معجزةٌ ويأس
عندما يَجنُّ ليلي ، ثـُلة ٌ مِنَ الغرباءِ يَحضُرون ، تفكيرٌ يليهِ حزنٌ يتبَعُهُما الأرَقُ ، حتّى صارَ لليلي عيونٌ ، وإذا ما ألقى النومُ القبضَ على عيوني ، وأحكَمَ سيطرتَه على الجُفون ، أنامُ على تعبي ، وأغيبُ في نومٍ إلزامي ، فأستيقظ ُ من نَوْمي وكلّي يتَّكِئُ على بَعضي من شدّةِ التعبِ ، ويتكرّر المشهدُ طاغياً بكلّ ما يَكتنِفُهُ مِنْ وَجَعٍ .
منذ أنْ وعيتُ وأنا أقرأ، "إنّ الأمطارَ لا تَنزِلُ على ثرى لمْ يُظلّلْ بِغيمةٍ"!
يَطولُ التفكيرُ ويأتي الحزنُ يتمَطّى باحثاً عن مأوى، فينامُ في صدري بعدما ألوكُ العجزَ حدّ الهَضْم ، فأصلُ لحظة َالانشِطارِ عنْ الذاتِ ، وألجُ في عالم ٍ آخر ، بعيداً عن عالمي المُرّ ، في تلكَ اللّحظة ، أحتاجُ مَنْ يَربِتُ على قـَلبي ويُخرجُني من هذهِ الدائرة، من يَستطيع ؟! لا أحد ، فهَمّي لا يُضاهى ، وجُرحي لا يُنازَع، وألمي ليسَ له عمر.
وذاتَ فراغٍ ، جلستُ على أريكتي أُريحُ البدنَ من تعبِ يومٍ شاقٍ من العمل ، وليلٍ مُجْهَد ، وإذ بالبابِ يُطرَقُ فأسأل : مَنْ بالباب ؟
- أنا بيان ، افتحي بٍسرْعة ، فيتداخلُ إلى قلبي قلقٌ جديدٌ ، وكأنّني على حرفٍ ، أنتظرُ مصيبة ً.
بيان ، صديقتي المقرَبة التي تعرفُ عنّي كلَّ شيء ، فكمْ مِنْ مرةٍ حاولتْ أنْ تأخذَ بيدي ولمْ تفلحْ ، أحياناً تفهمُني وأكثرَ أحايينها لا تفلح ، فتحتُ لها البابَ ، وإذْ بها تحملُ كتاباً ، أعطتني إياه ، وقالتْ - بلهجة آمرةٍ ، ساخرةٍ من القالَب الذي وُضعتُ فيه كُرهاً - : أعرفُ أنّكِ تحبينَ القراءةَ ، خذي هذهِ القصة اقرئيها الآن ، وغادرتْ ، وتركتني أنا والقصةَ وغرباءَ الليلِ .
على الغلاف ( معجزة ) ، وَبِنَهَمٍ لمْ أعهدْه في نفسي .
قرأتُ :
( أمل ، امرأةٌ خمسينيةٌ مؤمنة ، مَنْ يتأمّلها يَظُنُّ أنّها في السَّبعين من العُمْر، فالتَّجاعيدُ تملأُ وَجْهَها الشاحِبَ ، كانتْ تحلمُ بطفلٍ يملأُ حياتَها سعادة ، وبعد انتظارٍ طويل ٍ حملتْ حَمْلاً عزيزاً فأسْمتْ مَوْلودَها ( وحيد ) ، ورَبّتْهُ وحيداً يتيماً ، لأنّهُ فقدَ والدَهُ في حادثِ سيرٍ .
تعيشُ أمل ووحيدُها في قريةٍ نائيةٍ عن المدينة ، تديرُ الأراضيَ المزروعةَ الموروثةَ عن زوجها ، فتحيطُ صَغيرَها ،بسياج من دفء الأمومة ، وتداريه بحبِّ وحنان ، كشمعة تخبئها بِكفّيْها كلما هبّتْ نَسمةُ هواءٍ ، لكي يعيش .
كَبُرَ الصَّغيرُ، وجاءَ اليومُ الذي صارَ لا بدّ لها أنْ تُودِّعَه وهو يَستعدّ للسفر إلى المدينة ليبدأَ دراستَه الجامِعيَّة .
إذ حَصلَ على معدّلٍ في الثانوية يُؤهلُهُ دخولَ كليةِ الطِّبِ ، وبَيْنَ لا ونعم قضتْ أملُ أسبوعاً تفكِّرُ قبلَ أنْ تُوافِقَهُ على السفر ، شَرْطَ أن يَعودَ طبيباً ، محققاً حلمَهُما معاً ، وقبلَ أن يُغادر ضمّها مؤكداً لها بأنْ لا تقلقي سَأكونُ هنا مع نهايةِ كلِّ أسبوعٍ ، فالمسافةُ بيننا قصيرةٌ.
