التضمين النحوي في القرآن الكريم
التضمين النحوي في القرآن الكريم
صدر هذا الكتاب الكبير عن مكتبة دار الزمان للنشر والتوزيع في المدينة المنورة بصاحبها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي رسالة الدكتوراه للمؤلف الفاضل.
جاء الكتاب في 712 صفحة من القطع الكبير، في مجلدين، وعد في ختامه أن يكون عنوانه في الطبعة الثانية (ظاهرة التضمين في القرآن الكريم) وهو الآن ماثل للطبعة الثانية التي فيها زيادات مهمة.
قال المؤلف الدكتور محمد نديم فاضل في مقدمته:
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمده تعالى على نعمه، وأصلي وأسلم على نبيه – أفصح العرب وأبينهم وأسدهم القائل: "أنا أفصح من نطق بالضاد" وعلى آله وصحبه صلاة تقيم ولا تَرين. فسبحان من أنطق اللسان بسحر البيان فأشرقت أنواره عن حقائق العرفان "صِنوان وغير صِنوان"، اللهم اعزم لي الرشد، واكتب لي السلامة في الرأي، واجعلني منه في برهان.
اللهم جنبني الشبهة واعصمني من الزلل، وحبب إليّ التثبت، وأوزع صدري برد اليقين.
اللهم اجعلني ممن سبقت له منك الحسنى، وتقدمت في حقه العِناية والهداية، وارزقني معرفة بك تعلقها قلبي، توجب بها الحياءَ منك، والإنابة إليك، والأُنس بك، والمحبة لك، والشوق إلى لقائك، والدنو من رضاك، فإنما أنا بك، ولك، وإليك، وأنت حسبي وكفى... وبعد:
فهذا بحث في التضمين، وبحث عن التضمين في القرآن الكريم، وقد تناوله النحاة، كذلك اللغويون والبلاغيون والمفسرون.. كلٌ أخذ منه بطرف وعالجه بأسلوب.
والعربية – أشرف اللغات إذ نزل بها خير الكتب على أعظم الأنبياء- كانت وستبقى حضارة، يضيق عنها الوصف، وينحسر عنها الكَلِم فلا يكادُ يبين.
وحين تمت المشيئة الإلهية لهذا الإنسان أن يكون خليفة في الأرض علمه الأسماء كلها، جهزه للمهمة الضخمة التي سيكلها إليه، متّعه بالحسّ اليقظ، والبصيرة المفتوحة، وخصه بسر القدرة على الرمز بالأسماء. أمده باللغة التي لم يُجهز بها الملائكة من قبله ما داموا مخلوقين لغير ما خُلق له، فكانت معلاةً له، شاهدةً بفضله، وباتت وسيلة تساعده على تكييف سلوكه مع ما جاء فيها من أوامر الله ونواهيه، وصارت لوسيع مذاهبها، وبديع مناحيها، من أفضل وسائل التربية والتهذيب دون مُنازع. عبقريتها في صياغتها، وأسرارُ جمالها في خصائص تركيبها، وكفاءتها العالية في تشقيق المعنى إلى فروعه: الوظيفي والاجتماعي والمعجمي..
جهّزه بالكلمة مَخزن فكر وينبوع روح، كل ما فيها يتندّى، فهي أبداً في تطال، وتظل الكلمة بذرة يلقيها ضاع في رحم الزمن لتُنبت الشجرة.. هي السِدرة تعطي ثم تعطي مما اختزنت من معالم وصور وحيوات.. وأيُّ حياة أعز من حياة الفكر!
والكلمة لا معنى لها إلا إذا سلكناها في نظم وأدرجناها في عبارة، نصيب بها الغرض نُقيمها على أسلوب، ونديرها على طريقة في صياغة فنية تجعل لها صلة بالحياة فتؤدي غرضها حين تكشف عن حقيقة، وهي أوسع منها، لو حُدّت بها لما بقيت حقيقة، وإن كثرة مدلولاتها تتفق مع طريقة عرضها وأسلوب أدائها، كلما زدتها فكراً زادتك معنى فهي معك على قدر ما أنت معها. إن وقفتَ على حد وقفتْ، وإن تماديت تمادت، وما أديت بها تأدّت، فهي من لسان وراء قلب.. فصور الربيع بعدد أزهاره، وصور الإيمان تكاد تكون بعدد شعبه.
ولو وقفت على لفظة ما في مجموعة من النصوص لقالت لك: أنا هنا في معنى وهناك في آخر: هذا (عجل) يتعدى بنفسه: (أعجلتم أمر ربكم)(1) كما يتعدى بإلى: (وعجلتُ إليكَ ربِّ لترضى)(2) ويتعدى بعلى: (فلا تعجل عليهم)(3)، ويتعدى بالباء: (ولا تعجل بالقرآن)(4) ويتعدى باللام: (لعجّل لهم العذاب)(5) ويتعدى بعن: (وما أعجلك عن قومك)(6) ويتعدى بفي: (فمن تعجّل في يومين)(7)، ويتعدى بمن (ماذا يستعجل منه المجرمون)(8)، وهو يطالعك في كل مورد بطابع جديد عليه خاتم مصنعه يفضه السياق ومفتاحه التضمين فهو لذلك وبذلك لا يقبل الحدود، والتورّد له وعر المسلك، مقامه زلخ.
فالعدول من حرف إلى حرف لغير معنى جديد لا وجه له، وكثير من النحاة أصروا بجدع الأنف أن يلزمونا بتضمين الحروف عند هذا العدول، وهيهات.. فاللغة ليست ملكاً لهم.
وربما أخذوا على المعاجم ضيق الأفق، وأنها لا تعطي اللفظ حقه في رسم آفاقه وتحديد أبعاده.
أجل.. يكشف اللفظ عن معناه حين يسلك في نظم ويندرج في تعبير، له في سياقه غرض ولكل غرض في مناحي البيان أسلوب، يديره الكاتب على طريقة، يصيب بها مواقع الشعور، يكشف الجمال فيظهره، ويتناول السر فيعلنه، ولولا ذلك لبقيت القلوب على ودائعها مقفلة، والقرائح معزولة، اللمحة السريعة تكشف عن حقيقة، تطالعك في جلال وجمال، في صور وألوان، والحق كذلك، إن لم تجد النجم فلا تلتمس الشعاع.. وإن لم يسلك اللفظ في تعبير فلا تسل عن معناه.
