طبيعة مهامهما وتعتبرهما مسئولتين عن فساد التربية والنشء، وفي هذه الحالة تغيب المسئولية وتتوزع على أطراف عديدة من دون إستراتيجية تربوية مضبوطة تحدد المشروع التربوي بدقة وبكفاية في الأسس والمناهج والأهداف فتزداد الأوضاع تعقيدا وتأزما، ويزداد معها المجتمع فسادا في أفراده وجماعاته وفي حياته عامة وينعدم الأمل في الخلاص.

8- الأزمة والدين:

إذا كان في الإنسان جانب إيماني روحاني فطري يدفعه نحو معرفة الغيب وربط حياته نظرا وفكرا وعملا وممارسة في المبدأ والمسار والمصير بالدين وما يحتويه من معاني وقيّم، وإذا كان بطبعه ميّالا إلى المعتقد الديني وإلى التجاوب مع الشعائر والطقوس والعقائد الدينية، هذا يعني الدين يمثل أحد المرجعيات الرئيسية للمعرفة الإنسانية التي تحدد نمط حياة الإنسان وتوجهها وتتحكّم فيها، مثله مثل العقل والعلم، حتى أنّ الدين جيء لأجل ترشيد العلم الذي هو من إنتاج العقل، والناس نوعان مؤمن بالدين وكافر به ملحد، والكافر بالدين له دينه ومعتقده الخاص، والمعتقدات الدينية التي عرفها الإنسان ولازال يعرفها كثيرة جدّا ومتنوعة، الفكر الإسلامي يقسّم الدين إلى قسمين، وحي سماوي إلهي أوحى به الله لأنبيائه ومُرسليه ليصححوا أخطاء البشر في حياتهم وليكونوا شهداء على الناس ويمثله الإسلام، ووحي إنساني أرضي أوحت به عقول الناس وأنفسهم ضعفا وقصورا وخوفا ورهبة وطمعا ورغبة وتمثله سائر المعتقدات الدينية غير السماوية، وأمام صعوبة الحياة وجد الإنسان ضالّته في الدين مثلما وجدها في العلم وفي الأخلاق والفلسفة والفن وفي كثير من المرجعيات المعرفية النظرية والعملية، وامتزج الدين وتلاحم مع كافة جوانب الحياة ومرجعياتها لكونه عقائد إيمانية فكرية نظرية وشرائع عملية تطبيقية يرى الإنسان بأنّ الاستغناء عنها أمر مستحيل.
بزغت شمس الإسلام في بلاد العرب ثم انتشر ضياؤها في مختلف أصقاع المعمورة، وكان للعرب ولغتهم وثقافتهم دور هامّ في نشر تعاليم الإسلام في العالم المترامي الأطراف وفي بناء حضارة رائدة لم تكن حكرا على العرب وحدهم بل أسهمت فيها شعوب مختلفة الأجناس والألوان والثقافات وحتى الديانات وذلك بفضل قوّة الإسلام وعظمته في دفع أتباعه نحو قيّم التوحيد والإيمان الصادق الصحيح والوحدة والتعاون والتسامح والعمل والإبداع، القيّم التي حرّرت الإنسان من ربقة العبودية والجور والفرقة والانقسام والتخلّف والانحطاط في الفكر والمعتقد وفي السلوك وفي الحياة عامة، القيّم التي افتقدتها الشعوب أفراد وجماعات في عالمنا العربي والإسلامي المعاصر تحت تأثير عوامل كثيرة موضوعية مثل الاستعمار والغزو الفكري والثقافي والانفتاح على الآخر فكرا وثقافة وتكنولوجيا ومن دون حساب أو رقابة والعمالة للآخر والعولمة وغيرها، وعوامل ذاتية كثيرة أهمّها ضعف الإيمان بالله واختلال الفكر وعدم التطابق بين النظر والعمل والانقسام والفرقة والتخلّي عن قيّم الإسلام العليا السمحة التي عرفها المسلمون الأوائل وكانت وراء نهضتهم وحضارتهم والاشتغال بالدنيا على حساب الدين، الأمر الذي جعل المسلمين يعيشون بحق أزمة عميقة في دينهم ودنياهم.
