الدكتور جيلالي بوبكر
كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية
جامعة حسيبة بن بوعلي الشلف الجزائر
boubakerdjilali@yahoo.fr
حسن حنفي ومشروع "التراث والتجديد":أسس المشروع وبيانه النظري
مقدمة
المتصفح في كتب الفكر العربي الإسلامي الحديث يجده ذا طابع إحيائي وإصلاحي وثوري ضد الاحتلال تارة وضد الأوضاع الاجتماعية والثقافية والسياسية الفاسدة تارة أخرى،أما الناظر في كتب الفكر العربي والإسلامي المعاصر يجده ذا طابع تحديثي تجديدي،ينطلق أصحابه من الحاضر وما يختص به من حداثة وتجديد في الفكر والثقافة والعلوم والفلسفة والفنون والصنائع وسائر المنجزات المادية في الواقع نحو الموروث الثقافي والحضاري من أجل دراسته وتحليله ونقده بوسائل وأساليب عصرية ومن منظور معاصر يحرص على ضمان ملائمته مع المتغيّرات والمستجدات التي يشهدها العالم المعاصر،وهي مهمة تصدّى لها العديد من المفكرين خاصة دعاة التجديد وأصحاب المشاريع الفكرية في العالم العربي بمشرقه ومغربه،ومن هؤلاء الباحث والمفكر "حسن حنفي" صاحب مشروع "التراث والتجديد" وهو مشروع يتصدّر الواجهة في الساحة الفكرية والثقافية العربية والإسلامية المعاصرة.
ما جعل فكر "حسن حنفي"متميزا وفلسفته متميزة ومشروعه متميزا هو كتاباته وأبحاثه ومواقفه المتميزة بالوجاهة والجرأة على الرغم من الانتقادات التي تتعرض لها بل زادتها الانتقادات قوة ومناعة،مقالات كانت أو كتب أو حوارات أو غيرها تعالج مختلف القضايا في الفكر والثقافة والسياسة والحضارة تعكس معالم مشروعه الحضاري وبيانه، وهو مشروع أفصح عنه صاحبه في كتابه 'التراث والتجديد،موقفنا من التراث القديم'،بدأت معالمه تتبلور وملامحه تتكشّف منذ بدأ"حسن حنفي" في طلب العلم في الجامعة وانخرط في عالم البحث العلمي واتضح ذلك في أول دراسة قام بها حول أصول الفقه سمّاها "مناهج التفسير" وفيها تأكدت لديه الحاجة إلى مشروع فكري ثقافي حضاري قومي نهضوي ينهض بالأمة ويعيدها إلى وضعها الطبيعي، ويمكّنها من امتلاك شروط النهضة وأسباب التقدم الحضاري والازدهار الثقافي انطلاقا من الواقع المعاصر وتطوراته المختلفة وانطلاقا من التراث القديم ليصبح حاضرا في الواقع المعاصر ويصبح الواقع المعاصر ماثلا في التراث من خلال التعامل مع التراث من منظور معاصر والتعامل مع الواقع من منظور تراثي، فثنائية التراث والواقع أو الماضي والحاضر تدخل في المنظومة الإبستيمية و الفكرية التي تؤسس لمشروع نهضوي يبني منظومته على إستراتيجية إعادة بناء التراث القديم وإيجاد تفسير محكم للواقع وضبط صلة الأنا بالآخر في إطار مرجعية التراث والتجديد واسترتيجية إعادة البناء ومعاودة الصياغة وفق منظور معاصر ورؤية جديدة إلى التراث وإلى الواقع وإلى الأنا وإلى الآخر.
تؤكد سائر دراسات وكتابات "حسن حنفي" قدرة الفكر العربي والإسلامي المعاصر المحافظة على ذاته واستقلاله وعلى واقعيته ومعاصرته في أن واحد إذا ما أدّا الفكر والمفكر الرسالة المنوطة بهما،الفكر ككيان فعّال ومنفعل يتعاطى مع الواقع بسلبية وبإيجابية والمفكر كشاهد وشهيد،وإذا ما اعتمدا على مفاهيم قراءة التراث وتحليله ونقده والحكم عليه، وقراءة الواقع المعاصر وتحليله ونقده والحكم عليه وقراءة الأنا والآخر، كل ذلك من أجل النهوض بوعي مستقيم خلاّق، وبمعرفة دقيقة وبتجديد الحياة ومواكبة العصر والمفاهيم تتعدد وتتنوع كما تتغير تبعا لخلفياتها الفكرية والمنهجية ووفقا لمستثمريها كاتجاهات ومشاريع فكرية، مثل مقولة الأصالة ومقولة المعاصرة ومقولة الحداثة ومقولة التقليد ومقولة التجديد ومقولة التغريب وغيرها، وهي مقولات يزخر بها الخطاب الفكري النهضوي العربي والإسلامي المعاصر.