ولانقطاع جيلنا عن لغته نَزُر منها حظُّه، وتخلّفت عنها مداركه، ولقصور فهمه عن معانيها العالية ما عاد يستوحي من اللفظ إلا الدارج والشائع، فجيلنا من أقل الأجيال المضرية حظاً بلغته، لم يصب من وجوه تصريف معانيها إلا كما تأخذ الإسفنجة من الماء تنتفخ بقليل منه ثم لا تلبث أن تمجّه.
إن وحي الكلمة يصل ماضي اللغة بحاضرها بمستقبلها عبر مسيرة الزمن، وستظل هذه اللغة الشريفة بل المعجزة الباهرة تعطي من نشد من مجاني أُكُلها، ويانع قطافها، كنوزاً أُنفاً مع قدرة على المجاراة والاستيعاب لكل المستجدات، تطوي الطارف على التليد، فجديدها غير منبت عن وشائج منابته، وقديمها غير مكفوف عن جواذب حواضره.
الألفاظ مغلقة على معانيها، وأغراضها كامنة فيها، إنما يفتحها النظم ويستخرجها، فانظر فيه وفي صياغته وسياقه ومدلوله، وترسّم آفاقه لفهم معانيها وتحديد أبعادها. هذا فعل (جعل) يتعدى لمفعولين في سياق الآية الكريمة (إني جاعلك للناس إماماً)(9) ويتعدى لمفعول واحد في سياق الآية الكريمة (وجعل الظلمات والنور)(10) لماذا؟ إنه السياق إذاً وله مدلولاته.
وهذا فعل (سمع) يتعدى بنفسه (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها)(11) وباللام: (سمع الله لمن حمده)(12) فهل هما متماثلان؟ كيف! والفرق كبير بينهما.
واللغة بعد ذلك انتماء، لو فرّط فيها لانتهى إلى ضياع، ضياعه وضياع ما ينتمي إليه، فإن أكثر من ضل من أهل الشريعة عن القصد وحاد عن الطريق فإنما استهواه واستخف حلمه ضعفه في هذه اللغة الشريفة، وبعده عنها وعن حسن التصرف فيها أو المزاولة لها، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل لحن: "أرشدوا أخاكم فإنه قد ضل"(13) فسمى اللحن ضلالاً، وقال صلوات الله عليه: "رحم الله امرأً أصلح من لسانه"(14) لما في ذلك من عاقبة الفساد وزيغ الاعتقاد، وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم!؟ وهل اللسان إلا ترجمان الجَنان؟ أوليس يوقع بالكفر إلا كلمة يهوي بها سبعين خريفاً في النار(15).
فإذا كان للغة هذا الخطر العظيم فحريّ بنا أن نجعلها موضع عنايتنا واهتمامنا لأنها من أخطر القضايا الإنسانية على الإطلاق، إذ هي الكفيلة بإيضاح حقائق التنزيل، والإفصاح عن خفايا التأويل، وإظهار دلائل الإعجاز، وشرح معالم الإيجاز، وهي مما أوحى بها العليم الخبير إلى عبده آدم ليكون أنبه لها وأذهب في شرف الحال بها.
وتتبعتُ السر الذي أخصب تاريخنا القفر المجدب في الجاهلية فأنبت للدنيا في ظل الشريعة أزاهير لا تغيب عنها الشمس.. فإذا هي اللغة في هذا الكتاب المبين، قال تعالى (وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً)(16) وقال (الرحمن، علّم القرآن، خلق الإنسان، علّمه البيان)(17) ومدحه بالإفصاح والبيان فقال: (تبياناً لكل شيء)(18) فالعربية غزت العالم غزو تغيير وتحويل وترشيد.
فانصراف العبد إلى كتاب الله لفهمه، والكشف عما يفتح الله عليه من مغاليقه، نعمة ترفع صاحبها عن دنياه وتبارك له في عمره، فيصحو من غفلة، ويتنضر من يبس، ويرقّ من غلظة، ويتلألأ بالنور يكسوه الجمال، فهو مع كل حرف يروزه، يتملاّه، يستذوقه علّه يكشف الخبيء من سره، والعصي من معناه، يشعر بفيض النعمة الإلهية تستحق كل ثناء عليه، لقد أخصب الكتاب الكريم عند نزوله القفر المجدب فأنبت للدنيا أزاهير إنسانية، فوّاحة بالعبير، يُنضرها الندى من حسنه.
والتضمين من أنزه الفصول في العربية، فإذا تأملته عرفت منه وبه ما لحروف المعاني من أسرار يكشفها لك، ويظهر فيها مزيّة.. ترى الحرف مع فعل أو مشتق لم يألفه، فيوحشك الحرف ويبقى الفعل قلقاً، فإذا حملته على التضمين تمكّن الفعل وآنسك الحرف، فلولا مُعازّة الخاطر في هذه الحروف، ومساورة الفكر وامتداده لكنت منها على حرد وعنها بمعزل وبأمر سواها في شغل.
والنظم يتكوّن من مجموعة من المفردات، تنشأ بينها علاقات، ويتم التوازن حين تنتظم المفردات في سياق هادف، يقيمها الكاتب على نمط، ويديرها على طريقة، ليصيب بها مواقع الشعور، ويثير بها مكامن الخيال، وقد تسبب إحدى المفردات توتراً لا يهدأ حتى تجد لها تفسيراً مريحاً في دلالة راشدة، وقد يزيد التوتر حين لا يكون التوازن إلا حالة مؤقتة من الاستقرار، لوقوع تنافر بين دلالتين أو أكثر، قال تعالى: (وترغبون أن تنكحوهن)(19).
