رحلة الخلود
تدوينة بقلم : د. محمود نديم نحاس
د. محمود نديم نحاس
رحلة الخلود هي الرحلة إلى الدار الآخرة التي تبدأ بخروج الروح من الجسد. لكني قصدت هنا رحلة أخرى تذكّر الإنسان بتلك الرحلة للتشابه بينهما، ألا وهي رحلة الحج.
فالحج ركن من أركان الإسلام، أوجبه الله على عباده المستطيعين. فيخرجون طمعاً برحمة ربهم وأملاً بجوده وإحسانه وكرمه، وشوقاً إلى عفوه وغفرانه، وحنيناً إلى أن يكونوا مع الذين ذُكروا في الحديث (إنَّ اللهَ تعالَى يُباهي بأهلِ عرفاتٍ ملائكةَ السَّماءِ، يقولُ: انظروا إلى عبادي، أتَوْني شُعثًا غُبرًا من كلِّ فجٍّ عميقٍ، أُشهِدُكم أنِّي قد غفرتُ لهم).
عندما يصبح الإنسان قادراً على الحج يبدأ في مجاهدة نفسه: هل أترك عملي وتجارتي وأذهب إلى الحج؟ أم أؤجله إلى العام القادم؟ فإذا تذكّر أن الأجل قد يعاجله، فإنه يعقد العزم على الحج، ويبدأ برد المظالم إلى أهلها، فيستسمح من هذا ويطلب العفو من ذاك. يفعل ذلك وهو قادر عليه، ويتذكَّر أن الموت عندما يأتيه قد لا يكون في الوقت متسع لفعل ذلك.
يودع الأهل والخلان، والدموع تنهمر على الخدود، يودعهم بكلمات رقيقة طالباً منهم الدعاء، ويتذكر لحظة الفراق الأخيرة التي سيودعونه فيها وقد توقف لسانه عن الحركة.
يصل الميقات فيبدأ أول أعمال الحج بنية خالصة لله، ثم بالتجرد من الثياب، ليدرك ضرورة التجرد لله في كل الأعمال، ويتذكر وهو يخلع ثيابه أنه عند انقضاء الأجل سيقوم غيره بخلع اللباس عنه. ثم يبدأ بسنة الغسل، فيتذكر أنه سيحين وقت يدخلونه فيه إلى المغتسل ليغسلوه وهو بلا حراك. ثم إنه يلبس لباس الإحرام الذي يشبه الكفن، يلبسه بنفسه، أما الكفن فلن يقدر على لبسه بنفسه. والإحرام مقرون ببعض المحظورات، فلا طيب ولا اقتراب من الزوجة، وكذلك الحال لمن يوضع في اللحد. وهكذا يذكّرنا سفر الحج بالمسير إلى الله، فكل شيء حولنا يذكّرنا بالله، الجبال الشاهقة، والأشجار الباسقة، والظلال الوارفة، فتتوق النفس إلى الجنة.
فإذا وصل الحاج إلى البيت الحرام فليتذكر آلاء الله عليه بهذه النعمة، فكثيرون غيره لم يُوفقوا إلى هذا العمل، فليشكر الله على ما أوْلاه، وليدخل البيت بسكينة ووقار، وخشوع للعزيز القهار، وقلب يعظّم شعائر الله، فإن ذلك من تقوى القلوب. حتى إذا وقع نظره على الكعبة المشرفة بدأ بالدعاء رجاء الاستجابة. ثم يطوف فيجد نفسه مع جموع الناس، لا فرق بينهم، لا تعرف الرئيس من المرؤوس، ولا الأمير من الغفير، ولا الغني من الفقير، كلهم سواسية في شكلهم وملبسهم. وهنا يتذكَّر الطائف طواف رسوله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وهو يرمي بالأصنام قائلاً (جاء الحق وزهق الباطل).
ثم يرقى الصفا للبدء بالسعي فيتذكر نبيه صلى الله عليه وسلم وقد جمع الناس ليبلغهم الدعوة فيأتيه عمه أبو لهب ويقول له (تباً لك! ألهذا جمعتنا؟)، فيكبر المسلم وهو يتذكّر ملايين الناس الذين استجابوا لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ووقفوا على هذه الصخرة مكبِّرين مهلِّلين موحِّدين.
وعندما يأتي يوم عرفة، يتوجه الحجيج بطمأنينة إلى الموقف المبارك الذي يشبه موقف الحشر، فيتوجهون إلى الله تبارك وتعالى بخالص الدعاء، وهم يرجون منه العفو والمغفرة، قلوبهم منكسرة لربهم، يقفون وكل واحد منهم يتذكر ذنوبه التي تؤرقه، وخطاياه التي تحط من قدره، وتهد من عزمه. فيقبل على الله مناجياً، ويدعوه مبتهلاً، أن يغفر له ما تجاوزه من حدود، وما أصابه من ذنوب. يقف ذلك الموقف وهو متجرد من الدنيا، إلا من لباس يغطي عورته، رافعاً يديه إلى السماء، تدمع عيونه من شدة طلبه، فلا أحد أعرف بذنوبه منه.
ثم تحين ساعة الانصراف من عرفات، والإنسان لا يدري هل غُفر له أم لا؟ هل قُبلت دعوته أم لا؟ فيعظم البكاء ويزداد التضرع، فهو يود أن ينفر من عرفة وقد رجع كيوم ولدته أمه. ولذا يتوجه إلى مزدلفة في خشوع ليكرر الدعاء عند المشعر الحرام قبل أن ينصرف إلى منى، ليقيم هناك يشكر الله على ما أنعم عليه، ويذكُرَه ويستغفره ويعظمه. وفي منى يلتقي المسلمون من أصقاع الأرض فيتعارفون ويهنئ بعضهم بعضاً بما منَّ الله عليهم من النعم. ويرمون الجمرات طاعة لله.
فإذا أدى الحاج طواف الإفاضة، وحان وقت عودته إلى بلده شُرع له طواف الوداع، ليكون آخر عهده بالبيت طوافاً، ليمتلئ القلب ذلة لله عز وجل، وطمعاً في أن يتقبل منه عمله، وأن يعينه على تكرار هذه العبادة إلى أن يقبضه.
ويعود إلى أهله وبلده فيتذكر العهود التي قطعها على نفسه، بألا يرجع إلى ذنوبه، فلعل حجه يكون له مانعاً من الخوض في الذنوب، وحاجباً له عن المعاصي.
فاللهم إنا نسألك حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً وذنباً مغفوراً، لنا ولكل من وقف بالموقف.