لقد فتح"حسن حنفي"مشروعه "التراث والتجديد" وفلسفته على أكثر من صعيد، فهو يكافح على جبهات ثلاث، يبدي موقفه الحضاري ويؤسس لمنظومة قيّم ودلالات فكرية وفلسفية تبنّاها المشروع، جبهة التراث العربي الإسلامي والموقف منه وجبهة التراث الغربي الوافد والموقف منه وجبهة الواقع بكل أبعادها.فالجبهة الأولى والموقف منها جعل منه مفكرا إسلاميا تراثيا مبدعا والجبهة الثانية والموقف منها جعله مفكرا غربيا أما الجبهة الثالثة والموقف منها جعله صاحب مشروع حقيقي وجريء في السياسة والاجتماع والأخلاق والحياة عامة.هذه الإستراتيجية مرتبطة بالعقل والنقل و الواقع، لأن العقل هو الذي يعي ويقرأ ويحلل وينقد ويبني ويركب ويكشف ويغيّر ويطوّر ويجدد، يبني الواقع ويصنع التاريخ والحضارة. ولأنّ النقل وراء إنتاج الحضارة لأمة لها ماضي وتراث تاريخ ودين، وتأثير المنتجات الفكرية والعلمية للحضارة الإسلامية لازال يطبع نفوس أصحابها على الرغم من مرور الزمن عليها. ولأن الواقع يجد فيه صاحبه آماله ويعيش أحزانه، فيه حياته في جميع مستوياتها الفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وقراءة المقولات الكبرى في الفلسفة التي يقوم عليها مشروع "التراث والتجديد"، مقولة العقل ومقولة النقل ومقولة الواقع، وقراءة صلة هذه المفاهيم ببعضها البعض يدل بوضوح على ورودها بمدلولات متعددة ومتباينة تبعا لمرجعياتها ، فهي أخذت نصيبها من التحليل في مستوى أرقى من الدقة والعمق والكفاية. لكنها تبقى دوما تعبر عن مواقف صاحب المشروع الفكرية والفلسفية والإيديولوجية والسياسية كما يغلب عليها الطابع التاريخي أحيانا والطابع التجريدي في أحيان أخرى على الرغم من أنّ المشروع يعطي الأولوية للواقع دون غيره.
لا يستقيم حال الأمة العربية الإسلامية ولا يعرف النهضة في زمانها الحاضر في غياب وعي تاريخي جديد وفي انعدام فلسفة تاريخ جديدة تعتني بالحقبة التاريخية التي تعيشها الأمة اليوم. بدون الوعي التاريخي الجديد يصبح حاضر الأمة ومستقبلها ووجودها مليئا بالغموض والإبهام والشمول ومجهولا ومفتوحا على كل التوقعات وتصبح الأمة عاجزة عن وعي حاضرها والتطلع إلى مستقبلها. والموقف الحضاري من التراث ومن الأنا ومن الآخر ومن الواقع في المشروع يشكل رؤية تحليلية نقدية للتاريخ العربي الإسلامي في إطار التاريخ الإنساني العام، كل هذا يشكل نقطة نوعية في الشعور العربي الإسلامي من منظور حضاري شامل يعطي الأمة مجالا رحبا فسيحا للأمل والعمل. وفلسفة التاريخ وتتضمنه من وعي تاريخي لا تنفصل عن فلسفة السياسة والوعي السياسي الذي ينطلق من مبدأ الثورة والتثوير ، الثورة في وجه الأوضاع الثقافية والفكرية الفاسدة وتثوير قيّم التراث لتتحول إلى واقع ماثل ومعاش، واقع تحكمه التراثية الواعية والعقلانية المفتوحة والعلمية والحرية، والحكمة العملية التي تجمع بين الأخلاق والسياسة والتربية.