وكل لفظة تختزن طاقة تعطيها، أو جزءاً منها حسب وضعها في النظام، وما يتوفر لها من تعاون وانسجام مع بقية المفردات في الجملة وما يتهيأ لها من حسن الجوار، وربما تحتفظ بهذه الطاقة المختزنة عند شعورها بالقلق أو الضيق في نظام معين وقد تبدد أو تهدر إذا حشرت في بيئة غير بيئتها، ففي قول إبليس (أنا خير منه)(20) أين هذه الخيرية بجوار أنا الإبليسية؟ لقد أهدرت طاقتها البيئةُ المحمومة في الجوار المشؤوم، وأين رصيد العزة والكرامة في سياق الحميم يصب على رأس المشؤوم يتلقاه بأرهف حواسه، حاسة الذوق؟ (ذق إنك أنت العزيز الكريم)(21) لقد أهدرت كل طاقة للفظ العزيز الكريم في مذاق الماء الحميم، وما حظ الكافر من (الثواب) في عمله؟ (هل ثوّب الكفار ما كانوا يفعلون)(22) إنه العقاب لا غير.
ونقل حقيقة ما من واقع الحياة المحسوس إلى نظام مكتوب أو مقروء هو الصنعة البيانية أو الصياغة الفنية في يد القوة المصورة تكشف الجمال، جمال النظام اللغوي، وتعلن الأسرار، أسرار الحكمة الغامضة في اختيار اللفظ الملائم، وتضع الإشعاع في التشكيل الصوتي وهو واحد من أشكال الطيف اللغوي(23).
فليس اللفظ في القرآن كما يكون في غيره، فكل لفظة في الآية تكاد تكون آية، فهي تحمل معنى وتومئ إلى معنى، وتستتبع معنى، وهذا ما ليس في الطاقة البشرية (كتاب أُحكمت آياته ثم فصّلت)(24).
إن قوة الإشعاع في التعبير القرآني وتعدد صوره هو الذي أعجز العرب أن يأتوا بمثله، فهو أسمى من أن يُدرك في حاسة أو ينحصر في مدلول، لقد منحه المنشئ سبحانه صوراً وإشراقاً وإعجازاً يذهب في تأويله المفسرون مذاهب شتى لأنه ينزل في أحوال النفس منازل، ثم يدع للعقل بعدها أن ينطلق في معانيه انطلاق النور في الأفق الأعلى، لا تنقضي عجائبه.
وإجادة العربية والحذق فيها والتمكن من ناصيتها يفتح على الدارس مغاليقها ويكشف العصيّ من معانيها، والتضمين في هذه اللغة الشريفة دليل سعتها ومرونتها، وغلبة حاجة أهلها إلى التصرف فيها، والتركّح في وجوهها ونواحيها، فالكلمة فيها كثيرة الدلالات وتختزن الكثير من المشاعر والأفكار، فإذا أثبتنا معنى لظاهر اللفظ يقبله السياق فلا حرج من التماس النظير من كلام العرب، لأن النظير يؤنس به، فأما ألا يثبت المعنى إلا به فلا، ولسنا ندع ظاهراً له وجه من القياس لغائب ليس عليه دليل.
هذا المعنى الذي أثبتناه للفظ في سياق ما، قد يحور عنه في سياق آخر ليديره على طريقة يصيب بها مواقع الشعور، أو يتنكب عنه استثقالاً مما تحامل الطبع به:
فإن لم تنل مطلباً رمته فليس عليك سوى الاجتهاد
واختيار هذا الموضوع هيّأ لي أن أقف على هذه الحروف ومتعلقاتها من فعل أو مشتق، أقرأ وأعيد لأتبين ما خفي من أسرارها المغفول عنها وغير المأبوه لها والمحتجبة وراء النظم وأتدسى معانيها المغيبة في الصياغة، وأصغي لأنغام جِرسها في التركيب، وخفقات إيقاعها السارب في النفس، والمتغلغل في ثنايا نظامها المعجز من غموض الحال ولطف المتسرّب، أو في بيانها المشرق السَّخيِّ بالإشراق، حيث تحمل أكثر من دلالة تبعاً للغرض من السياق الوارد فيها، دلالة بالتلميح أو التصريح، بالإيحاء أو الإفصاح، بالتعريض أو التكشيف، بالمشارفة أو المظاهرة، وفهم المراد يتطلب قدراً من مهارة القارئ الحصيف في معرفة هذه الدلالة على ضوء العلاقات بين مفردات نسيج الجملة، فقد حمى أصحاب هذا اللسان حواشيها وهذّبوها وصقلوا غروبها وأرهفوها وإني لأرجو أن أكون قد استحييت قدراً من جمالها الفني الخالص، واستنقذتها من ركام التأويلات النحوية المعقدة، عزوفاً عنها وتحامياً لتجشّم الكلفة فيها. فعناية أغلب النحاة كانت بتحليل الأجزاء لمكونات التركيب أكثر من عنايتهم بالتركيب نفسه.
حروف المعاني جواهر سنيّة في كتاب الله المبين، تأتي على قدر، تتحكم في توجيه المعنى، وتتصرف في وجوهه، تسري أحكامها في أحناء الجملة وحواشي التركيب، فمن تفطّن لها ممن صحّ ذوقه، وتمت أداته، وأمدّه الله بصفاء القريحة وأيده بمضاء الروية، أرته من أسرار كتاب الله ما استودعها من إحكام الصنعة فيه، مما هو أليق بمعناه، وأوفق لمراده الذي يسفر ويَضَح مع الاستقراء له والفحص عن كنهه، أما من رماها للتعاور والتناوب، فلا تحفل به، واحفظ نفسك منه، ولا تسترسل إليه.
وكنت أود لو نشَّمت في شواهد من التضمين في الحديث الشريف(25) وفي دواوين الشعر الجاهلي ومجموعاته وتأهبت له، لولا اتساع رقعة البحث، وخشيتي ألا يتسع لشواهده، ولا يسمح بإيلافه.
