قراءة نقدية تحليلية في ( لا أريد )
للشاعر عاطف الجندي
***
بقلم محمد الزينو السلوم
شاعر و ناقد سوري

• مدخل : سبق لي و كنت في رحلة شائقة مع الشاعر عاطف الجندي في ديوانه الأول ( بلا عينيك لن أبحر ) و بعين مبصرة و بصيرة ركبت متن المجموعة الشعرية و مخرت بحر قصائدها ( مبنى و معنى ) و انتهيت إلى القول : ( وجدت نفسي محلقا في فضاءات الشاعر و بوحه والجميل ، و لغته العذبة و جملته الشعرية الشفيفة 00 كان محلقا مابين الخاص و العام 00 أخذني لواحاته الشعرية الخصبة و المليئة بالأحلام الوردية و الممزوجة بدموع الألم و رائحة الحزن 00 و بعض الفرح و الأمل 00 )
في الختام قلت : لقد حملنا الشاعر في بوحه إلى البحر و تجول بنا بعيدًا عن شواطئه ، و برغم العواصف و الأمواج عاد بنا إلى بر السلام و الأمان 00 و لكنه - كرمى لعينيها - لم يبحر 00 جعلنا نبحر نحن في أعماق عيون الشعر و و كيف لا و قد جاب الهند و كوبا 00 لينشد أحلامه العشقية و كما في قوله في آخر قصيدة ( أحلام العشاق ) :
" للهند أجوب و يشهد لي
شعر ٌ في لحظة إطلاق ِ
و لكوبا سرت على دمعي
أنشد أحلام العشاق ِ "
أعود إلى ديوان ( لا أريد ) و الذي تضمن ثلاثا و عشرين قصيدة بدأها بقصيدة ( أشواق الجازورينا ) و هي ذات مقاطع و قافية في نهاية كل مقطع فيقول :
" شف التراب ُ
عن التراب الحرِّ
فارتبكت دموعي
لم يكن إلاي َ وحدي
و الطريق إلى القرى
سفر ٌ و نافلة ٌ و فرض ٌ
في صلاة الروح ِ
أو ذكرى نبي ْ "
يرحل بنا الشاعر في زورق أشواقه لقريته و أهله و للنوارج و المناجل التي تهمي إليه 00 لرغيف جارته الطازج 00 و كعادة الشاعر في كل مرة 00 يحلق بنا في عوالمه لفضاءاته الشعرية حيث نجده يتماهى مع القصيدة بقوله : " وجعي على وجع القصيدة ِ
ينزفان على المدى
قمرا طفوليا
سقانا بسمة ً
و سقته من عسل القلوب ِ
قبيلتي
و انداح في رئتي
عبيرا سرمدي ْ 00 "
أجمل بهذه القافية التي تفصل ما بين المد و الجزر على شواطئ القصيدة ما بين المقطع و المقطع 00 ( سرمدي – النقي – الصبي ) 0
يلجأ الشاعر في بعض قصائده كقصيدة ( القمر السعودي ) إلى الإكثار من القافية كما في القصيدة العمودية و هو إن دل على شيء فإنما يدل على أن الشاعر يغزل القصيدة العمودية و لم يزل متعلقا بها من حيث الإيقاع و القافية 0
و في قصيدة ( قتلناك ِ ) يقول :
" لمثلك يا ( غزتي )
سوف يجثو الزمان انكسارا
و يبكي على ركبتيك ِ
الهوى و الخليلا
و يهفو لصفح ٍ
فهل تصفحين عن العرب يومًا
و تمضين نحو اخضرار القوافي ؟! "
- و أظنها لن تصفح ، بل ستصفع - نجد أن الشاعر قد تماهى مع غزة الصامدة و يبوح لها بمشاعره نحوها و نجده يسألها ألا تغفر ذنب العرب في نهاية القصيدة فيقول :
" فلا تغفري ذنبنا و اتركينا
فإنا اخترعنا الهروب الكبير َ
إلى حفرة الذل
نحمي العرينا 00 "
نجد أن الشاعر يعود بنا للإكثار من جديد من القافية : ( ثمينا – اليقينا – العرينا ) و من قبل ( الطيوب – الذنوب – الكروب ) و لكن في هذه المرة ينوع القافية بالقصيدة 00 !