إنّ إعادة بناء العلوم القديمة علوم النقل وعلوم العقل مهمة الجيل المعاصر في العالم العربي والإسلامي بعدما أصبحت عامل انهزام وضعف، لتكون عامل تقدم وازدهار، وكانت من قبل عامل قوة وتحضر، ومع تغيّر البيئة الثقافية والحضارية وغلبة العلوم الطبيعية التجريبية والتكنولوجيا توزع الفكر بين الإنساني القديم والإنساني الحديث والمعاصر. والنهضة الجديدة التي يحتاجها الوضع الحضاري وهي من صميمه تنطلق من التراث الذاتي باعتباره أداة مواجهة ومساهمة معا،مواجهة التخلف ومساهمة في بناء الحاضر واستشراف المستقبل في إطار إستراتيجية الموقف الحضاري في المشروع من التراث وعلوم الحكمة فيه ومن علاقة الأنا بالآخر من خلال التحكم في صورة الأنا وصورة الآخر وصورة العلاقة بين الإثنين،فالعلاقة تتضح والجدل يمكن تجاوزه عندما تبرز الصورة وتتضح في الثقافة العربية الإسلامية المعاصرة، وعندما يتحول الغرب التاريخ والثقافة والفكر والفلسفة والدين والحضارة إلى موضوع بحث ودراسة فيقوم الاستغراب في مقابل الاستشراق، الاستغراب الذي يقضي على عقدة النقص في الأنا ويدحض مركب العظمة في الآخر، فيرى وعي الآخر حدوده ويكشف وعي الأنا عن طاقاته ويمكن لكل منهما أن يصل إلى وعي إنساني جديد.
إنّ الغاية النهائية للوعي الإنساني الجديد تحويل الوحي إلى علم إنساني شامل وإيجاد موقف من الواقع الذي يفتقد إلى نظرية التفسير، وقيامها في المشروع يجمع بين الوحي والواقع، بين التراث وقيّم العصر، بين الدين والدنيا، وبين الله والإنسان، هذه الثنائيات مازالت تعبر عن وعي إنساني كلاسيكي منهجه تحليلي استعراضي شارح، وعند المقابلة والمقارنة بين نظرية في التفسير وبين منهج تحليل الخبرات يتضح أن منهج تحليل الخبرات الذي يبدأ من الواقع وليس من النص و المأثور والعرف، والنضال في جبهة الواقع غرضه تحويل التراث إلى علوم إنسانية والربط بين الواقع والوحي في وحدة عضوية داخل الإنسان وفي سلوكه الفردي والاجتماعي. وغياب الموقف الحضاري من الواقع في العالم العربي والإسلامي المعاصر فجّر فيه أزمة الإبداع الفكري والفلسفي وعمّق أبعادها وعجّل بالسقوط في أحضان الآخر من مركز ضعف وعقدة نقص وفكرة المركز والأطراف، لا من باب التواصل الحضاري المبني على التأثير المتبادل الذي يسمح لكل طرف المساهمة في إنتاج الحضارة وصنع التاريخ ولا سبيل للتخلص من الهوة وللنهوض والتحرر من الأزمة إلاّ باتخاذ موقف حضاري في وعي مبدع تجتمع فيه المواقف الحضارية الثلاثة معا في الجبهات الثلاث من خلال إعادة بناء النص الشعبي المورث ورد النص الوافد إلى حدوده الطبيعية وتأكيد تاريخيته والحرص على الرصد الإحصائي للمؤثرات في مسار الإنتاج والتوزيع وتحديد الفاعليات القادرة على التغيير ومعرفة النص التراثي المؤثر في المجتمع سلبا وإيجابا. وأهم ميزة في المشروع والتي تمثل المبدأ التاريخي الإنساني الجديد قاعدة الموقف الحضاري من الأنا والآخر ومن التراث والواقع ومن الماضي والحاضر التثوير، تثوير الأنا وتثوير التراث وتثوير الواقع، فالتثوير في التراث يعني إعادة بناء التراث وفق مقتضيات العصر ومستجداته والتثوير في الموقف من الآخر بدراسته وتحليله ونقده ورده إلى حدوده الطبيعية من خلال علم الاستغراب، أما التثوير في الموقف من الواقع فيقوم على إيجاد نظرية التفسير المحكمة التي تقوم بالتنظير المباشر للواقع.
