التّرادف في اللسان العربي المبين ظاهرة علمية
التّرادف من رَدفِ الشّيء بالشّيء؛ إذا أتبعته به، أو ألحقته به، ومن هذا الوجه نقول في حياتنا اليوميَّة: إنَّ فلاناً رديفٌ لفلان، بمعنى تابع ومُلحق به، ونقول للتّلاميذ في باحة المدرسة عندما يصطفُّون خلف بعضهم بعضاً: ترادَف؛ بمعنى أنْ يقوم كُلُّ تلميذ بعمليَّة الالتحاق والإتباع لمَنْ قبله؛ بواسطة وَضْع كفِّ اليد على كتف من قبله؛ حيثُ يصير مُلحقاً وتابعاً له.
والأرض وأخواتها من الكواكب، كُلُّها مُترادفة مع الشّمس، فهُي مُشتركة بشيء، ومُختلفة بشيء آخر، فالتّرادف لا يمحو هُويَّة الشّيء المُترادف مع غيره، وإنَّما يشركه بصفة، مع الحفاظ على التّباين، والاختلاف في كُلٍّ منهما.
يقول الأستاذ محمد عنبر:
(إن ما ينفي(1) الترادف(التطابق بالمعنى رغم اختلاف المبنى) ويمنع من وقوعه دليل واحد قاطع؛ هو، أنه لو كانت حروف أبجدية اللغات مترادفة ويُغني كلُّ حرف منها عن الآخر غنىً وافياً كافياً لكان كل حرف ككل حرف، و لزال البيان من أساسه، وماكانت الكلمات مؤَلفة من حروف، فإن الكلمات لا تترادف قطعاً، أي لا تُغني أي كلمة منها عن أي كلمة أخرى غنىً شافياً وافياً كافياً، لأن ذلك ينتهي بها إلى أن أي كلمة كأي كلمة تماماً)(1).
فالتّرادف في اللسان بهذا المعنى هُو المُستخدَم سابقاً، فقد قام العَرَب بجَعْل الكَلمات ذات الصّلة مع بعضها؛ من حيثُ أصل الدّلالة، واختلافها من حيثُ الشّكل والأُسلُوب في نمط واحد؛ وقالوا : هذه الكَلمات مُترادفة؛ بمعنى أنَّها تابعة لبعضها؛ لوُجُود صلة فيما بينها، مع الحفاظ على التّباين والاختلاف لكُلٍّ منها؛ نحو:
كُلُّ كَلمة تبدأ بحرف القاف والطّاء (قط) تدلُّ في أصلها وعُمُومها على التّفريق والفَصْل والصّرم؛ انظر مثلاً : قَطَعَ، قَطَفَ، قَطَمَ، قَطَلَ…. إلخ.
فكُلُّ هذه الكَلمات، لا تخرج عن دلالة الفَصْل والتّفريق والصّرم؛ فهي مُترادفة من هذا الوجه؛ أيْ تابعة في أصل الدّلالة لبعضها، ولكنْ؛ لكُلِّ واحدة منها صُورة وإسقاط على الواقع مُختلفة عن أُختها، وهذا التّباين والفرق؛كان نتيجة اختلاف الحرف الثّالث، الذي أُضيف للكَلمة (قط)، فدلالة كَلمة (قَطَعَ) غير دلالة كَلمة (قَطَفَ)، أو (قَطَمَ).
وكَذلك كُلُّ كَلمة تبدأ بحرف الغين، تدلُّ في أصلها وعُمُومها على السّتر والتّغطية والغياب والعُمق؛ انظر مثلاً:
غاص، غيم، غاب، غامق، غرغر، غُرُور، غبي، غفل، غرق، غطس....إلخ.
وكَذلك كُلُّ كَلمة تبدأ بحرف السّين (س) تدلُّ في أصلها وعُمُومها على الحَرَكَة الحرة؛ انظر مثلاً : سبح، سبق، سبى، سمى، سار…..إلخ.
والوجه الآخر للتّرادف عند العَرَب، هُو إطلاقه على الكَلمات التي تشترك بالدّلالة تضمُّناً؛ أي العلاقة الضّمنيَّة من حيثُ العُمُوم والخُصُوص؛ نحو: جاء، وأتى، وحضر، أراد، وشاء، قرأ، و تلى، تكَلَّم، وتحدَّث، ذهب، وخرج.... إلخ.
فهذه الكَلمات ذات علاقة مع بعضها بعضاً، وهي علاقة الخاصِّ بالعامِّ، أو علاقة تضمُّنيَّة؛ فهي من هذا الوجه مُترادفة، ولكنْ؛ في الوقت ذاته، مُتباينة عن بعضها في عمليَّة إسقاطها على الواقع، فدلالة كَلمة (الأكل) غير (الطّعام)، ودلالة كَلمة (ذهب) غير (خرج)، وكَلمة (ولج) غير (عبر) وغير (خرق).
هذا مفهوم التّرادف؛ الذي كان يستخدمه العَرَب - أصلاً- قبل تدوين اللسان وقواعده، والقول بوُجُود التّرادف في اللسان؛ إنَّما هُو إثبات لظاهرة علْميَّة كونيَّة انعكست فيه.
أمَّا استخدام مفهوم التّرادف؛ بمعنى مُطابقة دلالة الكَلمات لبعضها رغم اختلاف ألفاظها؛ فهُو قول صادر، تساهلاً، في استخدام اللسان من قبَل عامَّة النّاس، وليس أصلاً فيه، ومع ضعف النّاس بلسانهم الأصليَّ الصّائب، وفُشُوِّ اللّحن والخطأ، وجُمُود الدّراسة والإبداع، وتناسي الفُرُوقات بين الكَلمات، والتّساهل في استخدام الألفاظ المُختلفة لدلالة واحدة لحُصُول الفَهْم عند المُخاطب؛ والأهم من كل ذلك صفة العجمة اللازمة للإنسان، انتشر بين النّاس مفهوم أنَّ اللسان يحتوي على ألفاظ مُختلفة، ولكنَّها من حيثُ الدّلالة واحدة في الواقع، واستمرَّ هذا الاستخدام، وشاع بين النّاس، وعندما قام بعض العُلماء بدراسة هذه الظّاهرة تأثَّروا بشُيُوعها بين النّاس، وظنّوا ـ وَهْمَاً منهم ـ أنَّ هذه الظّاهرة صائبة لساناً، فأدخلوها في قواعد اللسان ونظامه، تحت عُنوان التّرادف، ولكنْ؛ بمفهوم عامَّة النّاس.