هذه الشواهد التي سُقتها من كتاب الله العزيز، لم آتِ بها على سبيل الاستقصاء، ولا أوردتها من قبيل الانتقاء، وإنما هي حصاد مطالعات في كتب التفسير وعلوم القرآن سقتها مرتبة على حروف الهجاء، وبعد أن استخرجت ما تفرق من فرائد المفسرين مما يُثنى ويؤثر، وممن أنف أن يلجّ من غير بيّنة ويستطيل مجتهداً، ومن حق العلم ألا يُداجى فيه وراعيت فيما اجتهدت ما ساعدتني عليه اللغة، وأرشدني إليه السياق، ومن وضوح الإشارة، واحتمال الدلالة مع الملاطفة والإكثاب من غير إكراه ولا إغصاب. يتساهم ذوو النظر التأمل فيها والبحث عن سرها ومستودعها ليكون لهم سهم منها وحصة فيها. وكما قال الطائي الكبير:
*كم ترك الأول للآخر*
فكتاب الله لا تزال تظهر غرائبه، وتنكشف عجائبه على مر العصور، ففي حديث أبي جحيفة الثابت في الصحيح(26) أنه لما سأل عليها هل خصم رسول الله بشيء، قال لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهماً يعطي الله رجلاً في كتاب الله، فالتضمين اجتهاد يحدد مسار الفعل، ويلبي غرضه، ويفتح للنص آثاراً تنعين على إدراك المزيد من احتمالاته، ويخلع على اللفظ روحاً ترفرف في جناحيه، وربما أخذوا على التضمين أنه غامض ولكن الحسن كذلك، وأنه محيّر ولكن السمو البياني كذلك، وأنه مخالف للمألوف، ولكن الحق كذلك.
وبعد الذي بذلته من جهد فيما جمعت، من هذه الشواهد التي أعيت على الدارس في دلالتها المتغلغلة تحت مطاويها حاولت أن أستخرجها بالأناة والصبر واستقصاء الجهد من غير استكراه يذهب به الخاطر إلى إفحاش في الصنعة واعتداء على طبيعة اللغة، أو توهم يظاهر عليه الخيال فيما مَذِلَ(27) به، أو تتايع(28) فيه، فقد أخرج أبو نعيم من حديث ابن عباس: "القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن وجوهه"(29).
نعم بعد هذا الجهد أقول ما قاله الشمّاخ في قوسه العذراء:
فلما شراها فاضت العين عَبرة وفي الصدر حزّاز من الوجد حامزُ
والعربية من أشرف اللغات لأن الله اختارها لسيد ولد آدم وجعلها لغة أهل دار المقامة في جنته ومحل كرامته، من نظر فيها رقّ طبعه، ونبل قدره، وهي أفصح اللغات لساناً، وأوضحها بياناً، وأثقفها أبنية، وأكثرها بقياس أفعالها تصرفاً، وقريش منها في الذروة من الفصاحة ارتقت عن عنعنة تميم(30)، وكشكشة ربيعة(31)، وكسكسة هوازن(32)، وتضجّع قيس، وعجرفية ضبّة، وتلتلة بهراء(33)، ولولا هذه العربية التي حفظها القرآن علينا لما تماسكت أجزاء هذه الأمة وتلاحمت أسباب كثيرة بالمسلمين إلى يوم الناس هذا.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم أفصح قريش ولا فخر، إذ قال: "أوتيت مفاتيح الكلم"(34)، وفي رواية: "مفاتح" وهو ما هيأه الله له من أسباب الفصاحة والبلاغة، والوصول إلى غوامض المعاني وبدائع الحكم ومحاسن الألفاظ مما أُغلقت على غيره وتعذرت على سواه.
ولعل جيلنا المعاصر من أكثر الأجيال مسؤولية في مضاعفة الجهد، لينهض من عِثاره، ويدفع شبح الخوف عن نفسه، حين يستعيد ثقته بذاته فلا يرضخ للإلْف، ولا يَعزِف عن التجديد، لقد رضي بالقابلية دون الفاعلية يردد آراء من سلف دون مراجعة أو إضافة. جيلنا بحاجة أن يحمل التَبِعة في كل مرافق الحياة، وأولها أمانة الكلمة، وأن يتشوّف إلى مَطمح عَصّي ومُرتقى صعب، ومسلك شاق مطلبه عسير، فما أحاط باللغة إلا نبي، فاللغة أداة للتفكير، وليس التعبير إلا صورة عن قدرة المتكلم العقلية، تعكس كفاءته في مستوى الأداء، وتبين عن بنيته الفكرية أو النفسية، ولابد للمصدور من أن ينفث.
هذه عجوز في فناء خيمتها يمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته إلى المدينة مع أبي بكر ومولاه عامر(35)، ودليلهما عبدالله بن أرقط، فلم يُصيبوا عندها شيئاً، إذ كان القوم مُسْنتين مُرْملين، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كِسر الخيمة.
فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟
قالت: خلّفهما الجَهد عن الغنم،
قال: هل بها من لبن؟
قالت: هي أجهد من ذلك فإن رأيتَ بها حَلَباً فاحلبها،
فمسح بيده ضَرعها وسمّى الله فتفاجّت عليه، ودرّت فاجترت، فحلب فَجّا حتى علاه البهاء، ثم سقاها وسقى أصحابه وشرب آخرهم ثم ارتحلوا عنها. فقلّما لبثتْ حتى جاء زوجها يسوق أعنزاً عِجافاً يتساوكن هُزالاً فلما رأى اللبن قال:
- من أين لك هذا والشاءُ عازب حائل ولا حَلوبَ في البيت؟
قالت: مرّ بنا رجل مبارك،
قال: صفيه لي.
قالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، أبلجَ الوجه حَسَن الخَلق، لم تَعِبْه نِحلة(36)، ولم تُزر به صُقلة(37)، وسيماً قسيماً، له نور يعلوه كأن الشمس تجري في وجهه، في عينيه دَعَج(38)، وفي أشفاره وَطَف(39)، وفي صوته صَهَل(40)، وفي عنقه سَطَع(41)، وفي لحيته كثاثة، أزجَّ(42)، أقرن(43)، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سَماه وعلاه البهاء، حلو المنطق، فصل لا نزر ولا هَذر، كأن منطقه خرزات نظم يتحدّرن، رَبَعَة لا تشنؤه من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، محفود(44)، محشود(45)، لا عابس، ولا مُفَنَّد(46)، خافض الطرف لا يُثبت بصره في وجه أحد، ليس بالجافي ولا المهين، طويل السَّكْت لا يتكلم في غير حاجة.. إلخ(47).
فأي صاحب قلم يملك اليوم مثل لسان ابنة البادية هذه؟ ويوم نملك لساناً كالذي ملكوا، نفتح بإذن الله كما فتحوا ثغور البلاد وقلوب العباد.