و في قصيدة ( القسم العربي ) يصرخ الشاعر بأعلى صوته جهارًا " أنا المدعو بالعربي
و اسمي ( عاطف الجندي )
أتلو من شغاف القلب أبياتي
على مهد الأسى القومي
في ألم ٍ و قدسية ْ
و عنواني مقاومة ٌ 00 "
يعتز الشاعر هنا بعروبته و قوميته و يعلن اسمه جهارًا 00 إلى أن يقول : " و أعمل في
سلاح الشعر ِ ممتطيا
حروب الفكر
فى ثقة ٍ و ثورية ْ 00 الخ "
و برغم أن الشاعر لجأ هنا إلى المباشرة ، و لكن القصيدة بدت لنا بمثابة صرخة من الأعماق تبرر مثل هذه المباشرة و هي من القصائد الطويلة المقطعية ( 13 مقطعا ) 00 و ينهيها بقوله : " فلا أسف ٌ
على عيش ٍ
بلا حلم ٍ و حرية ْ "
فقد اعتمد القافية في آخر كل مقطع ( قدسية – ثورية – وحشية 00 الخ )
و في متابعة لقراءة القصائد نقف هذه المرة عند قصيدة ( عهود ) الوجدانية حيث يبدأها الشاعر بالقول :
" أنا يا حلوة الحلوات ِ محتاج ٌ
لمصباحين زرقاوين
يخترقان أوردتي
و يكتشفان أغواري
فمنذ نعومة الأحلام
لم أقرأ
و لا عبرت ببحر مشاعري امرأة ٌ
- كما أبغي –
ولا عزفت على أوتار قيثاري "
و تتجلى الفنية في القصيدة من حيث اللغة و الشعرية و الصور و الخيال مثل " ملأت حقائبي قُبُلا ً
و أزهارًا
و تذكارًا
لكل جميلة عبرت على يومي
و أرخت ليلها المحلول َ
فوق سرير اعصاري
و هاأنذا
خرجت الآن من نزقي
و عدت لحصة التعبير
و التلوين في كراس أشعاري "
و يجدر القول، لجوء الشاعر إلى القافية كعادته و يلجأ الشاعر في كثير من الأحايين إلى توظيف الإنزياحات اللغوية ذات الدلالات الجديدة – نسميها في سورية - كأن يقول ( بهو الحنان – قناة حلم – درب السعادة – حديثنا قمح ٌ لعصفور ٍ و ماء – نام النهار على ذراع الليل – الخ 00 )
- نجد ظلال الشعر العمودي لا يزال يخيم على جسد القصيدة عند الشاعر عاطف الجندي 00 فعلى الرغم من أن القصيدة تلبس عباءة التفعيلة لكننا نجدها هنا قريبة جدا من العمودية : " بعض ٌ من التقبيل يشعل فرحتي
و يكون رمزا للهوى و دليلا
فترد بسمتك البشوشة يا فتى
أين الوقار إذا أردت عواطفي
فاختر لقلبك فى الغرام سبيلا
إن الهوى ثوب ٌ نبيل ٌ فاحترس
حتى يكون على الدوام نبيلا "
و هكذا 000
- حتى و بالرغم من التنويع في القافية ، في القصيدة الواحدة إلا أنه يظل متأثرا بما ذكرته من قبل فيقول مثلا :
" إن رنَّ صوت ٌ أو بدا
بدر ٌ بوجه ٍ و استباح جناني
أستغفر الفيروز
- في عين الحبيبة -
عن ذنوب ٍ لم تزلْ
في طي غيب ٍ حائر الأزمان ِ
هذي حياتي ، يا حياتي لم تزلْ
نهرا يفيض عذوبة ً بأغان ِ
أغلقت قلبي َ عن سواك ِ محبة ً
و فتحت بابًا للقاء الحاني "
و كأن الشاعر يُخرج ما بين البحور و الإيقاع ( العمودي و التفعيلي ) في قصيدة " لا أريد " و هي عنوان المجموعة الشعرية 0 و القصيدة باعتقادي من أجمل روائع الشاعر عاطف الجندي 00 تألق بها و تألقت به 00 !
و لا استغراب أو عجب فكثيرا ما حلق بنا و تألق في شعره و يقول في قصيدة ( لا أريد ) :
" ماذا تريد ؟!
00000000000
ووقفت ِ في غضب ٍ عنيد ٍ
مثل قط ٍ يخمش الأحلام َ
في وجهي الشهيد ْ
ماذا تريد ؟!
و الجملة الحمقاء تعصف بالفؤاد
و ترسل الآهات ِ
نحو الدهشة المرسومة الأحداق ِ
في وجهي الشهيد ْ
ماذا تريد ؟!
عيناك ِ أجمل ما رأيت من البحار ِ
فكيف ثار الموج ُ
و اشتد الوعيد ْ ؟! "
ماذا تريد ؟! ( تأتي هنا و من قبل استفهام و تعجب من الشاعر 00 بينما في البداية جاءت من الأنثى استفهام 00 و بعد 00 و بعد 00 يسأل بل يطلب من قلبه أن يرد عليها فيقول : " قل لها أنا لا أريد
أنا لا أريد
شيئا سوى عينيك يا
حبي الأكيد " 00 !
و يا للعيون من سحر ، يتماهى الشاعر بالعيون و كأنه ممسوس بهما 00 !