واستمرَّت الأبحاث في اللسان من قبَل العُلماء، ولكنْ معظمهم وافقوا على مفهوم التّرادف الشّعبي، فمنهم مَنْ أنكر هذه الظّاهرة الشّعبيَّة، وبإنكاره ذلك نفى مُصطلح التّرادف في اللسان، ومنهم مَنْ وافق، وأقرَّ مفهوم التّرادف بالمعنى الشّعبي، وأخذ النّقاش والاختلاف في الأبحاث لهذه الظّاهرة اسم التّرادف في اللسان، وانقسم العُلماء فريقَيْن بين مُؤيِّد لوُجُود كَلمات مُختلفة بالألفاظ، ومُتطابقة بالدّلالة، تحت اسم التّرادف، وذهب فريق آخر لإنكار هذا الاستخدام؛ لأنَّه مُخالف لما عليه الواقع واللسان، وأنَّ اختلاف المبنى يُؤدِّي - قطعاً - لاختلاف المعنى، ولكنَّهم تأثَّروا باستخدام الفريق الأوَّل لمُصطلح التّرادف، فأنكروا التّرادف في اللسان، ردّاً على الفريق الأوَّل.
لذا؛ أوَّل عمل ينبغي أنْ نقوم به، هُو إرجاع مفهوم التّرادف إلى أصله؛ حيثُ أنَّه مُصطلح صواب لسانياً.
والكون ـ آفاق وأنفس ـ واللسان قائمان على ظاهرة التّرادف بالمعنى الصائب، ومن ثم؛ ينبغي عدم التَّأثُّر بعامَّة النّاس، واستخدامهم لمُصطلح التّرادف بشكل خاطئ، والواجب هُو تصويب مفهوم التّرادف عند النّاس، وليس إنكار ظاهرة التّرادف.
الأمر الثّاني الذي ينبغي أنْ يُؤخذ بعين الاهتمام، والجدِّيَّة، هُو أنَّ اللسان يُدرَس من أُصُوله ومصادره، وليس بما اشتهر على ألسنة النّاس، أو ما شاع بينهم من استخدام لدلالة الكَلمات والأساليب في الخطاب، فالنّاس يميلون في الخطاب، والتّواصل مع بعضهم، إلى التّساهل في الألفاظ، واستخدام الأساليب السهلة في الخطاب، ولو كان ذلك على حساب صواب اللسان بلاغةً، وقواعد، وصواب اللّسان العضوي فصاحة، مادام المُخاطَب فاهماً لقَصْد للمُتَكَلِّم.
انظر على سبيل المثال إلى صفات السيف، التي اشتهرت في التراث العربي، البتار، المهند، الصارم...الخ، فلو أن عدة سيوف لدينا، و قلنا لأحدهم: أعطنا المُهند ؟ وأعطانا واحداً وقعت يده عليه، لأخطأ الفعل، لأن قصدنا من الكلام، هو السيف الذي صُنع في الهند حصراً، (وذلك إن كانت صفة المهند يقصد بها منشأ السيف صنعة ) لا أي سيف آخر، أما استخدام الناس لصفة المهند لأي سيف كان، فهو استخدام اعتباطي أعجمي، ما ينبغي أن يستخدم ذلك برهاناً، أو حجةً على دلالة كلمة ما، نحو رأي بعض الباحثين؛ رغم أنه يتبنى قاعدة (إذا اختلف المبنى اختلف المعنى ) قال: لو طلبنا من أحدهم أن يعطينا البتار أو المهند من مجموعة سيوف أمامه فإن الفهم يحصل للسامع، ويقوم بتناول أي سيف لا على التعيين، ويعطينا إيّاه، فالصارم، والبتار، والمهند؛ هي السيف - في النتيجة- عند السامع؛ ! ومن ثم؛ فالترادف هو من باب المجاز لا أكثر)(1). وهذا الكلام خطأ فاحش، ما ينبغي أن يصدر من باحث قط !. انظر إلى كلمة بيت، ومنزل، ودار، ومسكن، ومثوى، ومأوى، فكل منها لها دلالة مختلفة عن الأخرى؛وكذلك كلمة: كتاب الله، والقرآن، والفرقان، والذكر، والكلام، والكلمات، والقول، واللفظ، والنطق..، مع احتمال وجود تداخل جزئي فيما بينهم في الدلالة، وقد يجتمعون في موصوف واحد.
فأصل اللسان المُسلَّم به دُون جَدَل، هُو التنزيل الحكيم لخصائصه عن سائر المصادر الأُخرى، فينبغي الانطلاق منه في الدّراسة، ومعرفة صواب المسألة - لساناً - من خلال نَظْم خطابه، وأُسلُوبه لاستخدام المُفردات في الجُمل؛ حسب واقع الحال لكُلِّ نصٍّ.
فظاهرة التّرادف ظاهرة علميَّة موجودة في اللسان، بالمعنى الصّائب، كما استخدمه العَرَب القُدامى قبل التّدوين؛ وهُو إلحاق الكَلمات المُشتركَة بأصل واحد، نحو الحرف الأول أو الثاني، والمُختلفة بالشّكل والأُسلُوب؛ حين إسقاطها على الواقع ببعضها، ووَضْعها في خندق واحد تحت اسم التّرادف، الذي يدلُّ على المقولة التي تقول:
(إذا اختلف المبنى؛ اختلف المعنى، وأيُّ زيادة في المبنى؛ إنَّما هي زيادة في المعنى).
أمَّا ما يشاهده عامَّة النّاس، من إطلاق مجموعة من الأسماء أو الصّفات على شيء واحد في الواقع، ويظنُّون أنَّ هذه الأسماء، والصّفات المُختلفة باللّفظ مُتَّفقة بالمعنى؛ فهذا وَهْمٌ وقُصُور منهم في إدراك الفُرُوقات والتّباين، والمُناسبة التي اقتضت إطلاق هذه الصّفات على شيء واحد؛ انظر مثلاً للسَّيَّارة في الواقع؛ كيف أخذت عدَّة أسماء وصفات، وذلك لاختلاف وظائفها، أو اشتراكها بعدَّة وظائف، فَمَنْ نَظَرَ إلى السَّيَّارة من ناحية وظيفة نَقْل النّاس أطلق عليها اسم (ناقلة)، ومَنْ نَظَرَ إليها من ناحية وظيفة أنَّها تجمع النّاس - بالنّسبة للسَّيَّارة الكبيرة - أطلق عليها اسم (حافلة)، ومَنْ نَظَرَ إليها من ناحية وظيفة الرُّكُوب، أطلق عليها اسم (مركبة)، ومَنْ نَظَرَ إليها من ناحية وظيفة تخصيصها لحَمْل البضاعة وشَحْنها؛ أطلق عليها اسم (شاحنة)، فالمسمى واحد، ولكن الصفات مختلفة.