أزمة المسلمين في دينهم يعكسها حالهم في الحياة عامة،فكرا واعتقادا وتعبدا ومعاملات، فهو حال مختل ضعيف وفاسد، بحيث لا ينسجم فيه المظهر مع المخبر ولا الأصل مع فروعه ولا المعتقد مع الممارسة ولا القول مع الفعل ولا الفعل الدنيوي مع الفعل الأخروي، حياة أغلب الناس يطبعها النفاق والرياء والتناقض، تناقض في فهوم القرآن والسنّة بل تناقض في الفهم الواحد لكتاب الله وسنّته، تمذهُب وتناقض بين المذاهب إلى حد الحرب والاقتتال، وللأسف هذه الحال المتردّية المزرية تُحسب على الإسلام وليس فقط على المسلمين لدى الأمم المتقدمة ولدى مثقفيها وعلمائها ومفكريها بقد وبغير قصد، حيث أصبح الإسلام متهما في عقائده وشرائعه بالقصور والتخلّف والانحطاط وهو سبب أزمة المسلمين ومتهما بممارسة العنف والإرهاب وعدم قدرته على استيعاب قيّم الحضارة المعاصرة المادية والفكرية وعلى التطور والازدهار، وهو حكم جائر يجانب للحقيقة بحيث لا يميّز بين الإسلام والمسلمين، فشتان بين قيّم الإسلام وأحكامه وتعاليمه في الكتاب والسنّة وبين من يحملون اسم الإسلام ويدّعون الانتماء إليه وتمثيله والدفاع عنه والإسلام منهم براء لما هم عليه من فكر مُناف لعقائده وسلوك مُباين تماما لشرائعه، فالفكر جامد راكد فاسد والسلوك متعفّن لا خير فيه حريص على الموبقات وعلى كل الفواحش ما ظهر منها وما بطن، معظم الناس فاسد في ذاته مفسد لغيره ولوطنه ولدينه.
الحال الفاسد المتعفّن جعل المسلمين ومن ورائهم الإسلام في موقع المغلوب الضعيف المتهيّب وفي قفص الاتهام بالانحطاط والعنف والإرهاب خاصة ممن يكيدون للإسلام والمسلمين من القدماء أو من الجدد المعاصرين من أصحاب الديانات والثقافات الأخرى البغيضة الحاقدة مثل أصحاب المسيحية المتطرفة وآل صهيون والماسونية وسائر الاتجاهات الدينية والثقافية الموروثة والجديدة المعارضة للإسلام في السرّ والعلنية، ومادامت هذه الاتجاهات في موقع قوّة يمتلك أهلها التقدم العلمي والتكنولوجي والسيطرة العسكرية، فالقوّة مسخرة ضد الإسلام والمسلمين المضطهدين في مختلف بقاع الأرض بغير شفقة لا رحمة، وردود الأفعال العنيفة لبعض الجماعات الإسلامية على الاضطهاد الذي يتعرّض له المسلمون زاد في درجة اتهام الإسلام والمسلمين بالإرهاب والإسلام براء من هذا وسلّط عليهم أقصى العقوبات المادية والمعنوية ووجد أعداء الإسلام ضالتهم في ذلك، فتفاقمت مشكلاتهم وتعمّقت أزمتهم وازدادت أوضاعهم تأزما ولا أمل في نجاتهم.
لما صارت العولمة عقيدة العصر الذي نعيش فيه ودين رجال الاقتصاد والمال والأعمال والإعلام وأباطرة السياسة والحكم أخذت صبغة العالمية عنوة وتعسفا باعتبارها المنظومة الثقافية والفكرية والسياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية يعكسها النظام العالمي الجديد ومن ورائها الأبعاد العقائدية المسيحية المتطرّفة المتحدة مع الصهيونية العالمية والماسونية التي تعكس آمال وتطلّعات القوى في المركز التي تسعى جاهدة وبكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة إلى الهيمنة على العالم بأسره وفرض هذه المنظومة القيمية المادية والمعنوية، ولا سبيل لشعوب الأطراف وأنظمتها السياسية والاجتماعية والتراثية والتاريخية الوقوف أمام رياح العولمة التي تجرفها باستمرار من خلال الغزو الثقافي والفكري والعلمي والتكنولوجي، ومن خلال القوّة العسكرية وفرض شرائع وقوانين عن طريق هيئات أممية سياسية واقتصادية وثقافية وأمنية وعسكرية وباسم حقوق الإنسان والديمقراطية وغيرها من الوسائل والأساليب المشروعة وغير مشروعة من شأنها تحمي القويّ الظالم وتزيد في قهر الضعيف المظلوم، وتكرّس هيمنة المركز على الأطراف، فتحوّل العالم إلى غابة، القويّ فيها يأكل الضعيف، وإلى ليل مظلم مخيف رهيب، وإلى بحر هائج فيه للسمك الصغير الحق في أن يسبح أما السمك الكبير فله الحق في أن يأكل، في هذا الجو المأزوم بشدّة وبحدةّ وباحتدام الصراع العربي الإسلامي غير الندّي علميا وتكنولوجيا وماديا وهو صراع ديني وفكري وسياسي واقتصادي وحضاري مع الاستعمار بمختلف أشكاله ومع التبعية بجميع أنواعها ومع الصهيونية العالمية ومع المسيحية المتطرفة ومع جميع التيارات الدينية والسياسية والفكرية والفلسفية الحاقدة على الإسلام والمسلمين، لا يجد المسلمون لضمان الغلبة في حلبة الصراع وتحقيق التفوق إلاّ سبيل التجديد الحضاري والنهوض الاجتماعي ولا سبيل غيره، والتغيير يبدأ من الذات ثم يشيع في المجتمع. عملا بالقرآن الكريم:"إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهمّ.الرعد: الآية 11. والحرص على تمثّل القيّم الخمس في النظر والعمل: الدين،العلم،العدل،الوحدة، والعرض.