- أتجاوز بعض القصائد من حيث التحليل و ليس القراءة 00 كقصيدة الصقر المهاجر و أحاديث غادة و بعض القصائد الأخرى لضيق الوقت 00 "
لأقف عند حالة نجدها عند الشاعر تتجلى في العديد من القصائد و هي طرح الأسئلة الحيرى و الأمثلة كثيرة على ذلك فى قصيدة الصقر المهاجر يقول :
هل يا ترى
فرغت حقائبك المليئة بالحكايا ؟
و في قصيدة أحاديث غادة يقول :
و أسألُ يا منية السهد
كيف الحياة إذا ما افترقنا ؟!
و أيضا 000" لماذا العصافير
ترحل تاركة ً فى العيون
اخضرار الفصول
و أعشاش دفء ٍ
و قوسًا من الزعفران ِ ؟!
لماذا العصافير تُغتال ُ
في مفرق الوقت ِ
نازفة ً وردة ً من عبير ٍ
و أحلام قمح ٍ
و حقلا من الغيم ِ
في بسمة الأقحوان ِ
لماذا 00 و ألف ٌ أتت مثل ماذا 00 "
و في قصيدة ( مُريد النار ) نجد الشاعر يكرر بعض كلمات القصيدة و كأنها اللازمة 00 كأن يقول :
" نامت و ألقت فوق شوقي معطفا "
و في مقطع آخر من القصيدة يقول :
" نامت و تعلم أنني
آت ٍ إليها بالوعود ِ "
و في مقطع آخر يقول في نفس القصيدة :
" نامي فلست من الذين تعودوا
أن يذبحوا الأحلام قربانا
لرب الشهوة ِ
نامي ، فإني
لست من يهوى اقتناص الورد ِ
من خد ِّ الوجود النائم ِ
نامي بحبة قلب من يهواك ِ
إني لن أبارح دوحتي
نامي "
- و أتوقف من جديد عند قصيدة " سيناريو جديد 00 لقصة قديمة " و التي يقول في مطلعها :
" أنا من نبا ت الحلم أطلع برعما
يقتات من ضوء الندى
و يضاجع السحب البعيدة َ
في انهمار الدمع
من جفن الشتاءْ "
و نلمح في هذه القصيدة حزنا شفيفا كما في قوله
" يلوك أحزان السنابل
لانتظار البؤس ِ في سبع ٍ عجاف ْ
و يرد أسئلة الجفاف
إلى زمان لا يبين "
يتجلى الشاعر عاطف الجندي برقة مشاعره و أحاسيس و شفافية ما بعدها شفافية ، نجدها في شعرية و سرد حكائي أحيانا من خلال القصيدة و كثيرا ما نحس بمثل هذا في قصائده 00 و هي من القصائد الطويلة الشائقة 0
و لو تابعتم معي قراءة المجموعة الشعرية لوجدتم في كل قصيدة ألق شعري جميل فهو يلون و ينوع في الشكل و المضمون 00 و كأن قصيدة التفعيلة تسِّلم نفسها له 00 فيفتح شرفاتها و يدخلها متى شاء و كيف شاء 0
- و أقرأ باقي قصائد المجموعة ( وصية – بطل من ورق – استجواب – سؤال اعتراضي – لو كان حبك صادقا – أنت ِ
00 إلى آخر المجموعة و ما قلته من قبل ينسحب على باقي القصائد 00 و أشير إلى بعض القصائد و كأنها عمودية و لكنها مكتوبة بطريقة الشعر التفعيلي 0
كما نجد أن الشاعر يماهي ما بين الذات و الوطن و آلامه ِ في عطاء ثر ، متدفق و يلون و ينوع في الشكل و المضمون و يجدد بالإسلوب قياسًا إلى مجموعته الشعرية الأولى و يطور تجربته ليستقر على صوت و لون و لغة معجمية خاصة به 00 قياسا لمجموعته الأولى ( بلا عينيك لن أبحر ) التي اطلعت عليها من قبل و هي ضمن مخطوط بعنوان وجوه مصرية في الذاكرة و هو مقدم إلى مكتبة الأسرة لطباعته 00 و الذي يشمل العديد من الدراسات النقدية لوجوه مصرية جديرة بالقراءة و الاهتمام
- في الختام : أتمنى على الشاعر عاطف الجندي أن يواصل مسيرته الشعرية الرائعة و الرائقة في تطوير و تجديد شعره مع المحافظة على تراثنا و أصالته ، كما أتمنى أن يخرج من أسر القافية و يتحرر منها ما أمكن 00 و جميعا يعلم أن القافية من الأسباب الرئيسية التى دفعت السياب و نازك إلى قصيدة التفعيلة 0
****
* ناقد و شاعر سوري

القاهرة في 27 / 5 / 2010