وسافرَ وحيدُ أمِّه ، يَملأُ حقائبَه ببعض ِ قلبِها وكلِّ دعواتِها ، غادَرَها تاركاً وشمَاً على جُدُرِ قلبِها لا تمحوهُ ممحاة.
ثلاثُ سنواتٍ مرّتْ وكلُ أسبوعٍ كانَ يزورُها حسبَ الوَعدِ ، وكلّما التقيا ، تقول له : طالتْ غيبتُك يا حبيبي ، قلْ لي ، كمْ من الأسابيعِ الثقيلةِ بقيَ لأناديَ عليكَ يا دكتور وحيد ؟
وفي آخرِ أسبوعٍ زارها فيه شعرتْ كأنّ شيئاً وقعَ منها حينَ ودّعها، فقلبُ الأمّ لا يعرفُ الخطأ ، وذهبَ إلى جامعتِهِ كالعادَةِ ، مرّ يومان ، وفجأة ً هوى القلبُ من القمةِ إلى السفحِ وارتطمَ بالأرض ، واعتراها وجَعٌ يُشبهُ وَجعَ المخاضَ ، لحظاتٌ ورُنَّ جَرسُ الهاتِف ، فجاءَ الخبرُ أوجع من هذا ، كان مفادُه : أنّ وليدَها سقط َمن شرفةِ غرفتِهِ في بيتِ الطلبةِ من الطابقِ الثالث ، وهو الآن في المستشفى ، رَدّتْ على المتّصل وهي تهزُّ رأسها: كنتُ أعرف .
وبلا وعيٍ ، تَركتْ الأمُ المفجوعةُ القريةَ ، وقلبُها يَسْبِقُ السيارةَ التي أقلّتها ، وطوالَ الطريقِ تهمسُ (يا رب) وبعد ساعتين ، كانتُ عندَ رأسهِ المتضخِّم تتمتم بكلماتٍ لا أحد يسمعُ صراخَها الداخليَّ سواها ، وتتحسَّسُ جفنيه المتورّمين وتقبّلهما، وتَسألُ عن حالِهِ ، والطبيبُ يشرح ُ لها بالتفصيل متأكَدأ أنّ ابنَها سَيغادرُ الدنيا قريباً ، ولكنّه لاحَظ وكلُّ مَنْ معه شيئاً غريباً ، أنّ الأمّ لم تبكي كأيّ أم ، وأنَّ عيونَها جافة لمْ تقطرْ دمعاً بعدَ كل ما جَرى لولدها ، فأدْرك أنّها الصَّدمة ، وهو لا يدري ، أن الدّمعَ الذي كان يَسِحُّ من القلبِ ينوبُ عن ذلك المتساقط من العيون ، فأرادَ أن ينقذَها من صدمَتِها علّها تدركُ حقيقةَ ما حدثُ ، فاقتربَ منها قائلاً:
تصبّري واطلبي له الرحمةَ ، لأنّ حالتَه خطرةٌ جداً ، قال الطبيبُ كلماتِهِ قاصداً لِيسمعَ نحيبَها، لكنها لمْ تفعلْ ، وأضافَ وهو يراقبُ عينيها : صدّقيني ، لنْ يعيشَ طويلاً ، وإنْ بقيَ حيّاً ، فَسَيعيشُ معوقاً ، إنّ موتَه راحة ٌ له ولك ، عندها جحظتْ عيونُها وتحولتْ أملُ الوديعة ُإلى لبؤةٍ مفترسة ، تخْمشُ أيّ تلميح ٍ ينذِر بوفاة ولدها ، وصارَ همسُها صراخاً : لا ، ولدي سيعيشُ واللهُ يُحيي العظامَ وهيَ رَميم ، أتَسمعنُي يا دكتور ؟ ما الذي تقوله ؟ ولماذا لا يعيش ؟ أخبرني ؟.
لمْ يَجدْ الطبيب بُداً من أن يُصارحَها بالحقيقةِ كاملةٍ ، فقال : هناك جرحٌ عميق على طولِ الفخذ ينزف بشكلٍ حادٍّ من هولِ السِقطة وحاولنا ما استطعنا أن نوقفَ النزيفَ ، وقمنا بِخِياطتِهِ بخمسين غرزة ، لكننا فشلنا ، والواقع أنّنا عَمِلنا جهدَنا والباقي على الله ،
ردّتْ الأمّ المفجوعةُ : نعم أليسَ القائل "هو عليَّ هيّن " ؟ أرِني أينَ الجرح ؟ كشفَ الطبيبُ الغطاءَ وأشارَ بيدِهِ نحوَه : هُنا ...