هكذا وُلدت أسماء الأشياء وصفاتها؛ من خلال وظيفة الشّيء في الواقع، فإذا تعدَّدت وظائفه تعدَّدت أسماؤه، فكُلُّ اسم أو صفة يُوجد في دلالتها، ما لا يُوجد في صفة أُخرى، فالمُسمَّى واحد في الواقع، والصّفات مُختلفة، والاسم هُو صفة اختيرت دُون غيرها من الصّفات؛ للدّلالة على شيء؛ كاسم عَلَم له؛ ليتمَّ التّخاطب، والتّواصل، والتّفاهم عند قوم مُعيَّنين، مع إمكانيَّة اختيار غيرها من الصّفات؛ لتكون اسماً عند آخرين، وهذا ما هُو حاصل في الواقع بين المُجتمعات العَرَبيَّة، مع العلم أن الاسم لا يُغطي كل وظائف المُسمى، انظر إلى كلمة(حاسوب) كيف هي قاصرة لا تغطي وظائف الكمبيوتر، وينبغي البحث عن غيرها، أو نحت كلمة مؤلفة من كلمتين أو ثلاثة لتُغطي وظائف هذا الجهاز، أو استخدام الكلمة الأجنبية ذاتها ولا حرج في ذلك قط!.
فتفاعل النّاس مع الأشياء مُختلف عن بعضهم، وكَذلك رُؤيتهم لوظائف الأشياء، واستخدامهم لها، مُختلف حسب احتياجات كُلِّ قوم، ومن هذا الوجه ظهر تعدُّد الأسماء لشيء واحد في الواقع، بل وأدَّى ذلك إلى تعدُّد الألسنة، ووُجُود كَلمات في لسان، ونَفْيها في لسان آخر،وذلك راجع إلى البيئة الجَغرافيَّة والثّقافيَّة، والأدواتية، والتّفاعل معهم.
إنَّ التنزيل الحكيم، نزل عَرَبي اللسان كدلالات، مُرتبط بمدلولات في الواقع، فكان من الطّبيعي جدّاً أنْ يتَّصف بصفة الواقع، واللسان العربي، فكان كتاباً كونيّاً ـ آفاق وأنفس ـ من حيثُ المضمون، وعَرَبي اللسان؛ من حيثُ الظّاهرة الصّوتيَّة، التي هي انعكاس وتفاعل الإنسان مع الواقع، فاحتوى ظاهرة التّرادف كما هي موجودة في الواقع، وكما انعكست في اللسان العَرَبي، ولهذا؛ اختير اللسان العَرَبيَّ دُون غيره؛ ليحتوي الظّاهرة الصّوتيَّة للتنزيل الحكيم، كونه لساناً مُرتبطاً بالواقع، ومُتلاحماً ومُتناغماً معه، يعكس وظائفه واختلافاته، وصفاته بشكل دقيق أشبه بالمرآة، والعلم يقوم على هذه القاعدة الكونية، واللسانية، انظر إلى القواعد والبيانات في الكمبيوتر، فلكل معلومة اسم، أو رمز خاص به، ولا يقبل بحال اسم ٌواحدٌ؛ تطلقه على مجلدين، أو معلومتين قط.
لذا؛ ينبغي الانتباه وأَخْذ الحذر، أثناء دراسة التنزيل الحكيم، فهُو نصٌّ حيٌّ؛ لارتباطه بالحياة، ونصٌّ واقعيٌّ؛ لارتباطه بالواقع، فكُلُّ لفظة فيه تدلُّ على معنى مُختلف عن لفظة أُخرى، ولكنَّها ليست مُنقطعة عن بعضها، بل هي مُترادفة في النّهاية، بشكل أو بآخر، لتُشكِّل مع بعضها، التنزيل الحكيم المُتلاحم، الذي يعكس الواقع المُترادف بأجزائه؛ لتحقيق التّلاحم والتّناغم الكوني.
العطف نوعان
ينبغي الانتباه إلى مسألة اشتراك الأسماء، أو الصفات بمسمى واحد نحو قوله تعالى: {هُوَ الأوّلُ والآخر وَالظّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الحديد 3)، فهذه كلمات متغايرة من حيث المعنى والدلالة، وعملية العطف تقتضي التغاير ضرورة، لا كما ذهب إليه بعض الباحثين(1) في إساءة فَهم تغاير دلالة الصفات إذا عُطفت على بعضها، فالعطف نوعان : تغاير صفات، وتغاير ذوات، ونص التنزيل الحكيم المذكور، هو من باب تغاير الصفات، واختلاف الدلالة لمسمى واحد، الذي هو الله .
وسآتي – إن شاء الله – بأمثلة؛ لأبيِّن أنَّ اختلاف اللّفظ، يُؤدِّي إلى اختلاف المعنى - حتماً – ضرورة واقعيَّة، ولسانية، وقُرآنيَّة، وينبغي على الباحث أنْ يتنبَّه إلى الفُرُوقات بين الكَلمات، من خلال مدلولها في الواقع، ومن خلال سياقها في النَّصِّ، فالفُرُوق بين الكَلمات،قد يَقصر القاموس اللساني عن إظهارها، وهذا لا يعني انتفاء الفرق بين الكَلمتَيْن، فينبغي على الباحث أنْ يعتمد على التنزيل الحكيم أوَّلاً، وينظر كيف استُخدمت هذه اللّفظة فيه، وبأيِّ مُناسبة وسياق، وذلك من خلال تتبُّع الكَلمة، في التنزيل الحكيم كُلِّه بشكل كامل، أمَّا الكَلمات التي لم يستخدمها التنزيل الحكيم؛ فتُفهم، وتَظهر الفُرُوق بينها؛ من خلال دراسة نشأة كُلٍّ منها،ودلالة أصوات أحرفها فيزيائياً،ووجود ظاهرتها في الواقع، ومن استخدام العَرَب لها قديماً، وإلحاقها بأصلها مع أخواتها المُترادفة، فيظهرـ بالتَّالي ـ معناها وتباينها عن أخواتها، وعلم اللّسانيَّات يبحث في ذلك، وهُو في تطوُّر مُستمرٍّ، واخترتُ من الكَلمات مجموعة شائعة بدلالتها الواحدة؛ وهي كَلمات مُستخدمة في التنزيل الحكيم؛ وهي : جاء وأتى وحضر، أراد وشاء، قرأ و تلى، وذلك كَنموذج يحتذي به القارئ، في عمليَّة إيجاد الفُرُوق والتّباين بين الكَلمات المُختلفة لفظاً، فإنَّ وصل إلى الفُرُوق فبها ونعمت، وإنْ لم يصل فإنَّ هذا لا يعني انتفاء الفُرُوق بين الكَلمات، بل ينبغي عليه أنْ يُتابع البحث، حتَّى يصل؛ لأنَّ اختلاف اللّفظ يُؤدِّي إلى اختلاف المعنى قطعاً.