9- الأزمة والأخلاق:

قال تعالى في نبيّه الكريم محمد عليه الصلاة والسلام: "وإنّك لعلى خلق عظيم". القلم: الآية 4. وقال عليه الصلاة والسلام: "إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". صححه الألباني.
قال أحمد شوقي:
"إنّما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا."
وقال حافظ إبراهيم:
"لا تحسبنّ العلم ينفع وحده ما لم يتوّج ربّه بخلاق."
تأكّد في القرآن الكريم في أكثر من مشهد قصصي أو وصفي أو تمييزي بين الخير والشر وبين والقبح والجمال وبين الحق والباطل أو تربوي توجيهي أو وعدي أو توعيدي في العقيدة وفي الشريعة ما يتعلق بالإيمان والعقائد أو ما يخص السلوك العملي من عبادات ومعاملات وسائر جوانب الحياة من دون استثناء أنّ مكارم الأخلاق شرط الاستقامة في السلوك البشري وسلامة الحياة الإنسانية، وأنّ رذائل الأخلاق سبب فساد السلوك البشري وشقاء الحياة الإنسانية وبؤسها، ولولا تحلّي الإنسان بالمحامد والفضائل نيّة وفكرا وتطبيقا لافتقد خصائصه الإنسانية المميّزة له عن المخلوقات الأخرى وما أكثرها ولصار المجتمع الإنساني قطيعا حيوانيا تحكمه شريعة الغاب.
كثيرا ما يُوصف الإنسان بأنّه كائن أخلاقي ويكتسب الهوية المميّزة له على هذا الأساس، على الرغم من كونه كائنا له الكثير من المميزات والخصائص مثل العقل والشعور والاجتماع وغيره، إلاّ أنّ مكارم الأخلاق لا تقف عند تمييزه عن غيره فقط بل تُقدّره وتكرّمه وتنزله منزلة لم ينزلها أحد في على وجه الأرض، تهبه القوّة الفردية بالثقة في النفس والشجاعة والكرامة والكرم والنبل والعفة والإيثار وغيره كما تمنحه قوّة الجماعة بالمحبة والعدل والإنصاف والتسامح والتعاون والتكافل والتضامن وغيره، فيستقيم حال الإنسان على المستوى الفردي والاجتماعي معا وتغيب أسباب الفساد في الحياة الفردية والاجتماعية فيعم الأمن والاستقرار وتتوفر شروط ولوازم البناء التاريخي والأعمار الحضاري، لقد ثبت في التاريخ والواقع وأكّد عليه الكثير من العلماء والمفكرين والمصلحين واتضح في الأديان والكثير من الأنظمة والشرائع التي عرفتها الإنسانية أنّ أي محاولة في سبيل النهوض الحضاري إن لم تقم على الأخلاق الحميدة تواجه صعوبات ولا يستقيم حالها ومآلها الفشل عاجلا أم آجلا، أما الحضارة التي تُعمّر طويلا وتُخلّد مآثرها وأمجادها تلك التي تتأسس على قيّم دينية نيّرة سامية ومبادئ أخلاقية فاضلة.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير" رواه الترمذي وغيره. ففي الحديث أمر والأمر واجب والواجب إلزام إن لم يُلتزم به فتبعة ذلك العقاب، وفي الحديث تحذير من عواقب عدم الالتزام بالواجب وهي الفتنة والفساد على مستوى الفرد وعلى مستوى الأسرة ثم على مستوى الأمة والإنسانية جمعاء. ويتضح من الحديث النبوي الشريف ومن أحاديث أخرى كثيرة وقبل ذلك من القرآن ومن التاريخ أنّ الأخلاق غير الدين، قد يتخلّق المرء بالخلق الفاضل ولا يكون متديّنا بل قد يكون ملحدا وقد يتخلّق بالخلق السيئ ويكون متديّنا، كما استطاع العقل بما أوتي من قوى أن يتدبّر الوجود الإنساني وسلوكه في الحياة ويميّز بين الخير والشر والقبح والجمال والحق والباطل، ويؤسس لمعرفة معيارية تمثل ما يجب أن يكون عليه الفعل الإنساني، تستند هذه المعرفة إلى عدد من المعايير التي يتم بموجبها معرفة الخير في الأفعال والقيام بها ومعرفة الشرّ في الأفعال واجتنابها، ولما كان العقل بمفرده معرّض للزيغ والضلال جاء الوحي لاهتداء العقل والإرادة، وعليه ارتبطت الأخلاق نظرا وعملا بعدد من القوى والمعطيات الإنسانية كالنفس الإنسانية والإرادة الإنسانية والضمير الإنساني الفردي والاجتماعي والحرية الإنسانية الفردية والاجتماعية والمسئولية الفردية والاجتماعية والدين والثقافة والفن والسياسة والاقتصاد وكافة جوانب وقطاعات الحياة لما للأخلاق من دور كبير في تحديد وتوجيه الحياة الإنسانية برمتها ولما لها من قوّة التأثير عليها.