وأصحاب هذه اللغة إلى الإيجاز أميل وفيه أرغب، به تفاخروا بالبيان الذي يكشف المستور، دون الضمير، ويلتمس الدلالة حين تلتبس على الفهيم، والوقوف على المعنى الحرفي من أسباب القصور في الفهم لأنه يهمل المعنى الدلالي وفيه: المعنى الوظيفي والاجتماعي والمعجمي و... فدلالة اللفظ من حيث الوضع: خاص وعام ومشترك، وأما من حيث القصد: فدالّ بالعبارة أو بالإشارة أو بالفحوى أو بالاقتضاء.
ودراسة كهذه هي إعادة نظر في المعنى وارتباطه بأشكال التعبير، فالارتباط بين الشكل والوظيفة، أو الصلة بين المعنى والمعنى هو اللغة، وهذا النوع من الدراسة يتناول الصوت والصيغة والسياق والدلالة فيصل اللغة بالفكر.
ولعل سبب غموض بعض النصوص في تراثنا هو إهمال الوصف الكافي للمقام المحيط بالنص، والتعبير الشائع في اللغة الإنجليزية: ليست العبرة بما قيل، بل بالطريقة التي قيل فيها.
والعربية بما لها من تطور واتساع، وتقدم ورقي، تحتاج إلى جهد في تحديد معالم البطاقة الشخصية لكل فعل: بنيته أو صيغته في أحد الأبواب الستة المعروفة، وتحديد وظيفته، لزومه وتعديه، ثم الدلالات التي يعبر عنها، ثم الحروف التي تتعلق به أو يتعدى بها هذا فعل (عقل) يأتي لازماً ومتعدياً، فاللازم يعبر عن ستة معان مختلفة(48)، والمتعدي يعبر عن سبعة معان مختلفات كذلك(49) أرأيت كم لهذا الفعل من دلالات! ولا سبيل إلى علم الدلالة إلا التوقيف والتعليم. يا لها من صعوبة!! ولكنها صعوبة المجد والرقي.
ومن أدوات هذا البيان: حروف المعاني، تناولها البلغاء والنحاة والمفسرون والفقهاء وعلماء الأصول لخطرها، وهي على قلتها كثيرة الدوران بعيدة المنال إلا على ذوي الأفهام.
فإذا تعدى الفعل أو مشتقه بغير حرفه المعتاد كما في قوله تعالى: (بما يستمعون به)(50)، أو تعدى بحرف وهو يتعدى بنفسه كما في قوله تعالى: (يخالفون عن أمره)(51)، أو عداه بنفسه وهو يتعدى بحرف: (كفروا ربهم)(52)، أو يتعدى لمفعول عداه لمفعولين: (واختار موسى قومه سبعين رجلاً)(53)، أو لازماً عداه لمفعول: (والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد)(54)، أو لمفعولين: (لا يألونكم خَبالا)(55)، أو متعدياً جعله لازماً: (إن كنتم للرؤيا تعبرون)(56) أو يتعدى لمفعولين عداه للثاني بحرف: (وزوجناهم بحور عين)(57) في هذه الأحوال تبقى الدلالة على المراد خافية والمعنى مستوراً، ومع الغموض أو اللبس تضيع الفائدة التي عليها مدار الإفهام والتفهيم والبيان والتبيين.
لابد إذاً أن نسعى إلى الأصل كما سماه سيبويه، أو (FONEM) كما يسميه الغربيون.
وسيلة النحوي في الوصول إلى الأصل: التأويل (التخريج) وذلك عن طريق الحذف أو الإضمار أو القياس أو التضمين.
وهذا التخريج مشروط بالرد إلى أصل متفق عليه، فإذا اختلفوا في الاتفاق عليه فالتخريج سيلقى الرفض، وقد يحتمل هذا التأويل وجهاً أو وجوهاً في الرد إلى القواعد الأصولية (ولتستبين سبيل المجرمين)(58) جاء الفعل متعدياً في قراءة نافع بنصب (سبيلَ) وجاء لازماً عند بقية العشرة برفع (سبيلُ).
فاللفظ من خلال النظريات الدلالية المعاصرة يحسن أن نتناوله بشيء من المرونة في تفسيره يتعاون عليه المعنى المعجمي، والمعنى الدلالي، والمقام. والمعنى الدلالي هذا لا يخضع لقاعدة، شأنه شأن الجمال لا يهتدي إليه إلا صاحب ملكة يغلب عليه طابع الاجتهاد في الاستنباط والتأمل الذاتي، ولذا فرّق علماء الأصول بين الدلالة الوضعية والدلالة الأصولية، وكذلك المقام بما يشتمل عليه من علاقات اجتماعية وعقلية، وذوقية، وعاطفية متشعبة لا يفهمها إلا أبناء بيئتها.
ومن العقبات التي اعترضت عدداً من المفسرين هي ما أخذوه من السِّريان في طريقة شرح متونهم والتي اعتمدت على شرح الكلمات المفردة، وإيضاح مدلولها دون اللجوء إلى شرح الهيكل العام لأفكار المتن ونظرته الشاملة، فحبسوا أنفسهم وقرّاءهم في أسر المفردات، وشقّ على من يتصدى بعدهم للإحاطة بمعالم الفكرة العامة والتي اختفت وراء دلالات الألفاظ المفردة، ولعل الدراسات الحديثة للتخصص في النحو اليوم تقف على هذه النظرة الشمولية لفهم التراث.
والتضمين مفتاح من مفاتيح هذه اللغة الشريفة، وسر من أسرارها، يفترّ عن بديعة، ويُفضي إلى لطيفة، وهو من طريف ما استودعته هذه اللغة نجواها، لأنه أذهب في الإيجاز وأجمع لخصائص الصنعة، وفيه من الإيماء والتلويح ما ليس في المكاشفة والتصريح، وذلك أحلى وأعذب.
فالتضمين يجعل من اللفظ رعشات بيان من نور المادة اللغوية كأنه ينبوع يتدفق أو جدول ماء يترقرق، ليبدع معاني جديدة ويخلع على اللفظ أثواباً بهيجة، فمن أدام فيه النظر ثم صبر ذاق لذة الاستمتاع به، كالشهد من ذاق عرف.