أ ـ الفرق بين: جاء، وأتى، وحضر.
إنَّ هذه الكَلمات المُترادفة، قد يظنُّ السّامع لها – للوهلة الأُولى – أنَّها ذات دلالة واحدة في الواقع، وذلك من جرَّاء استخدام النّاس لها دُون تمييز بينها، فما نستخدم فيه كَلمة (جاء) نستخدم فيه كَلمة (أتى)، وكَذلك كَلمة (حضر)، ويتمُّ فَهْم الخطاب بين النّاس؛ لأنَّ الأصل في الخطاب هُو إفهام النّاس، وكون الفَهْم قد حصل، فيتساهل النّاس في استخدامهم للكَلمات محلّ بعضها بعضاً؛ من مُنطلق أنَّ الألفاظ خَدَمٌ للمعاني، والمعاني سيِّدة الألفاظ، وهذه الحالة مقبولة في مجرى الحديث بين النّاس، ولا ينبغي أنْ تتجاوزه إلى الدّراسة والأبحاث اللسانية، ناهيك عن النَّصِّ القُرآني؛ لأنَّ التنزيل الحكيم نزل مُستخدماً نظام اللسان العَرَبي بشكل مصيب، وصاغ النَّصَّ بشكل بليغ، لا يُوجد فيه تساهل في استخدام اللسان قط.
فلو وقع ذلك لتمَّ القضاء على التنزيل الحكيم؛ لارتباطه باستخدام قوم في زمان ومكان مُعيَّنَيْن، ممَّا يقتضي انتفاء صلاحيَّته لكُلِّ زمكان من جرَّاء التّساهل، وصفة الأعجمية، الذي يصل ـ في النّهاية ـ إلى التَّسيُّب وضياع الفُرُوقات بين الكَلمات، ومن ثم؛ يصح ـ عندهم ـ أنْ نخلط بين الكَلمات، دُون أنْ تتغيَّر دلالة النَّصِّ، والواقع أنَّ أيَّ تغيير في كَلمات التنزيل الحكيم، يترتَّب عليه تغيير في دلالة النَّصِّ؛ من حيثُ إسقاطه على الواقع، واللّه عندما اختار كَلمة دُون غيرها من الكَلمات؛ فقد اختارها من مُنطلق العلم والحكمة، وأنَّ ذلك المعنى لا يُؤدِّيه إلاَّ هذه الكَلمة، دُون سائر أخواتها المُترادفة، وبناء على ذلك؛ لكَ أنْ تتصوَّر ـ أخي القارئ ـ الأمرَ كم هو على درجة من الأهمِّيَّة، عندما نتعامل مع التنزيل الحكيم، دُون تمييز، أو تفريق بين دلالة الكَلمات المُترادفة؛ أيْ أننا نتعامل معه بأسلوب العَوام، وتَعامُلِهم فيما بينهم، فكم من الدّلالات، والمعاني التي غابت عن الدّراسة، والفَهْم بسبب التّعامل العامِّي مع التنزيل الحكيم، نحو: النبي والرسول، والسنة والحديث،والكلام والقول،واللفظ والنطق،والنفس والروح، والإنسان والبشر، والخلق والجعل، والعلم والمعرفة...الخ، غير تحريف النص ذاته من حيث القول بجواز إنابة أحرف الجر عن بعضها دون أن يتغير المعنى!، بل تجرؤا على القول بتقدير كلمات ضمن الجملة القرآنية غير موجودة أصلاً!، ممَّا أدَّى مع الزّمن إلى أن يصير النص القرآني نصاً عادياً؛بل وأحياناً شاذاً في أسلوب خطابه!، وصارت اللغة الاعتباطية هي الحَكم والفصل والمهيمنة عليه !،وَنَظرنا إليه كنظرتنا إلى حديث بعضنا بعضاً، ونكتفي بتقديس المبنى وتلاوته، دُون قراءته، فتفرَّغ من مُحتواه، وغاب عن السّاحة الاجتماعيَّة وطاولة البحث والدّراسة، وتم هجره، وصار يُفهم كفَهْم الإنسان العامي للكلمات، وما شاع منها على الألسنة، فكان ذلك من أحد الأسباب الرئيسة لانحطاط المُسلمين ثقافيّاً وعلميّاً.
انظر على سبيل المثال كيف أورد القاموس(1) دلالة كَلمة (جاء): جاء يجيء جيئاً: أتى. وإذا فتحنا على مادَّة (أتى) نجد القاموس يذكر: أتيتُهُ أَتْيَاً وإتْيَاناً: جئتُهُ.
فدلالة كَلمة (أتى وجاء) في القاموس واحدة، وكَذلك كَلمة (أراد وشاء)، وغيرها من الكَلمات المُترادفة الكثيرة، فكُلُّها ـ في النّهاية ـ دلالتها واحدة؛ فأيُّ عبث بعد ذلك !، وأين الإحكام في اللسان ؟. وهل يصحُّ في الاستخدام اليومي أنْ نُطلق على الأشياء المُختلفة أسماء عدَّة يصحُّ أنْ تصلح لبعضها بعضاً؛ نحو السَّيَّارة والطَّيَّارة والغوَّاصة.. إلخ؟! فهل يصحُّ استخدام كَلمة (غوَّاصة) للسَّيَّارة، وبالعكس؟!.
إذاً؛ القاموس اللساني ليس له قداسة، وليس هُو الفَصْل في الخطاب، وليس هُو بُرهانٌ بحَدِّ ذاته، وإنَّما هُو وسيلة مُساعدة لدراسة دلالة الكَلمة، وينبغي البحث في القواميس –كافَّة – على حَدٍّ سواء، والاعتماد على التنزيل الحكيم؛ كونه حُجَّة لسانية بذاته، لا يحتاج لأيِّ جهة تُثبتُهُ، إضافة إلى دراسة الكَلمة، من خلال نشأتها وبُنيتها، ودلالة أصواتها.