عرف العرب منذ القديم البعيد مكارم الأخلاق، سجّل التاريخ أمجادهم في الشجاعة والبطولة والكرم والإباء والشهامة والنبل والعزّة والكرامة، كما دوّن مآثرهم في الاتحاد والتعاون والتكافل والتضامن، ومازالت هذه المكارم تتحلّى بها مواقفهم وأفعالهم حتى الآن لكن ليس بالصورة التي كانوا عليها في القديم، طبعا الجانب المشرق الأخلاقي لدى العرب قديما كان في مقابل جانب مظلم أسود أخلاقي تجسد في الكثير من المبادئ والقيّم السلوكية مثل وأد البنات والنعرة القبلية والنهب والمسموح به خارج القبيلة الحروب لأتفه الأسباب والعزّة بالإثم والشرك وغيره. وبعد مجيء الإسلام ونزول الوحي على النبي العربي بلسان عربي أقرّ القرآن وأقرّت السنّة مكارم الأخلاق التي وجد العرب عليها، وتمّت محاربة كل ما هو سيئ فاسد مفسد في حياتهم، فتشكّلت حياة جديدة بأخلاق جديدة أضافها الإسلام إلى الموروث الأخلاقي العربي فأتمّ مكارم الأخلاق، وصار الرصيد الأخلاقي العربي بعد الإسلام يتمتع بالتمام والكمال الإسلامي وبطابعه الإنساني العالمي يخاطب ويرضي العقل والوجدان الإنساني عامة ويتجاوب إيجابيا مع سائر الديانات والثقافات والحضارات السابقة والمعاصرة له.
بواسطة الرصيد الأخلاقي العربي الإسلامي انفتح العرب على العالم وعلى كافة شعوبه وثقافاته تعارفا وتوحّدا لضمان راحة الإنسان المادية والروحية في الدنيا وفي الآخرة، وصارت أخلاق الإسلام ذات الطابع الرسالي الشمولي العالمي الحضاري هي المرجعية في النظر والعمل في جميع الأمصار التي تعرّفت شعوبها على الإسلام وتواصلت مع المسلمين، كما استطاعت أخلاق الإسلام المجيدة الخالدة أن تبني حضارة قويّة استفادت من الحضارات التي سبقتها والتي عاصرتها واحتوت جميع الثقافات والأفكار، ولم تُقص طرفا ولم تعمل على أساس الجهة أو العرق أو الطائفة أو المذهب بل احترمت العقل والإنسان وكانت أصيلة، التفوق فيها للتقوى والعمل الصالح للفرد والجماعة والأمة والإنسانية جمعاء وللإبداع والازدهار الثقافي والفكري والمادي، فضربت أروع الأمثلة في التواصل والحوار والتسامح والتعايش السلمي في وئام وأمان وسلام وفي الحرية الدينية والفكرية وفي ضمان جميع حقوق الإنسان المدنية وفي تنظيم الحياة وفي حرصها الدءوب على تحقيق التوازن بين الله والإنسان بين الأرض والسماء بين العقل والنقل بين المادة والروح بين الأخلاق والسياسة بين الدنيا والآخرة، بذلك جمعت الحضارة الإسلامية بما امتلكت من أخلاق رفيعة ومبادئ نزيهة بين جميع الثقافات وجميع شعوبها وصححت مسار حياة هذه الشعوب والأمم وأثّرت بقوّة وبجلاء في الحضارة الغربية التي جاءت بعدها التي انحرفت من جهتها عن المسار الأخلاقي الرفيع الذي شهدته حضارة الإسلام والذي انتهى بها إلى عالم مليء بالشقاء والشرّ والفساد وانعدام الأمل في الوصول إلى برّ النجاة.