والذين عطّلوه في الفعل أو مشتقه وجعلوه في الحروف، وأن بعضها ينوب عن بعض هكذا بلا مسوّغ ولا دليل يدّعونه أو ينتحلونه، نزرت من معرفة الحقيقة حظوظهم، وتخلفت عن الإحاطة بها خواطرهم، وركبهم جهل في الرأي، وإفحاش في الصنعة، واعتداء على طبيعة هذه اللغة.
أجل.. إنابة حرف عن حرف يتسمّح المفسرون فيه فيخلون بغرضه تجاوزاً له أو سهواً عنه فهو مقام زلخ.. تزلّ فيه القدم وإنما تحتاج في التحفّظ منه إلى لطف نظر، وفضل رويّة، وقوة عارضة، وشدة تيقّظ، لاطفت الغرض من مجيئها، قويت حجتك في تضمين أفعالها، وذلك أحوط عليك، وأبهر في الصناعة بك، ومن عرف أنس ومن جهل استوحش.
وحتى الذين أجروا التضمين في الفعل لم يشيروا إلى الغاية من ورائه فهذا الزمخشري في كشافه مثلاً في قوله تعالى (وليضربن بخمرهن على جيوبهن)(59) ضمّن (يضربن) معنى (يلقين ويضعن)، ومثله أبو حيان في بحره ولكنه لم يذكر الغاية من هذا التضمين في استبدال فعل من فعل وهي ثمرة التضمين وفائدته.
في هذه الحروف دقائق وأسرار، طريق المعرفة بها الروية، ولطاف يتوصل إليها بطول التأمل، وخصائص ينفرد بها من هُدي إليها، وكشف له عنها، وبلغ شأواً فيها مع ما تهيأ له من صفاء القريحة، وصحة الطبع، وامتلاك الأداة.
إن إبدالهم حرفاً بحرف في كتاب الله يخرج العبارة من صورتها ومن الذي أريدت له ويذهب استطابتها، ويفسد الإمتاع بها والاستملاح لها، فلا تستطيع أن تحدث لهم علماً بها، وفهماً لها، حتى يكونوا مهيئين لإدراكها، ويكون لهم قريحة إذا تصفحوا هذه الحروف، أبقوا لها، وأخذتهم أريحية عندها، فإن بدهك موضع منها فلا تعط بيدك مع أول خاطر لها، فالطريق متلئبة، والتأمل فيها يمكنك منها. قال ابن درستويه: في جواز تعاقبها إبطال حقيقة اللغة، وإفساد الحكمة فيها، والقول بخلاف ما يوجبه العقل والقياس.
والتضمين يمنح الفعل أو مشتقه معنى فوق معناه والذي تضمنه بالرمز والإيماء من طريق يخفى ومسلك يدقّ، غير مصرّح بذكره، أو مكشوف ولا مفصح عن غرضه، كأنما يرسل في العبارة توهجاً من طاقته فيمنحها قوة تعلو باللغة سمواً، وتزكيها متعة كلما ازداد البصر فيها تأملاً، فهو محيّر ولكنّ الحسن كذلك، والحمل على المعنى غَور بعيد، ومذهب نازح فسيح، متى قام الدليل عليه، أو شهدت الحال به.
ومن شأن الحرف –وقد دخل على فعل أو مشتق لا يتعدى به- أن يكسب المعنى نبلاً، ويمنحه فضلاً، ويوجب له شرفاً، تطرب له نفوس السامعين، وتجعل له مزية عند المخاطبين، فهم في قوله تعالى (عيناً يشرب بها عباد الله)(60) لا ينشدون الشرب للري، ولا يطلبونه لإطفاء الظمأ، لأن أهل الجنة لا يظمؤون وإنما ينشدون من الشرب المسرة ويطلبون اللذة والاستمتاع.
أجل حين تعدت الأفعال أو مشتقاتها بغير حرفها أبدع التضمين إبداعه فيها، فإذا هي أزهار موشاة بألوان جديدة من معان لطيفة كالنجوم الزهر يأتلقن من الجمال في دارة القمر –المضمن- لتكون منصة للعروس –المضمون فيه- أو كمُجْرِي الجَموح بلا لجام، ووارد الحرب الضروس من غير احتشام.
ولعل الذي دفعني لموضوع التضمين هذا هو التنقيب عن خصائص هذه اللغة والكشف عن أسرارها رغبة في جديد، فحين ضمنت العرب الفعل فعلاً آخر فقد أودعت الأول الثاني لتُنهض مُنّته، فصار بهذا صفيّه وتليّه، وأصارته الصُّحْية أن يحل محله فجمع بلاغتين لأنه لزّ معنيين، فالعرب تلجأ إليه عناية بما وراءه وتوصلاً إلى إدراك ما هو له.
وحين يتعدى الفعل أو المشتق بغير حرفه فإن معناه لا ينكشف إلا من خلال وضعه في سياقاته المختلفة، فللسياق دوره في إيضاح المعنى، إنما يحتاج إلى لطف نظر، وقوة عارضة، وشدة تيقظ، فترفق به يولك جانبه، ويمطك كاهله، ويشفع بشرح أحواله المحيطة به.
وحين قال بعض النحاة: لا معنى للحرف في نفسه كانوا في منتهى الصواب، ولكنهم أخطؤوا في التطبيق حين وقفوا على مفهومه اللغوي أو دلالته المعجمية لا الوظيفية، غفلوا عن القصد وخفي عنهم الغرض وما تتطلبه الفصحى من إعادة النظر في طريقة التناول، أوليست حروف المعاني روابط تؤدي وظيفتها حين يعرف موقعها في النظم؟ فهذا السيوطي يجعل للباء أحد عشر معنى، بل أوصلها بعضهم إلى الثلاثين لأنه عزلها عن سلطانها حين أزالها عن ولايتها.