وعود على بدء إلى كَلمة (جاء) و (أتى):
إنَّ استقراء الآيات الكريمة التي وَرَدَ فيها أحد اللّفظَيْن، أو كلاهما، نجد أنَّ بين اللّفظَيْن فوارق عميقة في الدّلالة، قد تخفى للوهلة الأُولى، وهذا الخفاء سبب في عدم التّمييز بين دلالتهما، وإعطائهما الدّلالة ذاتها في الواقع، والأمر ليس سهلاً في التّمييز بين دلالتهما، فهُو يحتاج إلى تأنٍّ، وعُمق في التّفكير، والتَّدبُّر بحال كُلِّ كَلمة، وكيف استخدمت في الدّلالة على الواقع؛ لأنَّ المقاصد والمعاني هي الأساس والمُنطلق، في التّمييز بين دلالة الكَلمات،وليس الألفاظ؛ ولذلك قال عُلماء اللسان: المعاني والمقاصد سيِّدة الألفاظ، والألفاظ خَدَمٌ للمعاني. وأنا أقول : الألفاظ أجسام صوتية تكمن فيها دلالتها الواقعية، وتُدرَك المعاني من خلال تحليل دلالة أصوات الكلمة، وإسقاطها على محلها من الخطاب.
وهذا يعني أنَّنا إذا أردنا أنْ نعرف الفرق بين دلالة كَلمتَيْن مُترادفتين؛ فينبغي دراسة محلِّ الخطاب للنَّصِّ الذي وَرَدَتْ فيه الكَلمة، ومن خلال إسقاط النَّصِّ على الواقع، تبدأ عمليَّة ظُهُور الفوارق بين دلالة الكَلمات، بشكل خفي، إلى أنْ تظهر كاملة، فيُصاب الباحث بالذُهُول، من الفرق الكبير بين دلالة الكَلمتَيْن، اللَّتَيْن كان في بدء البحث يظنُّ أنَّ دلالتهما واحدة.
قال تعالى: {حَتّىَ إِذَآ أَتَوْا عَلَىَ وَادِي النّمْلِ} (النّمل 18).
{وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الّتِيَ أُمْطِرَتْ مَطَرَ السّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً} (الفُرقان 40).
{هَلْ أَتَىَ عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مّنَ الدّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مّذْكُوراً} (الإنسان 1).
نُلاحظ في الآيات الثّلاثة أنَّ فعل (أتى) جاء بعده حرف على، ولو افترضنا – من باب النّقاش ـ أنَّنا وضعنا فعل (جاء) بدلاً عن فعل (أتى) في النُّصُوص المذكورة؛ لَوَجَبَ حَذْفُ حرف (على)، ويصير النَّصّ (حتَّى إذا جاءوا واد النّمل)، فيصير المعنى مُختلفاً –تماماً- عن جُملة (أتوا على)، وكَذلك جُملة (أتى على) لو جعلناها (جاء على) لتغيَّر المعنى تماماً، لنرَ ذلك من خلال النَّصِّ القُرآني ذاته {هَلْ أَتَىَ عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مّنَ الدّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مّذْكُوراً} فلو قُلنا (هل جاء على الإنسان حين من الدّهر) لأفادت أنَّ الإنسان محلٌّ لرُكُوب الدهر عليه، ومطيَّة له، وصار الكلام ـ حسب السّياق ـ مُتعلِّقاً بالدّهر، وليس بالإنسان، ولَوَجَبَ تقديم كَلمة الدّهر على كَلمة الإنسان؛ كونه المعنيّ في النَّصِّ، نحو قولنا: هل جاء على الفَرَس زيدٌ. فمحلُّ السُّؤال والاهتمام هُو الفَرَس، لا زيدٌ، بخلاف قُولنا: هل جاء زيدٌ على الفَرَس؛ لصار زيدٌ محلاً للسُّؤال والاهتمام، وليس الفَرَس.
ففعل (جاء) لو استخدم في النُّصُوص المذكورة، بدل فعل (أتى) لَوَجَبَ حَذْفُ حرف (على)، وصار المعنى هُو مُجرَّد الوُصُول والحُضُور والانتقال من إلى، بخلاف فعل (أتى) في النُّصُوص؛ فهُو يتكَلَّم عن فعل زائد على فعل المجيء، فما هُو؟
لو أمعنّا النَّظَرَ في كَلمة (جاء) لوجدنا أنَّها تنتهي بالهمزة، التي هي بداية كَلمة (أتى)، ممَّا يدلُّ على أنَّ نهاية فعل (جاء) هي بداية فعل (أتى)، وإذا قُمنا بتحليل دلالة أحرف كَلمة (جاء)، وكَلمة (أتى) نُلاحظ في ـ واقع حال كُلٍّ منهما ـ أنَّ فعل (جاء) هُو بداية فعل (أتى)؛ انظر مثلاً إلى قولنا : جاء زيدٌ على الطّعام، ماذا يدلُّ في واقع الحال؟. وقولنا : أتى زيد على الطّعام، ماذا يدلُّ في واقع الحال؟
ففعل (جاء) في الجُملة الأُولى، يدلُّ على مُجرَّد وُصُول زيد وحُضُوره، في وقت الطّعام تماماً.
انظر إلى قوله تعالى: {وَجَآءُوَا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ} (يُوسُف 16). كيف يدلُّ على مُجرَّد الوُصُول والحُضُور، والانتقال من إلى.
بينما فعل (أتى) في الجُملة الثّانية، يدلُّ على حُصُول زيد على الطّعام، والقضاء عليه.
انظر قوله تعالى: {مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاّ جَعَلَتْهُ كَالرّمِيمِ} (الذّاريات 42).
المُلاحظ من فعل (أتى) أنَّه لا يكون في الواقع، إلاَّ بعد عمليَّة الوُصُول إلى الشّيء المعني بالإتيان، فجُملة (أتى زيد على الطّعام) لا يُمكن أنْ تتحقَّق دلالتها، إلاَّ إذا جاء زيد إلى الطّعام، ممَّا يدلُّ على أنَّ فعل (أتى) له دلالة زائدة على فعل (جاء) في واقع الحال؛ وهي حُصُول الشّيء في الواقع، ومَنْ يحصل على شيء – قطعاً – يكون قد جاء إليه، بخلاف مَنْ جاء إلى الشّيء، فلا يُشترط له الحُصُول عليه، فكُلُّ حُصُول يتضمَّن الوُصُول، والعكس غير صواب؛ أيْ كُلُّ فعل إتيان يتضمَّن فعل المجيء، وليس كُلُّ فعل مجيء يتضمَّن فعل الإتيان.
