الحب على طريقتي…
د. ريمه عبد الإله الخاني
منذ قليل أنهى رسالته الأخيرة الموجهة لأمه، بات على يقين تماما، أن نقاط الالتقاء الفكرية بينه وبينها، لم تعد موجودةً أبدا، مازال يحاول تلطيف الجو ببعض جمل متناثرة مابينها من رباط، وقد تراجعت مهاراته في إقناعها، لقد باتت تدري أن ذوقه في الحياة بات مختلفا جدا عن ذوقها، وغريبا عنها بآن،لقد أخفقت في المحافظة على بقاياها فيه....نعم منتهى الإخفاق.
هي رسالته الأخيرة التي تجزم بالدليل حبه الأبدي لها، ورغبته في التحرر من وصايتها التربوية.....
-والدتي العزيزة، لقد نجحتِ في التخطيط لإنجاب، طبيبين ومهندسين، ولكن من الصعب جدا، أن تربي نسخة مطابقة لك البتة...فأنت لست كذلك..ليس ذنبي أنك نسيت نفسك طوال تلك السنوات، ولم توفِّقي بين رغباتك الدفينة، وبين تربيتنا، لكن كوني على يقين تماما، أنك قدمت ِرسالتك بتفوق كبير، تلك الاستقلالية والاعتماد على النفس التي أراحتك من عبء كبير، هانحن بتنا قادرين فعلياعلى الحياة باستقلالية واضحة، باستقلالية مرّة. جذورنا معك مازالت راسخة، فماذا تريدين أكثرمن هذا؟.قدر الفراخ أن تثب لتخرج خارج العش..نحبك ونجلك، لكن رغباتنا في الحياة تبقى مختلفة ومغايرة، حديثة وملونة بألوان العصر الخرندعية، هي لزوم اختلاف الظروف المُعاشة، سنختار زوجاتنِا بإنفسنا، ونعرف على المذهب المالكي أن تربية الكلاب مشروعة، لكنها ليست حجة أبدا، يمكننا طرد نزواتنا بعد التجريب.أمي... دعينا نخوض الحياة بقوة، ونكون جديرين بها، فجذورنا معك قوية جدا اطمئني، حتى لو ابتعدنا، كوني بخير.فالبومة نذير شؤم في بلادنا، لكنها بشير تفاؤل هناك في الجانب الآخر من الكرة الأرضية، بومتي من النوع القزم، إذن لاخوف منها، ورغم هذا أعتبرها نزوة مؤقتة كذلك، وسوف تزول قريبا ، هي تفريغ عواطف فقط لاغير، فالبلاد هنا مادية حتى النخاع، مرة في حلاوتها مزعجة تعبث بنبضات القلب، . وبرغم العسل المتناثر في الزوايا.فقد آن الأوان،كي نُحبُك على طريقتنا؟ فأعطنا الفرصة ولن تندمي.
وللعلم..نحن لن نبيع منزل والدنا، ولن نضعك في دار العجزة حاليا، هذا أمر فظيع جداً،لايمكن أن يحدث اليتة، ستبقين مكرمة جليلة.ولكن دعينا نرى الحياة على حقيقتها بلا قناع، و بلا تجميل ولامساحيق حكائية ولاتمويه ..هي وحش اسطوري غريب، سنروض ما نستطيع ترويضه لمصلحتنا. سنكون عند حسن ظنك .هي بلاد بعيدة، لا لن نقطع الخيط السري الخفي الذي مازال عالقا وواصلابيننا، أطلقي فراخك، أطلقيها رجاء ياأمي ، وأطيلي خيطك المربوط فينا، فنحن بخير اطمئني. قد فات وقت التربية ومضى، ولم تقصري، أما الآن فقد أتى زمن القطاف...فاسترخِ، وترقبي منا الأخبار الطيبة.
******************
يزداد الشوق كلما كتبت لك مرارا، الشوق لأطباقك االساحرة، وسأحاول من جديد دعوتك إلينا ليتك تقبلين، فمازلت أتذكر تماما كيف ملأتِ الثلاجة في منزلنا هنا، مما لذ وطاب قبل عودتك للوطن…كنت دعوتُ أصدقائي وكانت وليمة رائعة حقا، كم كنتِ مميزة، وبصمة وطنية تدعو للفخر.
بكل كلمة ورأفة وحنان، حاليا لاأفكر في الزواج فلدي مشاريع كبيرة، ربما في الخامسة والثلاثين، أو الأربعين يصبح الأمر واقعا لافرار منه...
أدري..لن يعجبك تأخري في الزواج، نعم أدري ذلك، لكن سامحيني.. هذا مايناسبني تماما، سوف أبحث عن زوجة تتحمل معي أعباء الحياة ...وليست خارجة من حضن والداها بملعقة خزفية مزخرفة في فمها رغم فقرها.ستهطل دموعك مدرارا مما كتبت،نعم وأنت تقرئين رسالتي الصريحة، أدري ذلك جيدا شعورك، فسامحي رؤياي لمستقبلي..سوف لن تندمي أبدا على تربيتنا.
