من مقامات محمد معمري



المقامة الظنية

[align=justify]
خطر ببالي يوما ما لم يخطر ببال الشبان، خاطرة رجما بالظنون، لما غرد فكري، وطربتْ ما ظمنتْ أكنان أوكاري، عدلتُ عن أفنان عقلي، واتخذتُ الظنون سبيلي؛ إذ كنت في الطريق أسير، وظننت أني طائرا أطير.
مسكتْ بعقلي مخالب الأمل، فدُكّتْ بِِنيتي وسها العقل، وفجأة غبت عن الوجود، وأنا موجود في نطاق محدود، ثم ارتفعت إلى السماء، وإذا بي أبصر كل الأجواء، فرأيت ما يصنع البشر، في الليل والنهار، وظننت أن لا أحدا عليّ قادر، فهتكت حجب الناس، واطلعت على ما يوسوس لهم الوسواس الخناس...
ولما برق الخبر، رمتني الأطفال بالحجر، وأدمت جسدي النبال، التي انطلقت من أقواس الرجال، ونفثت علي النساء بالسحر، والحساد بعين الشر، وجيوش الاحتلال بالمدافع، وأرسلت عليّ صواريخ تُبّع.. فإذا نجوت من هذه، أصابتني هذه؛ فقلت:

هاج بحر الناس *** من شدّة الرياح
ومركبي ليس له *** ميناء ولا ملاح
أنا طائر كسير *** ولا يعينني جناح


مرة قذفتني بقاذفة طائرة.. وعندما حاولت الهروب اصطدمت بشجرة! فلطخ وجهي وثوبي الدم، الذي سال من خدوش الوجه والأنف والفم، بل ساح في الأرض حولي، عندما أغمي علي! التف حولي الناس، وحبسوا عني الأنفاس! وظن من به جنّة، أنه اصطدمتني شاحنة! وظن عاقلهم أنه قد اعترض سبيلي قطاع الطرق، ونهبوا مالي وضربوا وجهي بالمطارق! وظن محسنهم أني في حاجة إلى مال، فطلب من الجمع جمع المال، ففر الجميع! حينها هب الهواء لأنتعش بعد المنع...
وحين بدأت شمس الظنون تغيب، وما كل ذي قلب بلبيب، ولا كل غريب يجد الطبيب! أشرق نور البدر، فتجلى أني لست في العلياء الشعرى، والناس في البسيطة عُرى!
كم كانت الظنون تجري في عقلي أنهارا، وكم كان الخيال يُزين ظنوني بحارا، وكم كان موج الظنون في ذاكرتي يثور، وكم كان ماء الحقيقة في قلبي يغور! لقد كانت ظنونا أشد من الجمر، لو حكيتها لحسبها السامع أني قد أتيت بها من سقر!
كيف جرى ما جرى لي؟ كيف طرتُ أم الذي طار هو عقلي!؟ كيف غبتُ وأنا أسير في الطريق!؟ كلام كان من ورائه تحقيق، وإن كان لابد لكل عقل من زلة، فعقلي أنجب لي مذلّة، ومن نظر إلى ظنوني، وخاض بحر المعاني فقد رآني! وموطن الظنون بحر أين تسبح العقول ، والإثم بره أين يرسو الدليل!
جاءت سيارة الإسعافات، وحملتني إلى المستعجلات، وقام ممرض، وقال لي ما بك يا مريض؟ لم أجبه بحذر، فلطخ وجهي بالماء الأحمر، فزاد في تشويه خلقتي، وطلب مني بطاقتي؛ فلم أجب، فحضر الطبيب، وسألني.. لكني صمت الكلام، وفحص الجسم، وظن أني أصم وأبكم، فأشار إلي لأكلمه بالإشارات، وأمرني أن أحرك يدي اليمنى كعلامات.. فحركت رجلي اليسرى، فابتسم كأنها بشرى! وظن أني أحمق، وهمس إلى من حوله فصدقوا بتوثيق، وسجلوا كنيتي واسمي في السجل، قرأت بطرف العين: مجهول ابن مجهول.. وتركوا سبيلي، ورحت إلى بيتي والظن لا يزال دليلي.. فسألتني حليلتي: ما بك يا من تناديني خليلتي!؟ قلت لها إنه فيلم، أمرني المخرج أن أقود طائرة الوهم، فاصطدمت بشجرة الندم؛ فتذكرت...

تذكرت.. من سوف يمدح عقلي؟ *** وقد خرقته سهام الظنون!
تذكرت.. من سيشفي وجهي؟ *** ويخلع عني ثوب الجنون؟
ومن سوف يُسْمعُ صممي؟ *** ويُنْطقُ بكمي وسري المكنون؟
أثارت ريح الظنون عقلي *** وأرّقت أمسياتي الظنية السنون
فانتصب جدع شجرة في *** طريقي ليوقظني من الأفيون


جلست في البيت كم مدة، هروبا من سؤال الشدّة، شفيت الخدوش، وبقيت العلامات توشوش، رحت إلى طبيب التجميل، فسوى وجه العليل، بعد أن ظن أني ذو جاه ومال وبنين... قلت في نفسي لن أعود إلى الظنون، لكنها بقيت تراودني كنكسة المغبون.[/
align]


بقلم: محمد معمري