تمثل الفلسفة التي انبثق منها مشروع "التراث والتجديد"مبادرة جادة وجريئة تتصدر الواجهة في الخطاب الفكري والفلسفي العربي والإسلامي المعاصر، تتحدد معالمها بمواقف صاحبها تجاه قضايا وهموم ومشكلات عصره،موقفه من الفكر والفلسفة ودورهما، من الأصالة والمعاصرة والتقليد والتجديد والعقل والنقل والواقع وفلسفة السياسة والتاريخ وأزمة الإبداع وجدلية الأنا والآخر والثورة والتثوير وهي منظومة مفاهيمية وفكرية ذات طابع ثوري تثويري تؤسس لمشروع في جانب التراث من حيث مفهومه ومستوياته باعتباره مسؤولية شخصية فردية واجتماعية وقضية وطنية في سياقها التاريخي الذاتي المحلي والإنساني العالمي، وفي جانب التجديد من حيث مدلوله والحاجة إليه أمام أزمة ثورة وأزمة بحث علمي وأزمة منهج بحث،وجانب التراث والتجديد باعتباره المشكلة الجوهر، ومشكلة المنهج في الفكر الإسلامي تصدّى لها المشروع بمناهج التجديد وميادينه واكتمل مخططه واتضح بيانه النظري واتضحت سماته وخصوصياته والفلسفة التي صدر منها.
هذا الكتاب موسوم "بالتراث والتجديد بين قيّم الماضي ورهانات الحاضر، قراءة في فلسفة حسن حنفي وفي مشروعه الحضاري"،تضمن فصلين، انصب الفصل الأول على قراءة مواقف "حسن حنفي" الفلسفية من أمهات قضايا الفكر والفلسفة والثقافة في العالم العربي والإسلامي المعاصر، قضية التخلف، دور الفكر ورسالته، الأصالة والمعاصرة، العقل والنقل والواقع، فلسفة التاريخ، الفكر السياسي، نحو فلسفة إسلامية جديدة،نظرية التفسير، أزمة الإبداع والتثوير في الموقف الحضاري وغيرها، ومواقف المفكر تشكل الفلسفة التي انبثق منها المشروع وتمثل إستراتيجيته الفكرية والنظرية، وهو مشروع يقوم على اختيارات مفاهيمية وبدائل إبستيمية ومنهجية ارتبطت بالتراث وما يتضمنه وبالتجديد وما يتطلبه وبمشكلة التراث والتجديد وهي مشكلة موضوع ومشكلة منهج ومشكلة بيئة، كل ذلك تناوله الكتاب بالدراسة والتحليل مبيّنا مخطط مشروع "التراث والتجديد" وبيانه النظري وسماته وفلسفته.
1- التراث: سياقه ومعناه في المشروع
يكثر الحديث عن التراث أو الموروث أو الماضي أو التاريخ في المجتمعات البشرية، لأن التراث يشكل فيها عنصراً حيّاً تقوم عليه حياتها في الحاضر ويستمر في المستقبل، دون أمل في التجرد منه أو تجاوزه في كل الظروف والأحوال، لأن ميزة المجتمع البشري عن غيره من المجتمعات الأخرى الجامدة والحية هي ارتباطه بالتراث يحتفظ به ويدوّنه فيتناقل من جيل إلى آخر. لذا اتصل تاريخ الإنسان بعلوم الحفريات والنقش والآثار، وسجّل الإنسان أعماله في سجلات فصار المخلوق الوحيد الذي له ماضي مدون و له تاريخ، فالتاريخ عند الإنسان مدوّنة حياته وانعكاس لذاته و لأفعاله و هو ما أثبتته فلسفة الحضارة.