نظرتْ إلى الجرحِ وكان ملفوفاً بالشاشِ الذي غرقَ بالدم ، تأمّلتْه بصمتٍ شديد ، ثمّ أشاحتْ وجهَها عنهُ ، وجالَ بَصرُها هنا وهناك ، وكأنّها تبحثُ عن شيءٍ ، تناولتْ وسادةً مِنْ على أحدِ الأسرّة ، وأفرغتْها من حَشْوتِها ، وحَمَلَتْها فارغةً وغادرتْ الغرفة ، والأطباءُ والممرضاتُ ينظرونَ إلى بعضِهم بعضاً وكأنّهم يقولونَ: ما الذي تفعلُه هذه المرأة ؟ يَبدو أنّها فقدتْ عقلَها .
بعد َ دقائقَ معدودةٍ ، عادتْ أملُ بكيسِ الوسادةِ تحملُهُ على كَتِفَها المنْهكِ وهيَ تلهث .
خَيّمَ الهدوءُ على جوِّ الغرفة ، وخلا من أيّ هسيسٍ إلا منْ صوتِ أنفاسها المتسارعة تخرج من فمِها كأنّها النارُ تتدفّقُ من فوّهةِ بركانٍ ، وبسرعة ٍ ألقتْ بالكيسِ أرضاً بالقربِ من سريرِ ولدِها ، وفتَحَتْهٌ ثمَّ كشفتْ الغطاءَ عنْ الجرحِ ونزعتْ الشاشَ عنه وبدأت تغرفٌ بيديْن مرتجفتين حبيباتِ الثلج بسرعة ، وتُوزعُها برقة وعنايةٍ على طولِ الجرحِ العميق ، وتكررُ، حتى صارَ لونُ الحيبيات ِمائلاً للحُمرة ، كلُّ شيءٍ في الغرفةِ واجمٌ يُخضِعُ سمْعَهُ لقطعِ الثلجِ وهيَ تصطك ببعضها يَمتزج بأنفاسِها المتصاعدةِ كنشيشِ المِرجلِ على النارِ ولسانُها يلهجُ بالدعاء ، والأطباءُ والممرضاتُ يقفون حيارى يتبادَلونَ نظراتِ العتابِ ، لمَ لمْ تخطرْ على بالِهِم هذهِ الفكرة .
دقائق ، هدأ ضجيج الحنان ورفعتْ أملٌ رأسَها وجذعها وابتسمَتْ ، أسرَعَ الأطباءُ يتفحّصون الجُرحَ وإذ بالنزيف قد توقّف .
ومضتْ أيامٌ أُخَر، تَجرُّ مَعَها عملياتٍ جراحيةٍ أخرى ، قضتْ مَعها أملٌ فترات أخرى من العناءِ ، لا تعرفُ النومَ إلّا على مِقعَدٍ قريبٍ منْ سريرهِ ترقبُ أنفاسه وتعتني به ، وغادرتْ أملُ المستشفى برفقة وحيدٍ إلى القرية .
مضت أعوامٌ على الفاجعة ووحيد ما زالَ كما هوَ والأمّ تقومُ على خدمتِهِ بجسمها الهزيل بلا ملل ، تطعِمُهُ وتُنَظِفُهُ وتُساعدُه على قضاءِ حاجته ، وهي تدعو الله له أن يعيش ، ووحيد لا يُميّز أنَ تلكَ المرأةَ التي تعتني به هي أمّهُ أمل)
أنهيتُ قراءةَ القصة وطويتُ بين دفتيها آلامي كلَّها ، وأنا أسألُ نفسي : ما حجم أحزاني إزاءَ أحزانِ أمل ، ووقفتُ احتراماً لها ، وبكيتُها وبكيتُ عنها، حتى شعَّ الأملُ في زوايا قلبيَ المعتم ، قصتُها ، ملأْتْ القلبَ المتعبَ بالصبر ، وزودتْ الجسدَ المتهالكَ بالقوة ، جَففتُ دموعي وكتبتُ على ورقة بخط ٍعريض ( المرّ سيمرّ) ، وعلقتُها أمامَ ناظريّ لأقرأها كلّما زارَني الغرباء ، ومضيتُ في رحلتي على أمل ..
هذا اليوم أشعلتُ ثلاثين ألماً أحيي ذكرى سوء ظني بأن المرّ سيمرّ، لكنْ، ظلَّ المُرّ ، ولم يَمرّْ.
بقلمي ... ناريمان الشريف