إنّ العالم العربي والإسلامي المعاصر يعيش أزمة أخلاقية عميقة خانقة متفاقمة باستمرار، تعدّدت مظاهرها وتداعياتها وأعطت صورة سوداء قاتمة سلبية عن الحياة في جميع قطاعاتها بالنسبة للأفراد والجماعات والأمة، أزمة اختلط فيها الخير بالشر والحسن بالقبح والحق بالباطل والخطأ بالصواب، سقطت القيّم الفاضلة والمثل العليا من قاموس حياتنا الراهنة ولم يعد الاهتمام منصبا إلاّ على مظاهر الحياة المادية وحاجات البطن وعلى المال من دون اهتمام بمطالب الروح الفكرية والثقافية والدينية والأخلاقية التي هي النصف الثاني للإنسان بحيث لا يستطيع أن يعيش بدونه، الأمر الذي غذّ النزعة المادية الحيوانية في حياة الناس ونمّ الميول والاتجاهات الشهوانية لديهم، وصار معيار الصدق في القول وفي الفكر والمعرفة والثقافة عامة ومقياس السلامة والاستقامة في السلوك في الواقع المعيشي هو الربح المادي النفعي الآني من دون أدنى اعتبار للفضيلة المفقودة وللرذيلة المجلوبة ومن النظر إلى المنطلقات والمسارات والوسائل والسبل المعتمد عليها في الحصول على المنفعة المادية الآنية فكثيرا ما تُنتهك الحرمات وتُداس الفضائل وتُمارس الرذائل في سبيل مصلحة خاصة ضيقة آنية على حساب المصالحة العامة وعلى حساب مكارم الأخلاق.
لقد غرق العرب والمسلمون في الفساد الاجتماعي والانحلال الأخلاقي وفي التفسخ والمسخ السلوكي منذ أن أقصى حكامهم الأخلاق من الحياة السياسية وأبعدوها عن ممارسة السلطة والحكم فانعكس ذلك على الرعية التي أصبحت كولاتها تُعلن الحرب على كل مخالف وتعرّضه للخطر، وازداد الانحلال الأخلاقي توسعا وتفشيا مع مرور الزمن ومع الانفتاح على الغرب ونهضته وحضارته، وشكّل الاستعمار أحد أسباب المسخ الثقافي والأخلاقي والفكري الذي عرفته الكثير من الشعوب العربية والإسلامية في جميع البلدان التي تعرّضت للاحتلال الغربي الحديث والمعاصر، من خلال ممارسات شتى وبأساليب ووسائل شتى تستهدف القضاء على أخلاق العرب والمسلمين وعلى دينهم ولغتهم وثقافتهم وتاريخهم، وكان للقيّم التي تأسست عليها النهضة الأوربية الحديثة وهي قيم الحداثة والتحديث دورها البارز في صرف الحياة العربية الإسلامية عن موروثها الأخلاقي والديني شارك في ذلك التغريبيون من الحكام وممن يُحسبون على الفكر والثقافة والعلوم، فبجهودهم وحتى بعد تحرير الأرض من الاستعمار انتشرت قيّم الحداثة في شكلياتها لا في مضمونها، وتصارع الفكر الغربي اللّيبرالي مع الثقافة الاشتراكية، وكان الانتصار لأحدهما أو لهما معا على حساب الفكري الإسلامي في الأخلاق والمناهج والأهداف وعلى حساب اللّغة العربية التي تحوي هوية الأمة ولسانها وتراثها وتاريخها.
بفعل انتشار قيّم الحداثة خارج الغرب الأوربي وخاصة في مستعمراته، عرّض هذه المستعمرات لغزو ثقافي وفكري كاسح تجاوب معه التغريبيون بإيجابية كبيرة واستفادوا منه واستولوا على مراكز السلطة وصناعة القرار فحافظوا على مصالح الاستعمار ومثلّوه أحسن تمثيل في فرض ثقافته والدعوة إلى العيش وفق أملاءاته ومحاربة قيّم وتراث ودين وتاريخ الأمة، فبعدما كان الاستعمار ينفق على مستعمراته خلال الاحتلال صار يستعمرها من دون إنفاق بعدما تحرّرت الأراضي المحتلة، فهو يدير شؤونها السياسية والاقتصادية وينهب خيراتها وثرواتها الطبيعية وتعيش على ثقافته، حيث أصبحت شعوبنا الإسلامية المعاصرة تتشبّه في حياتها بمظاهر الحياة الغربية الأوربية والأمريكية في التفكير واللّباس والطعام وفي كل جوانب الحياة حتى أننا لا نستطيع التمييز بين ما هو تغريبي وما هو عربي إسلامي في كثير من البلدان الإسلامية.