المجتمع البشري الذي له ماضي وتاريخ وحضارة نمطه الأول بدائي بحت وتراثي صرف، التراث في هذا المجتمع هو الماضي والحاضر والمستقبل، هو نمط الحياة في الفلسفة والدين والفن وسائر الأعمال اليومية، فهو البديل عن كل شيء، وهو مجتمع يندر فيه التغيير الاجتماعي إلا حالات عفوية بعيدة عن القصد ومرتبطة بوسائل وأدوات تفتقر إلى الطابع الفكري المنطقي والعلمي. أما النموذج الثاني فهو المجتمع المدني الغربي الحديث، مجتمع قطع صلته بالتراث فهو لا تراثي، وقد كان التراث في هذا المجتمع قديماً يشكل ماضيه وحاضره ومستقبله، ولما حصل التعارض بين هذا التراث والعلم الحديث والحياة العصرية تخلّى المجتمع الغربي عن التراث وأخذ بكل جوانب العلم الحديث والثقافة المتطورة، وذلك بعد صراع طويل بين أنصار القديم وأشياع الجديد. والنموذج الثالث يخص المجتمع النّامي الذي تحرّر من الاستعمار حديثاً فهو في وضعية انتقال بين القديم والجديد، فهو يعيش قضية الأصالة والمعاصرة، التقليد والتجديد، الوافد والموروث، جدل الأنا والآخر، فهو بين الانقطاع والتواصل، "وهي مجتمعاتنا التي لم تُحسم فيها القضية بعد والتي تُثار فيها قضية التراث والتغيير الاجتماعي فهي مجتمعات تراثية تشارف على العصر بعد أن جابهت الاستعمار وحققت الاستقلال الوطني وبدأت التنمية الاجتماعية الشاملة."[1]
إن المجتمع التراثي في النموذج النامي المتحرر حديثاً صاحب الاستقلال الوطني الحديث يتعاطى مع التراث بكيفية أفرزت اختلالات كثيرة. فالتراث عنده غاية في ذاته، وليس وسيلة لاكتمال التحرر والوصول إلى تنمية شاملة محكمة، فالتراث هنا ليس جزءاً من الواقع بل خارج الواقع، "ويكون بديلاً عن الواقع، يطرد الواقع الحالي، ويُحل محلّه الواقع التراثي ويتم الخلط بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن... فالتراث لا يقبل واقعاً من خارجه يندّ عنه أو يهرب منه و يثور عليه. التراث ملزم ومشروع وقادر على احتواء كل شيء خارجه. التراث هو الذات والموضوع، الأنا والغير، الروح والمادة، مغلق على نفسه لا يمكن النفاذ إليه."[2] وهو بهذا المعنى وحدة لا تتشتت وكل لا يقبل التجزئة والانقسام، وكامل لا بداية له ولا نهاية فهو حقائق مطلقة نقلت من الزمان والمكان، تظم الزمان وتحتوي المكان. "فتمّ التنكر للحاضر كلية وتمّت التضحية بأصول الفقه في سبيل أصول الدين وغلبت العقيدة على الشريعة، وأصبح أصحاب التراث معبرين عن مبدأ أكثر منهم عاملين في الواقع ومغيّرين له... الواقع كله مُدان، ولا يمكن تطويره أو إصلاحه بل هدمه من الأساس حتى يبدأ البناء الجديد على أسس راسخة... ولما كان الواقع باقياً والحياة قائمة كأن الهدم لا ينتهي حتى يبدأ البناء ومن ثم يبدو التراث عدائياً للواقع رافضاً له، خارجاً عليه، سرعان ما ينتهي أصحابه بتدمير أنفسهم والواقع باقٍ لم يتغير والمجتمعات تندم وتتحسر على هذه الطهارة الضائعة الخاسرة. ولما استعصى الواقع طال الهدم ولم يأت البناء فظهر السلب دون الإيجاب والرفض دون القبول."[3]
في داخل المجتمع التراثي النامي وبذهنية الهدم والموت قبل الحياة، والانطلاق من الّلاشيء تتولد ذهنية الثورة الانقلابية للدفاع على حاكمية الله وإزاحة حاكمية الإنسان فيقوم الصراع بين قوة السلطة القائمة والتي تعتمد على البوليس والجيش في السر والعلن و بين الأجهزة الثورية السرية التي تستعمل العنف والاغتيال السياسي كسبيل لإزاحة الزمرة الحاكمة وتعويضها بصفوة مؤمنة بدلها. "ويتم ذلك كله باسم الله دفاعاً عن حقه وتأكيد لحاكميته وتنفيذا لإرادته وامتثالاً لطاعته، وطمعاً في أجره وثوابه. ولا يتم باسم الإنسان دفاعاً عن حقوقه وتأكيداً لسلطانه وتحقيقاً لمصالحه العامة حتى يعيش في الدنيا حراً كريما. وبالتالي غابت النظرة الإنسانية... فولّد الكبت والحرمان مظاهر التعويض والإشباع. وكأن الله ليس غنياً عن العالمين وفي حاجة إلى دفاع. وكأن الله لم يُكرّم بني آدم في البرّ والبحر ولم يجعله سيد العالمين."