وبناءً على ذلك؛ تكون جُملة{حَتّىَ إِذَآ أَتَوْا عَلَىَ وَادِي النّمْلِ} بمعنى أنَّهم جاءوا، ودخلوا في واد النّمل، وليسوا ـ هُم ـ على مشارفه، وكَذلك الآيات الأُخرى تدلُّ على حُصُول الشّيء.
انظر قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرّاكِعِينَ}البقرة(43) ففعل (آتوا) بمعنى طَلَب الحُصُول للزّكاة في الواقع، وهذا لا يتأتَّى، إلاَّ إذا كانت مادة الزكاة داخلة في دائرة ملكيتنا، ومن ثم نقوم بإعطائها للمستحقين، وانظر قوله تعالى: { وَلاَ يَأْتُونَ الصّلاَةَ إِلاّ وَهُمْ كُسَالَىَ}( التوبة 54 ).
فلو استخدم فعل (يجيئون) في النَّصِّ؛ لصار المعنى أنَّ حالة الكَسَل – هي- في عمليَّة السَّيْر فقط، بينما عندما استخدم فعل (يأتون) أفاد أنَّ حالة الكَسَل، مُتلبِّسة في أداء الصّلاة نفسها، ومن باب أَولى الكَسَل في السّير إليها.
وانظر قوله تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن الْعَالَمِينَ}(الأعراف 80). فالنَّصُّ لا يتكَلَّم عن عمليَّة المجيء فقط؛ الذي يدلُّ على مُجرَّد الوُصُول والحُضُور، بل عن عمليَّةُ حصُول الفاحشة في الواقع، وحُصُول الفاحشة، لا يتأتَّى إلاَّ بعد المجيء إليها.
وانظر قوله تعالى: { وَمَآ آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ( الحشر 7 )
بمعنى أنَّ الشيء هو حاصل داخل دائرة تصرف الرّسول، وأعطاكم إياه فخذوه، وما منعكم عنه فامتنعوا، ومن هذا الوجه؛ تمَّ تفسير (آتاكم) بمعنى أعطاكم، وواضح أنَّ فعل الحُصُول على الشّيء ـ قطعاً ـ بعد فعل المجيء به، أو إليه، ولاسيما أن الجملة، هي جزء من نص، يبدأ بقوله تعالى: {مّآ أَفَآءَ اللّهُ عَلَىَ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىَ فَلِلّهِ وَلِلرّسُول...} (1).
قال تعالى: {يَأَبَتِ إِنّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتّبِعْنِيَ أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً}( مريم 43)
بمعنى؛ إنَّي قد وصلني من العلم ما لم يكن في دائرة علمك حاصل.
وقال: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مّبِينٍ}{قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصّادِقِينَ} (الشُّعراء30_ 31). بمعنى؛ أَوَلَو أَوْصَلْتُ وأَحْضَرْتُ لكَ أمام ناظرَيْكَ شيئاً مُبيناً، فكان الرَّدُّ هُو أَظْهرْ الذي معكَ إلى ساحة الحُصُول إنْ كُنتَ مُدَّعياً وُصُوله إليكَ.
قال تعالى : {لّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشّهَدَآءِ فَأُوْلَـَئِكَ عِندَ اللّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (النّور13). فعمليَّة المجيء بالشُّهداء هي وُصُولهم وحُضُورهم، أمَّا قوله: {لَمْ يَأْتُواْ بِالشّهَدَآءِ}أيْ؛ لم تحصل الشّهادة في واقع الحال، والمُلاحظ أنَّ إتيان الشّهادة ـ قطعاً ـ لا يتمُّ إلاَّ بعد وُصُولهم وحُضُورهم، فإذا تمَّ ذلك الوُصُول، والحُضُور؛ ترتَّب عليه حصُول الشّهادة في الواقع، ولذلك استخدم النَّصُّ القُرآني فعل (جاء)؛ ليدلَّ على الوُصُول والحُضُور، وأتبعه بفعل (أتى)؛ ليدلَّ على أنَّ الغاية من مجيء الشُّهداء، إنَّما هُو حُصُول شهادتهم، والإدلاء بها، وعندما نفى عمليَّة إتيان الشُّهداء يكون قد نفى ـ ضمناً ـ عمليَّة مجيئهم.
قال تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُواْ يَمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} (مريم27)
المُلاحظ أنَّ فعل (أتى) في النَّصِّ، لا يدلُّ على مُجرَّد الوُصُول والحُضُور، وإنَّما هُناك أمر آخر مُتلازم مع فعل المجيء؛ ألا وهُو حُصُول أمر على درجة من الأهمِّيَّة، لذلك جاء فعل (أتى) ليُغطِّي الحَدَث –كاملاً- من حيثُ وُصُول مريم وحُضُورها، وحُصُول حَدَث مُلازم لفعل مجيئها؛ وهُو حَمْل الطّفل بين يدَيْها، أمَّا استنكار قومها بقولهم{ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} فذلك لأنَّ الحَدَثَ كان ـ بالنّسبة إليهم ـ هُو مُجرَّد وُصُول وحُضُور من خارج دائرة معرفتهم.
قال تعالى: {وَلاَ عَلَى الّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} (التوبة 92)، وقال: { وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَىَ لَمْ يُصَلّواْ فَلْيُصَلّواْ مَعَكَ}(النّساء102).
ففعل (أتى) في النَّصَّيْن المذكورَيْن، لا يعني مُجرَّد فعل مجيئهم،كما هُو ظاهر، للوهلة الأُولى، وإنَّما المقصود الاستعداد الحاصل في نُفُوسهم، وإرادتهم للقيام بالعمل المُرافق لفعل المجيء، لذلك استخدم اللّه فعل (أتى).
قال تعالى : {اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىَ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} (يُوسُف93).
فلو استُخدم فعل (جاء) بدل فعل (أتى) في النَّصِّ لصار معنى النَّصِّ؛ أنَّ عمليَّة ارتداد البصر تحصل أثناء ذهابه إلى ابنه، بينما فعل (أتى) أفاد حُصُول ارتداد البصر مُباشرة، وتضمَّن طَلَب فعل مجيء أبيه إليه.