إنّ الحداثة رسّخت قيّمها وصرنا نعمل على تعظيم الإنسان لا خالق الإنسان وتمجيد العقل والعلم لا الوحي الرباني الذي يدعو إلى إعمال العقل وإلى بذل الوسع في العلم وإلى فصل السياسة والسلطة ونظام الحكم والحياة السياسية عامة عن الدين والأخلاق، وما زاد في تكريس التبعية وتقوية غلبة الآخر وتعميق ضعفنا هو تخلفنا وعجزنا التام عن إنتاج ما نأكل وما نلبس وما نسكن فيه وما نركبه وكل شروط ولوازم الحياة، خاصة بعد التفوق العلمي والتقدم التكنولوجي الذي حققه العالم المتطور في العمل ووسائل العمل وفي الإنتاج في جميع جوانب الحياة زراعة وصناعة وتجارة وخدامات ونقل واتصال وإشهار وبحث علمي وتكنولوجي وغيره، إذ صار عالمنا المعاصر عالم العلم والتكنولوجيا، التكنولوجيا التي تحتكرها الأمم المتقدمة من دون اعتبار للعالم المتخلّف ولحقوقه على الرغم من أنّ المواثيق الدولية التي شرّعتها العولمة في إطار النظام العالمي الجديد تنصّ على احترام حقوق الإنسان وعلى حقّه في العلم والتكنولوجيا وفي العيش الكريم، لكنّ هذا يبقى مجرد شعارات زائفة، فما يجري في الواقع يندى له الجبين إذ تمارس القوى الكبرى أقسى صنوف المعاملات السيئة مع الأمم المستضعفة، منها ما يجري على الأراضي الفلسطينية وفي العراق وفي أفغانستان وفي غيرها من البلاد العربية الإسلامية وفي مختلف بقاع المعمورة.
إنّ تكالب القوى الكبرى على ثروات الشعوب المتخلّفة وحربها الضروس على ثقافاتها وأديانها خاصة على الدين الإسلامي وتعاليمه واتهامه وأهله بالتحجر والتخلف والعنف والإرهاب وتفوّق هذه القوى العلمي والتكنولوجي والعسكري وازدهارها الاقتصادي وفرض هيمنتها في السلم والحرب وبالقوة وبغيرها كل هذا زاد في المسخ والانحلال الذي تعرفه حياتنا في المغرب العربي وفي مشرقه وفي سائر البلاد الإسلامية، ومظاهر الانحلال الأخلاقي وتداعياته كثيرة كانت لها عواقب وخيمة على العروبة الإسلام والمسلمين، تفككت الأسرة ولم يعد لها الدور التربوي والأخلاقي والتعليمي الذي يحفظ للشخصية العربية الإسلامية كيانها ووجودها واستمرارها وفسدت العلاقات بين مكوناتها بين الأم والأب والأولاد والآباء والأجداد وغابت أواصر التماسك الأسري الدينية والأخلاقية التي جعلت من أفراد أمة الإسلام أسرة واحدة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى الرغم من التقدم في مجال العلوم والتكنولوجيا وفي تنظيم المجتمع والحياة عامة فقدت المدرسة الدور المنوط بها ولم تقدم ما عليها في مجالي التربية والتعليم وذلك لاستحالة الرسالة التعليمية التعلمية التربوية للمدرسة إلى وظيفة وإلى أرقام وإحصائيات ناهيك عن فساد العلاقات بين مكونات المدرسة الروحية المعنوية والمادية والتنظيمية والبشرية فلم تعد قائمة على حب العلم والتعلم والتربية لدى المعلمين ولدى المتعلمين ولا على الاحترام المتبادل بين أعضاء الفريق التربوي والإداري داخل المؤسسة التربوية ولم يعد العلم الذي تقدمه المدرسة معولا عليه في ظل وجود مؤسسات تعليمية خاصة شرعية وشرعية منافسة وفي وجود جهات تقوم بتعليم أبنائها خارج الوطن العربي والإسلامي ولم تنل المدرسة حقّها من الاهتمام والعناية والاحترام لا من قبل السلطة ولا من قبل عامة الناس مما جعل الناس يعزفون عن التوجه نحو العمل في قطاع التربية والتعليم الذي أصبح سببا في الفقر ومثارا للاستهزاء والسخرية.