فعلى الناظر في معاني الحروف أن يتكاسى في بيان مدلولاتها، وأن يعطي الحروف حقها عن ميزة وعلى بصيرة، ليس معتاصاً ولا مسترسلاً، وأحكام معاقدها ومواردها في الأساليب البيانية المعجزة يدل على شرف هذه اللغة وسداد عقول أصحابها، وترك النظر في وجوهها والإعراض عنها، وقلة المبالاة بها يزري بالدارس ويغضّ من قدره، يقول ابن جني(61): هذا باب يتلقاه الناس ساذجاً مغسولاً من الصنعة، وما أبعد الصواب عنه، وذلك أنهم يقولون: إن (إلى) تكون بمعنى (مع) ويحتجون بقول سبحانه: (من أنصاري إلى الله)(62) أي مع الله، ويقولون إن (في) بمعنى على ويحتجون بقوله سبحانه: (ولأصلبنّكم في جذوع النخل)(63) أي عليها، ألا ترى أنك إذا أخذت بظاهر هذا القول غفلاً هكذا، لا مقيداً، لزمك عليه أن تقول: سرت إلى زيد وأنت تريد معه. وأن تقول: زيد في الفرس وأنت تريد عليه، ورويت الحديث بزيد وأنت تريد عنه. ونحو ذلك مما يطول ويتفاحش، ولكن سنضع في ذلك رسماً يعمل عليه، ويؤمن التزام الشناعة لمكانه أ. هـ.
وقال القاضي ابن العربي(64): والتضمين في الفعل أقيس وأوسع، وكذلك عادة العرب أن تحمل معاني الأفعال على الأفعال لما بينهما من الارتباط والاتصال، وجهلت النحوية هذا فقال كثير منهم: إن حروف الجر يبدل بعضها من بعض ويحمل بعضها معاني البعض أ. هـ فالتضمين في الحروف مرذول مطّرح.
الفعل أو المشتق إذا كان بمعنى فعل آخر فيما نيطت به أقرابه وشواكله، وكان أحدهما يتعدى بحرف، والآخر بآخر فإن العرب قد تتسع فتوقع أحد الحرفين موقع صاحبه إيذاناً بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر، فلذلك جيء معه بالحرف المعتاد مع ما هو في معناه، كقول الله تعالى: (أُحلَّ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم)(65) فالعرب لا تقول رفثت إلى المرأة، وإنما تقول: رفثت بها أو معها، لكنه لما كان الرفث هنا في معنى الإفضاء وكنتَ تعدي أفضيت بإلى جئت بإلى مع الرفث إيذاناً وإشعاراً أنه بمعناه، ونكون قد جمعنا المعنيين معاً: الرفث وهو فاحش القول، مع الإفضاء وهو إزالة الفضاء وأعني الإيلاج، وكلاهما مقصود هنا ليمنح العلاقة الزوجية رقة ونداوة ورحمة، وينأى عن التصريح بالمعنى الحيواني، ويسدل ثوب الستر على العلاقة الزوجية.
فالرفث حين أُشرب معنى الإفضاء أو حمله، جاء منه معنى التضمين والذي يسميه بعض النحاة: الإشراب أو الحمل.
ووجدت في اللغة من هذا الفن شيئاً كثيراً لا يكاد يُحاط به، ولعله لو جُمع أكثره لجاء كتاباً ضخماً، وقد عرفنا طريقه فإذا مر بك شيء منه فتقبله وأنس به فإنه فصل من العربية لطيف يدعو إلى الأنس بها والفقه فيها، ومن أجل ذلك أخذتُ به ووضعتُ يدي فيه، لاعتقادي بأنه أشرف علوم العربية وأذهب في طرق القياس والنظر وأجمعها لخصائص الصنعة، وعلائق البيان والحكمة، واستعنت الله على عمله، واستمددته من إرشاده وتوفيقه فهو مؤتي ذلك بقدرته، والمانح بطوله ومشيئته.
ثم إن كل من حكم بزيادة الحروف أو تعاورها أو تماثلها(66)، فقد زهد بقيمتها أو تشاغل عن خطرها وأعرض عن تدبرها فدخل عليه غلط في فهمها ولَبْس في معرفة مغزاها، وظنون ردية لو علم مغبَّتها لأنفت نفسه من الرضا بها.
نعم ذهب عدد من المفسرين إلى أن التضمين يجري في الحروف.. ولم أر ظناً أزرى على صاحبه من هذا، حين أبطل المزية في الفعل والتي تتفاوت فيه المنازل، وما أسوأ الشناعة لمكانه.
وما كان ذلك إلا من جهة تسرّعه أو نقصه في علم العربية، لم يدر أن في هذه الحروف دقائق وأسراراً، طريق المعرفة بها الرويّة، ومستقاها سفر الخاطر في رصيدها حتى يكشف له عنها، فمن فزع إليها فبالملاطفة والرفق، هذا ما ينبغي للدارس أن يفهمه منها، فلا هي منا بسبيل، وليس لنا فيها شغل، حين نبدل حرفاً بحرف، أو نعيره مكان أخيه، هكذا ساذجاً غُفْلاً، إنما أنت في التضمين أوجبت للفعل المقدر من الحسم واللطف والخلابة وعلو الطبقة ما ليس للمعنى المبذول في الفعل المثبت، فإبدالك الحرف وفّرت له هذه المزية وكان له هذا الفضل وتلك الملاحة.
وإني لم أزل ملاحظاً لها، عاكف الفكر عليها، ليعلم محصول الفضيلة فيها والمزية التي تنسب لها من أين تأتيها، وكيف تعرض فيها.. لتوقظ لها الهمم، وتوكل بها النفوس، وتحرّك لها الأفكار، وتستخدم فيها الخواطر فلا يُعرض العاقل عنها صفحاً، ولا يطوي دونها كشحاً، وما كان تعريد أكثر المفسرين عنها –حين رموها للتعاور والتناوب أو للزيادة- إلا تحامياً من الخوض في خلجها فضلاً عن اقتحام لُججها، وقد أقمت موضوعي على جزأين:
الجزء الأول: جعلته على أربعة فصول:
الفصل الأول: تناولت فيه حروف المعاني، وظيفتها، تحليل مدلولها من خلال سياقها.
الفصل الثاني: صلة الحروف بالتضمين.
الفصل الثالث: صلة الفعل ومشتقاته بالتضمين.
الفصل الرابع: موضوع التضمين.
الجزء الثاني: أوردت ما عرض لي من شواهد التضمين في كتاب الله.