وكَذلك فعل {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ}، فليس المطلوب هُو المجيء بهم فقط، وإنَّما يتضمَّن أنَّ فعل المجيء؛ هُو لحُصُول الإكرام لهم، والعناية بهم.
قال تعالى: {أَئِنّكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} (العنكبوت29).
فواضح من النَّصِّ أنَّ فعل (الإتيان) يدلُّ –قطعاً- على الحدوث، والحُصُول، والتّعاطي، ولا يتأتَّى ذلك في الواقع؛ إلاَّ بعد فعل المجيء بها، أو إليها.
قال تعالى: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاّ السّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا}(مُحَمَّد18).
فعمليَّة حُدُوث السّاعة وحُصُولها، إنَّما هُو بغتة، بينما تجيء أشراطها تِباعاً، واحدة تلو الأخرى، ولمَّا يحصلوا جميعاً بعدُ.
قال تعالى: {وَجَآءُوا عَلَىَ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} (يُوسُف18).
ففعل (جاء) يدلُّ على قيام أُخوة يُوسُف بإحضار دم جديد، ووضعه على القميص، بعد أنْ جاؤوا أباهم، ولم يُصدِّقهم، ولو استخدم فعل (وأتوا على قميصه بدم)؛ لأفاد أنَّ القميص كان معهم، مُنذُ وُصُولهم إلى أبيهم، وعرضوه بشكل مُباشر، ولم يقولوا:
{ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لّنَا وَلَوْ كُنّا صَادِقِينَ}يوسف 17)
الخُلاصة:
إنَّ فعل (جاء) يدلُّ على الوُصُول، و الحُضُور الآني، سواء من داخل دائرة معرفتنا أم من خارجها .
وفعل (أتى) يدلُّ على الحُدُوث، والحُصُول للشيء من داخل دائرتنا سواء أكان مادياً أم معنوياً.
فكُلُّ فعل (إتيان) يتضمَّن فعل (المجيء)، والعكس غير صواب، ومن ثم؛ فلكُلٍّ منهما استخدامه في الواقع حسب الحال الذي يقتضيه، ومن هذا الوجه تظهر البلاغة في الأقوال.
أمَّا كَلمة (حضر)؛ فهي بعيدة جدّاً عن دلالة كَلمة (جاء وأتى)، وهي من الشُّهُود والوُجُود في المكان المعني، ولا يُشترَط لها عمليَّة الانتقال المكاني من إلى، أو المعنوي، فالإنسان الموجود في مكان مُعيَّن، يكون حاضراً لما يحدث فيه، ولو كان غير قاصد لذلك الفعل، فيكون شاهداً على ما يحصل، من خلال عمليَّة حُضُوره.
قال تعالى: {حَتّىَ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبّ ارْجِعُونِ} (المُؤمنون99).
{حَتّىَ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنّي تُبْتُ الآن} (النّساء 18).
{وَأَنفِقُواْ مِن مّا رَزَقْنَاكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلآ أَخّرْتَنِيَ إِلَىَ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصّدّقَ وَأَكُن مّنَ الصّالِحِينَ} (المُنافقون10).
النَّصُّ الأوَّل: يدلُّ على وُصُول الموت، وبدئه في الإنسان. (جاء الموتُ).
النَّصُّ الثّاني: يدلُّ على حُضُور الموت، وتواجده في المكان الموجود فيه الإنسان كشاهد، ولماّ يصل الموتُ إلى الإنسان بعدُ. (حَضَرَ الموتُ).
النَّصُّ الثّالث: يدلُّ على حُصُول الموت، وتمكُّنه من الإنسان، وتمَّ استخدام الفعل المضارع (يأتي) ليُخبر اللّهُ الإنسانَ، ويُوجِّهه إلى الإنفاق والعمل الصّالح قبل أنْ يُصيبه الموتُ، ويتمكَّن منه. (أتى الموت).
ب ـ الفرق بين أراد وشاء.
إنَّ كَلمة (أراد) تدلُّ على القَصْد والعَزْم والتّحديد، والرّغبة بشيء مُعيَّن دُون غيره؛ بخلاف كَلمة (شاء)، فهي تدلُّ على الاختيار الاحتمالي، دُون تحديد لشيء بعينه.
لنرَ ذلك من خلال الآيات القُرآنيَّة:
قال تعالى: {إِنّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (يس 82)
{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلاّ مَا شَآءَ رَبّكَ إِنّ رَبّكَ فَعّالٌ لّمَا يُرِيدُ} (هود 107)
{قُلْ مَن ذَا الّذِي يَعْصِمُكُمْ مّنَ اللّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوَءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً } (الأحزاب 17)
فالمُلاحظ من النُّصُوص السّابقة أنَّ (الإرادة) مُتعلِّقة بالفعل -دائماً -، ولا تأتي مُجرَّدة دُون فعل، ممَّا يُؤكِّد على دلالة (أراد) للقَصْد والعَزْم على الشّيء، كَذلك نُلاحظ أنَّ كَلمة (أراد) تدلُّ على تحديدها وتعلُّقها بشيء مُعيَّن؛ أيْ لكُلِّ فعل (إرادة) مُتعلِّقة به، انظر إلى قوله تعالى: { إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوَءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً }ففعل السُّوء، له إرادة مُتعلِّقة به، وفعل الرّحمة له إرادة مُتعلِّقة به.
أمَّا كَلمة (شاء)؛ فقد وَرَدَتْ لتدلَّ على الاختيار الاحتمالي المُتساوي بين طرفَيْن، بين الفعل والتَّرْك على حَدٍّ سواء.
قال تعالى: {لّوْ أَرَادَ اللّهُ أَن يَتّخِذَ وَلَداً لاّصْطَفَىَ مِمّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهّارُ} (الزمر 4)
فلو قَصَدَ وعَزَمَ اللّه -سبحانه - على أنْ يتَّخذ ولداً؛ لقام بعمليَّة الاصطفاء، ممَّا يخلق دُون تحديد لمخلوق بعينه سابقاً، وإنَّما الأمر مُرتهن بعمليَّة الاختيار الاحتمالي.
وقال: {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاّ أَن يَشَآءَ اللّهُ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} ( الإنسان 30)، فمشيئة الإنسان في الواقع، لها احتمالات، فإذا اختير أمرٌ، وحُدد بعينه؛ تحوَّلت المشيئة إلى إرادة.