لا الأم ولا الأسرة ولا المدرسة ولا الشارع ولا مؤسسات المجتمع ذات الطابع التربوي استطاعت أن تقوم بواجباتها التربوية وتحفظ لمكارم الأخلاق وجودها ودورها في حياتنا الأمر الذي جعل الأجيال من عقود من الزمن ضائعة تائهة طائشة في مهب رياح العصر كريشة لم يفلت أيّ منها من فساد الفكر والأخلاق إما أن تعيش عالة في بلادها أو تتحول إلى قنابل في اتجاه الإرهاب أو تنتحر في البحار بحثا عن ملاذ في الغرب الأوربي الملفوف بأنياب العولمة المتوحشة أو تهجر إلى ما وراء البحار لتُسهم في البناء الحضاري الغربي المعاصر وتدعم العولمة والنظام العالمي الجديد، في هذا الجو الأخلاقي الفاسد الذي لا كرامة ولا احترام فيه للإنسان ولا لمجهوداته وكفاءاته وهو مكرّم من الله أيّما تكريم ولا تقدير للعقل والعلم ومكارم الأخلاق وإنّما لسلطان الهوى والميل والشهوة والغريزة لا نجد من بيده سلطة القرار يدافع عن القيّم الدينية أو المبادئ الأخلاقية ولا نجد تقاليد في الفكر والسلوك تحترم العمل وتقدس الرغبة فيه وتتمسك بشروط النهوض والمدنية والتحضر وتقدّر القانون وعيا واستيعابا وامتثالا وتصون إيمانا راسخا وتمسكا فيه عزيمة وإصرار بقيّم العدل والحق والحرية من جانب الأفراد والجماعات.
أما مظاهر الفساد الأخلاقي وتداعياته في المجتمع كثيرة جدا وللأسف عمّت كافة قطاعات الحياة فهي في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية والتعليم والثقافية والفن والفكر والمؤسسات الأمنية والعسكرية وغير ها لم يسلم أيّ قطاع اجتماعي في بلاد العرب والمسلمين من التأزم الخلقي والأدبي والإنساني، سيطرة الأنانية والأثرة على الجميع والتهاب مشاعر الحقد والكراهية والبغضاء والغلّ في نفوس الناس تجاه بعضهم البعض، وفقدان الثقة المتبادلة بين الحاكم والمحكوم الثقة الشرط لاستقامة الدولة وأحوال الراعي والرعية، وسيطرة جميع الظواهر الخطيرة مثل الوصولية والتملق والرشوة والسرقة والنهب واغتصاب الأعراض وانتهاك الحرمات والاستبداد السياسي وانتشار الخمور أم الخبائث والمخدرات والاتجار بالأعراض وأعضاء جسم الإنسان وغيرها، فأصبح عالمنا العربي والإسلامي مضرب المثل في الإجرام والإرهاب والتخلّف والانحطاط، ومرتعا للمجرمين وللجريمة المنظمة وغير المنظمة من طرف أهله وأبنائه ومن قبل آخرين من مجتمعات أخرى، متهم في دينه وثقافته وتراثه وتاريخه، كرامته غير محفوظة وعرضه منتهك، فهو لم يستطع مواكبة الركب الحضاري العلمي والتكنولوجي، ولم يستطع أن يضمن الاكتفاء الذاتي لشروط حياة كريمة، ولم يستطع التمسك بقيّمه الدينية والأخلاقية التراثية، ماضيه ضائع وحاضره شريد ومستقبله مجهول.
يظهر من توصيف الأزمة الأخلاقية وعرض مظاهرها وتداعياتها أنّها أخطر الأزمات، لا الأزمة السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية أو التربوية أو حتى الدينية في درجة خطورة الأزمة الأخلاقية، من دون أن ننسى تأثير كل أزمة من هذه الأزمات على الأخرى وتعميقها، وفي الوقت الذي لم ينتبه فيه البعض إلى خطورة الأزمة الأخلاقية ومدى الدور الذي تلعبه في إيجاد المشكلات وخلق الأزمات، ويردّ أزمة المجتمع العربي والإسلامي وتخلّفه إلى السياسة أو المجتمع أو الدين أو غيره، ويشير إشارة عابرة إلى تأثير الأخلاق، فهذا البعض لا يميّز بالدقة الكافية بين العلة والمعلول والسبب والنتيجة، فإذا كانت الأخلاق صفات روحية فكرية نظرية ميدانها الفكر والوجدان والشعور والنيّة والإرادة وعملية تطبيقية مادية مجالها الواقع والتطبيق العلمي والعملي والجسماني والسلوك الملموس الملاحظ، بعضها فاضل مستحسن محمود وبعضها مذموم قبيح مستهجن، فإنّ الفكر قد يكون فاضلا وقد يكون قبيحا، وفي الوقت ذاته الفعل الملموس هو فكر في الأصل والمبدأ قد يكون فاضلا وقد يكون قبيحا.