وما كان غوصي في اليم إلا على توجّس، أصانع الخاطر وأُداريه مشفقاً أن أخرج صفر اليدين من درره، فإن بلغت الذي أمّلتُ فبعون منه سبحانه، وإن اشتبه عليّ فيه اليقين فلا أخلص إلى تمحيصه، أو تأبّى عليّ أو اعتاص أو خفي عني من الأسرار التي تناصرت إليها أغراض ذوي التحصيل، وكلتُ الحال إلى ملاطفة التأويل، مع دوام الفكرة مستعيناً عليه بالخلوة، واعتزال زحمة الأشغال، مع تضرع وافتقار، وإن غيبني اللُّجّ بين طياته فعذري لسان حال الشاعر:
ليبلغ عذراً أو يُصيبَ رغيبةً ومُبلغُ نفس عُذرها مثلُ مُنجِح
أسأل الله السداد في الرأي، والعصمة من الزلل، وأستغفر الله من كل أخذ بقول، كما أبرأ إليه من الحول والطول، والحمد لله رب العالمين.
الهوامش:
(1) الأعراف: 150. (2) طه: 84. (3) مريم: 84. (4) طه: 114
(5) الكهف: 58. (6) طه: 83. (7) البقرة: 203. (8) يونس: 50.
(9) البقرة: 124. (10) الأنعام: 1. (11) المجادلة: 1.
(12) البخاري أذان 25، 74، م صلاة 25 (13) المستدرك على الصحيحين 2/477.
(1(14) مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوم يرمون نبلاً فعاب عليهم فقالوا يا أمير المؤمنين: إنا قوم متعلمين فقال: لحنكم علينا أشد من سوء رميكم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: رحم الله امرءاً أصلح من لسانه. مسند الشهاب 1/331، وقد ضعف هذا الحديث ابن عدي في الكامل في ضعفاء الرجال 5/250 وغيره.
(15) في الحديث: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها سبعين خريفاً في النار. الحديث أخرجه البخاري في الرقائق 23، ومالك في الموطأ في الكلام 6، وأحمد في 2/334.
(16) طه: 113. (17) الرحمن: 1-4. (18) النحل: 89.
(19) النساء: 127. (20) الأعراف: 12. (21) الدخان: 49. (22) المطففين: 36.
(23) وتساهم في الصفات الصوتية من إظهار وإخفاء، من جهر وهمس، من شدة ورخاوة، من تفخيم وترقيق، من استعلاء واستفال، ثم الحركات العضوية في مخارجها من أقصى الحلق إلى وسطه، فأعلاه، وأطراف الثنايا، وحافة اللسان، ووسطه، ورأسه، والشفتين و... (24) هود: 1.
(25) على سبيل المثال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا" الحديث تقدم تخريجه، قال ابن حجر في فتح الباري: 1/196: ضمن السآمة معنى المشقة فعدّاها (بعلى) وفي حديث البخاري: "الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي" قال ابن حجر في الفتح: 11/291: كذا عُدي (الحق) بـ (إلى) وكأنه ضمنها معنى (انطلق). (26) البخاري في الجهاد 171، ومسلم في الإيمان 131.
(27) مَذِلَ به: ضجر وقلق. (28) تتابع: تهافت. (29) السنن: للدرقطني: 4/144.
(30) أنشد ذو الرمة عبد الملك:
أعن ترسمت من خرقاء منزلة ماء=الصبابة من عينيك مسجون
(فعن) في موضع (أن).
(31) تزيد الشين مع كاف المؤنث: رأيتكش وأعطيتكش تفعل هذا في الوقف، فإذا وصلت أسقطت الشين.
(32) تزيد السين مع كاف المؤنث: أعطيتكس ورأيتكس في الوقف دون الوصل.
(33) يقولون: تعلمون وتفهمون وتصنعون بكسر التاء.span>
(34) البخاري في التعبير 11، ومسلم في المساجد 5.
(3(35) عامر بن فهيرة. (36) ضمرة ونحول. (37) صغر الرأس. (38) شديد سواد العينين. (39) في هدب أشفار عينيه طول. (40) بحة في الصوت، وقيل حدة وصلابة. (41) السطع: طول العنق. (42) الزجج: تقوس في الناصية. (43) القرن: التقاء طرفي الحاجبين. (44) مخدوم يسرعون في طاعته. (45) بالغوا في إكرامه. (46) الفند: الخطأ في الرأي. (47) عاتكة الخزاعية. (48) المستدرك على الصحيحين 3/10-11.
(49) عقل الرجلُ: راجعه بعد شيء أذهبه. وعقل الصبي: ذكاء بعد الصبا. وعقل الظل: إذا قام قائم الظهيرة. وعقلت الرموش: صارت في معاقل الجبال. عقل البطن: استمسك.
(50) عقلت البعير: شددته بالعقال. عقلت الرجل: صرعنه. عقلت القتيل: غرمت ديته..
(51) الإسراء: 47. (52) النور: 36. (53) هود: 60. (54) الأعراف: 155.
(55) فاطر: 10. (56) آل عمران: 188. (57) يوسف: 43. (58) الدخان: 54. (59) الأنعام: 55. (60) النور: 31. (61) الإنسان: 6. (62) الخصائص: 2/306. (63) الصف: 14. (64) طه: 71. (65) أحكام القرآن: 1/177. (66) البقرة: 187.
(67) فالمتعدي بنفسه كالمتعدي بالحرف متماثلان لا يجد كثير من المفسرين فرقاً بين المعنيين كاستعنته واستعنت به الكشاف: 1/67.
أقول: فإذا تعدى استعان بالباء فقد طلب العون والظهير لنقص قوته عن قضاء حاجته وأداء مهمته. قال تعالى: (استعينوا بالصبر والصلاة) البقرة: الآية 153. فهاتان قوتان يضيفهما إلى قوته ويستعين بهما لقضاء حاجته، وإذا تعدى بنفسه فلعجزه وانعدام ذاته لدى قضاء مطلوبه، واعتماده بالكلية على سواه كما في قوله تعالى: (وإياك نستعين) الفاتحة الآية 5. ومعناه هنا أنه تجرد عن كل قوة يملكها فانعدمت ذاته أمام الذات الإلهية، فالله وحده هو السند، هو الظهير وهو المعين وهو المعتمد، وإليه التوجه في كل شأن، وهذه هي العبودية المطلقة، فهل تقول بعد هذا لا فرق بين استعنته واستعنت به؟!
http://www.odabasham.net/show.php?sid=30593