ولو فهمنا أنَّ المشيئة تعني الإرادة في النَّصِّ؛ لصار الإنسانُ مُجبراً مُسيَّراً بإرادة اللّه، إذ أن إرادة اللّه حتميَّة في التّنفيذ، ومُحدَّدة في الواقع، ومُرتبطة بفعله، فَعّال لما يُريد ومن ثم؛ يصير الإنسان مُنفِّذاً لإرادة اللّه، وهذا يقتضي ـ في واقع الحال ـ نفي الحُرِّيَّة، وإبطال المسؤوليَّة، والثّواب، والعقاب.
لذلك استخدمت كَلمة (شاء)؛ لتدلَّ على أنَّ الإنسان يقوم بمشيئته، في عمليَّة الاختيار الاحتمالي، فإذا قَصَدَ وعَزَمَ على أمر مُعيَّن؛ تحوَّلت مشيئته إلى إرادة، وكُلُّ ذلك يجري ضمن مشيئة اللّه، فالإنسان يُؤمن أو يكفر ضمن مشيئة اللّه، وليس بإرادة اللّه، فلا يصحُّ أنْ يقول الإنسان عن أيِّ عمل يُريد أنْ يعمله : إذا أراد اللّه؛ لأنَّ هذا يعني نَفْي المسؤوليَّة عن الإنسان، ويصير المسؤول الحقيقي هُو اللّه ، كون الأمر قد فُعل بإرادته، والصّواب أنْ يقال: إنْ شاء اللّه؛كما علَّمنا ربُّنا بقوله: {وَلاَ تَقْولَنّ لِشَيْءٍ إِنّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً}{إِلاّ أَن يَشَآءَ اللّهُ } (الكهف23-24)؛ لأنَّ حُصُول الشّيء في الغد؛ أمر احتمالي مُرتبط بالظُّرُوف، والإمكانيَّات، وقد يحول بين الإنسان، وفعله ظُرُوف مُعيَّنة، وعلى كلا الحاليْن (الفعل أو التَّرْك)، فالأمر بمشيئة اللّه، وليس بإرادته؛ لأنَّ الفعل، أو التَّرْك إنَّما هُو من الإنسان، وليس من فعل اللّه، ومن ثم؛ فالإنسان مسؤول عن أعماله.(1)
فالمشيئة أعمُّ من الإرادة، وسابقة عنها من هذا الوجه.
ج ـ الفرق بين قرأ و تلى.
قرأ: أصل صحيح يدلُّ على جَمْع واجتماع، ومجموع أحرفها تدل على وقف، أو قطع شديد مكرر، منته بظهور خفيف منقطع. وظهر ذلك المعنى ببذل الإنسان جهده للوصول إلى الحقيقة، أو الصواب؛ من خلال عملية الدراسة والتفكير، واجتماع هذه المعرفة في ذهنه.
تلى: من تلو، وهُو أصل واحد، وهُو الإتباع. ومجموع أحرفها تدل على دفع خفيف بحركة لازمة بطيئة، منتهية بامتداد، واستقامة.
فهُناك فرق كبير بين فعل(القراءة) وفعل(التّلاوة) في الواقع:
قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ } (الأنعام 151)
{ وَأُحِلّتْ لَكُمُ الأنْعَامُ إِلاّ مَا يُتْلَىَ عَلَيْكُمْ } (الحج 30)
والمقصد من فعل (تلى) في النُّصُوص، هُو ذكْر كلام اللّه بشكل صوتي آية تتبع آية، ومن هذا الوجه نقول : سوف يتلو عليكم زيدٌ من سُورة كذا؛ فالتّلاوة هي مُجرَّد إتباع الكلام بعضه بعضاً، دُون زيادة أو نُقصان، سواء ً أكان من صحيفة أمام التّالي، أم من ذاكرة حفْظه، فكِلا الحالتَيْن تُسمَّى تلاوة، ومن ثم؛ لا يُشترَط لمَنْ يقوم بالتّلاوة حُصُول الفَهْم والتَّدبُّر.
أمَّا فعل (قرأ)؛ فلابُدَّ له من عمليَّة الجَمْع، والاجتماع أنْ تتحقَّق في قلب القارئ، فعندما نقول: إنَّ زيداً قرأ عليكم نصّاً إخباريّاً، غير قولنا: إنَّ زيداً سوف يتلو عليكم نصّاً إخباريّاً.
فقراءة النَّصِّ، إنَّما هي جَمْع ما يتعلَّق بهذا النَّصِّ من معاني ودلالات، والقيام بشَرْحه، وتحليله، والاستنباط منه، وإسقاطه على محلِّه من الخطاب، بمعنى آخر؛ القراءة فَهْم وتدبُّر وتفكير، وقد يُصاحبها تلاوة، وقد لا يُصاحبها تلاوة، ألا ترى أنَّ المُراقب الجوِّيَّ يقوم بقراءة صُور الأقمار الصّناعيَّة ليتنبَّأ عن الأحوال الجوِّيَّة، وكَذلك الطّبيب يقوم بقراءة الصُّور الشُّعاعيَّة، أو صُور الرّنين المغنطيسي، أو تخطيط القلب….الخ، ثُمَّ يُعطي نتيجة قراءته.
فعندما طلب اللّه من نبيِّه فعل القراءة بقوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ} (العلق 1)، كان يعلم أنَّ النّبي لا يعرف الخطِّ وتلاوة المخطوط، مما يُؤكِّد أنَّه طلب منه شيئاً آخر ضمن إمكانيَّة النّبي، وليس هُو إلاَّ فعل القراءة الذي يدلُّ على الفَهْم والتَّدبُّر للخَلْق باسم الرَّبِّ.
وكَذلك قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأعراف 204) ليس المقصود بفعل القراءة في النَّصِّ فعل التّلاوة له، ومن ثم؛ فالأمر بالاستماع والإنصات ليس لمَنْ يقوم بالتّلاوة، وإنَّما هُو لمَنْ يقوم بالقراءة، ومَنْ يقرأ القُرآن؟ إنَّهم ـ حسب مواضيع القُرآن ـ عُلماء التّاريخ، والفضاء، والإنسان، والبحار، والأرض، والنّبات.....الخ، كُلُّ هؤلاء يقرؤون القُرآن، فيجب على الإنسان أنْ يستمع، ويُنصت لهم؛ لأنَّه بعمله ذاك يرفع التخلف عن نفسه، ويُغيِّر ما بنفسه من انحطاط، ويعلم صفات ربِّه من خلال خَلْقه، ولا شكَّ أنَّ ذلك الفعل سوف يستجلب رحمة اللّه له.