وأيّ فعل في السياسة أو في التربية أو في الاجتماع أو في الاقتصاد أو في الثقافة أو في الدين أو حتى في الأخلاق فهو فكر مجسد في عمل مجلب للنفع أو الضرر محكوم عليه بالاستحسان أو الاستهجان، من هنا ترتبط كل قطاعات حياة الإنسان بالأخلاق في حركتها وفي نشاطاتها وفي نتائجها ارتباطا سببيا وحتميا، بحيث لا يمكن الحديث عن أي قطاع ما بأنه سلبي أو إيجابي من دون ربطه بالفكر الذي حرّكه والأنشطة التي جرت فيه إذا ما كانت مؤسسة على مكارم الأخلاق أو مبنية على الرذائل والمذمومات، فما بني على حسن الخلق من فكر وعمل في أي قطاع كان جاءت نتائجه محمودة وتداعياته طيبة ومظاهره مستحسنة أما ما تأسس على سوء الخلق من فكر أو سلوك في أيّة ناحية في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية الروحية والمادية جاءت آثاره وخيمة ومستهجنة، فالأصل في حسن الأفكار والأفعال أو قبحها وكذلك نتائجها أخلاقي لا هو سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو تربوي أو غيره، فالأزمة الأم والأصل في مجتمعنا العربي الإسلامي المعاصر أخلاقية بالدرجة الأولى، وكل الأزمات والمشكلات المآسي في حياتنا سببها الأزمة الأخلاقية، إنّ الاستبداد السياسي وكل المشاكل السياسية والفساد الاجتماعي وجمع المشكلات الاجتماعية والضعف الفكري والثقافي والتدهور الاقتصادي وضعف التربية والتعليم والتكوين والانحراف الديني العقائدي والشرعي يعود إلى التخلّي عن مكارم الأخلاق وممارسة الرذيلة وسيطرتها على العقل والقلب والشعور والوجدان وفي الحياة عامة، فالغرب تسيطر عليه الرذيلة في حياة الأفراد الخاصة وطابع حضارته ماديا لكنّ شعوبه تمتلك من الأخلاق الفاضلة الكثير بمقدار أهّلها ويؤهلها لامتلاك شروط النهوض والتحضر والتطور، فهي شعوب تحترم نفسها وتقدّر الإنسان كقيمة للإنتاج فتكرّمه وتقدس العمل وشروط النجاح والتفوق وتحترم العلم والعلماء والإبداع والمبدعين وتُطبق القانون معيارها في ترتيب الناس في العمل الكفاءة العلمية والأخلاقية على عكس ما يجري في عالمنا العربي الإسلامي المعيار فيه للعلاقات الخاصة العائلية والطائفية والولاء لصاحب المال والجاه والسلطان، فإلى متى ننتبه إلى أصل أزمتنا القيمي الأخلاقي الأدبي ونتحلى فكرا وممارسة قلبا وقالبا بالخلق الفضيل فننعم بالخير العميم الذي نعم به من قال تعالى في حقّه: "وإنّك لعلى خلق عظيم". القلم: الآية 4.

خاتمة
يتضح ممّا سبق أنّ أزمتنا حقيقة وواقعا معقدة عميقة وخيوطها متشابكة تتفاقم يوما بعد يوم، تركت أثارا خطيرة على حياتنا عامة، إذ حوّلت مجتمعاتنا إلى مواطن للفساد والاستبداد والجريمة بمختلف أنواعها وإلى أسواق تجارة الرذائل والمنكرات في الفكر والثقافة والسياسة والاقتصاد وفي كل مناحي الحياة، ويرتبط وضعنا المتردي المأزوم بدوافع كثيرة بعضها ذاتي حالّ فينا وبعضها موضوعي حالّ في الظروف والتحديات المعاصرة، أمّا السبب الرئيس المسئول عن أوضاعنا المزرية يتمثل في أخلاقنا التي لا ينسجم فيها القول مع الفعل والنظر مع العمل، أخلاق ذميمة مستهجنة تجعل أفعالنا قبيحة، ففساد الأخلاق في أفعالنا النظرية والعملية في حياتنا عامة هو المسئول الأول عن فساد هذه الحياة، وكل المآسي التي تعانيها شعوبنا هي نتائج أزمة الأخلاق، ولا مناص من الاعتراف بأنّ الأمم المتقدمة المعاصرة رغم أزمتها المادية والأخلاقية فهي ذات أخلاق عالية في التعامل مع الإنسان والعقل والعلم والعمل باحترام وتقدير، وبالتالي فأيّة محاولة للتفكير في حلّ هذه الأزمة من دون الانطلاق من الأزمة الأخلاقية عبث ومضيعة للوقت.