دموعك ستحرق وجنتي قبلك ياأمي… وصلني حرها، أنا متألم لبعدك صدقيني، لكن المستقبل يناديني يصرخ في أذني.. هولايبنى بالعواطف أبدا، بل بمنطق النجاح، الذي أومن به جدا.أنت ربحت أبناء بارين بك ومخلصين…وهذا منتهى السعادة كما أرى.أمي العزيزة:
لاوجود للمثالية التي في رأسك الطيب ، ارفعي النظارة لتري جيدا أقزام هذا الزمان، فالرحمة عندما تغيب، هو دليل غياب الوجدان والعواطف البكرمن حولنا، وعندما يغيب المنطق، نؤمن تماما بغياب العقل الراجح، لكن عندما يغيب الضمير، فسوف يغيبان معا…..
اطمئني..لم تؤثر بنا رسائل هوليود، ومازلنا نكتب أسماءنا بالعربية على مواقع التواصل ، ولم نصبح كقصة الجَدي الذي ذهب إلى الغابة لينمو له ذَنَبُ ذئب، فعاد حتى بدون قرنين !!
*********
ومازال ينتظر ردا يطمئنه ويريح صدره المليئ بالمتاعب..رسائل تذهب وبلا رد...زمجر غاضبا وخارجا عن عالمه المصنوع:
-مال هذا الهاتف لايصمت؟؟؟، لقد قطع حبال الأفكار، وعلقت في الهواء لاأنا هبطت ولا ارتفعت وماذا يعني أخي؟ سأبقى الكبير هنا، ذو الثقل الأول، والرأي السديد والخبرة الأعمق، كلهم سيرجعون لخبرتي الهامة في الحياة، فلايحاولون تجاوزي وإلا...خاصة أنني أنشئ الآن شركتي الجديدة، فمصالحهم معلقة بي جميعا أنا الأمل..
أموال أبي المرحوم في الأمانة، لن أظلمهم أبدا، لكنني كنت الأذكى فعلا ، فقد استفدت مماأودع باسمي مؤقتا لظروف بلاد تتقهقر وتتماوت، واستثمرت في بلاد الغربة بفضل هذا الحساب الكبير.
سوف أخبرهم قريبا ..بما قررت..هف..لن أرد حتى أنتهي من كتابة هذا الرسالة العظيمة ذات الرقم مئة، قرأ رسالتها القديمة التي لم تتكرر عدة مرات فما فهمها جيدا :
-المحبة ليست طبقا من الشوكلاتة، أضعه بقربي، لأقدم منه حبات لمن يزورني، المحبة أعمق من هذا بكثير، هي إدراك مفاتيح الآخر، ومعرفة سر عتبة الوصول لدفعه للأمام، بل لبلوغ عمق المحبة الحقة، أن تضع في عمق غرفته، جوهرتك الثمينة بثقة، يراها كلما دخل محرابك المقدس، ويطمئن أن الأمور بخير.تضع في مغرفة الطعام بعضا منك.اطمئني أمي:
لم يفت الوقت للعطاء، فابحثي في ثنايا روحك عنا وعنك، ستجدين الباب مفتوحا على مصراعيه في دروب أخرى جديدة، أدخليها بقوة الطموح الحيّ،أخرجي طاقتك من مخبئها واكتشفي ذاتك من جديد…لا لم تهرمي..فأنت متجددة معنا دوما، تعيشينا لحظة بلحظة. أدري أنك تقرئين رسائلي بصمت.
ردي على رسائلي ياأمي، رجاء حارا، كلمة محبة واحدة تريح عقليَ المتعب، والله نحبك كثيرا.أرجوكِ ردي عليّ، فهاتفك لايعمل على مايبدو..اتصل به أخوه الأصغر، ومرة أخرى بإلحاح وقد كان كالعادة غارق في التنميق والمراجعة والتصحيح في قطعته الحديدية التي اسمها حاسب... ولرسالة ستضيع في دهاليز ألكترونات البريد الحديث، بلا رد قائلا:
-والدتك سافرت كما وصلني من جارتها منذ فترة، ولم تفصح إلى أين وجهتها، ولماذا فعلت ذلك وماذا حصل بالضبط؟؟؟؟...ولم أعد أدري هل وجدت عملا جديدا، أم زوجا جديدا..لقد فقدناها تماما….
-حقق مع جارتها..
-حتى الجارة اختفت…
ارتفعت حرارة قلبه، كل شيء غدا في عينيه هلاما، وبدأ يشعر أنه أوشك أن يتبخر!!.هل أهملها بسبب السفر؟ هل افتقدتْ لحضور والدي الراحل فلم تجد حولها أحد؟ ولم نعوضها؟هي من شجعتنا!!.قد دعوناها لتأتي إلينا لتقضي أوقاتها كلها معنا...لم أعد أفهمها أبدا...لماذا لم تصارحنا بما في نفسها؟ هل انقطع الحبل السري؟ يا الله...السفر مر علقم ولكن هذه هي ظروفنا التي أجبرتنا على ذلك..
وردت الرسالة الأخيرة منها :
-أنا بخير…
قالت أختي:
-نعم هي بخير..لكنها بحاجة إليكم حولها..في مكانها في وطنها..
21-10-2020م