[4] أدّى ذلك إلى ظهور 'النرجسية التراثية' التي كسّرت الوحدة الوطنية ووزعت الأمّة على قسمين متصارعين فتوقفت عملية التغيير الاجتماعي، والأخطر في الأمر هو الانشقاق بين دعاة التراث عندما دبت الخلافات فيما بينهم فصار كل فريق يدّعي أنه على الحق وغيره على الباطل. ويكثر في هذا الوضع الاهتمام بشكل الحياة وأطرها "ولا يجد الضنك والبؤس والفقر والجوع من يتصدى له ويرتع المترفون وتستسلم الأمة ويضيع استقلالها على رائحة العطر ومعارض كتب التراث ومعارك الحجاب... ولا تجد قوى التغيير الاجتماعي لديها أية وسيلة لمواجهة القديم القائم وإلاّ اتُهمت بالخروج على المجتمع خاصة إذا كانت المحافظة هو التيار الغالب على ثقافة الجماهير."[5]
وإذا كان النموذج التراثي يعيش على القديم وحده فهناك نموذج آخر لا تراثي "يقطع الصلة بالقديم لبناء الجديد على أسس من العلم والمعرفة وبالجهد الإنساني الخالص بعد اكتشاف عورات التراث وعدم ثباته أمام العلم الجديد، فالتقدم نحو الجديد مرهون بالتخلص من القديم وهو درس عصر النهضة الأوربية في القرن السادس عشر خاصة وحتى الآن. وكما ظهرت البدائية كتجمعات محلية ظهرت أيضاً الحركات التحديثية العلمية العلمانية على النمط الأوربي كتجمعات فوقية مفروضة على مجتمعاتنا من الخارج."[6] فالنموذج الّلاتراثي أوجد و فرض أوضاعاً في الفكر والعمل تحصر التغيير في السطح لا في العمق، وفي الشكل لا في المضمون، "وكان التحديث هو ترك الأنا وتقليد الآخر والقضاء على الهوية والوقوع في التغريب وكما يقول الشاعر: لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية... ويبدو التخلف كمرحلة تاريخية لا يمكن عبورها بمجرد تغيير المظاهر الخارجية...فتحدث التنمية دون مفهوم التقدم، ويتم التحرير والتعمير دون مفهوم الأرض، وتتسع رقعة الخدمات دون مفهوم الإنسان ونتيجة لذلك يحدث انفصام في الشخصية الوطنية وتتجاوز فيها طبقتان من الثقافة: الأولى تاريخية متصلة محافظة أصلية والثانية منقطعة تقدمية مستوردة."[7]
إن ارتباط الحياة في المجتمع التاريخي التراثي بالتراث من جهة وبالحداثة من جهة وفي ظل الانقسام إلى فئة الأصالة وفئة التحديث، وبحكم التباين في الاتجاهات حول أولوية البنية التحتية أو البنية الفوقية فغطت فئة الحداثة أو التحديث فئة المحافظة بغير سعي إلى تجديدها، ويقوم الصراع بين التعلم الديني والتعلم العلماني، فهو تجاوز سطحي شكلي من شأنه يوقف التغيير ولا يحدثه، فلم يحصل انتقال المجتمع التراثي في الحاضر من التراث إلى التجديد. والحلقة المتوسطة بين التراث والعصر أو بين القديم والجديد ظهور الليبرالية والتنوير حيث تمجد الحرية ويمجد العقل واستغلال الإنسان للطبيعة وتقدم التاريخ، وأداة انتقال من التراث إلى الثورة. وداخل هذا الوضع الفكري والسياسي سيطرت الأقلية التحديثية على الأغلبية القديمة. "وكما تمثّلت القوى المحافظة للنموذج التراثي وأخذت درعاً يحميها ضد قوى التغيير الاجتماعي فإن قوى التقدم تتمثّل النموذج اللاّتراثي ولكنها تأخذه كرمح تخرق به القوى المحافظة ... تقف قوى التقدم وهي في موقع السلطة عاجزة على البناء، وتتصدى القوى المحافظة لحركة التغيير الاجتماعي وهي خارج السلطة وفي مواجهتها. ويكون الحسم في النهاية لقوى الأغلبية الصامتة وقادتها المحافظة."[8]
المجتمعات النامية الحديثة أصبحت بين نموذجين اثنين أو نمطين، "النمط التراثي يضحي بالتغيير الاجتماعي من أجل المحافظة على التراث، وكان النمط اللاّتراثي يضحي من أجل إحداث التغير الاجتماعي، فإن تجديد التراث أو إحيائه أو إعادة بنائه طبقاً لحاجات العصر هو الذي يحفظ من التراث دوافعه على التقدم ويقضي على معوقاته، وهو القادر على إحداث التغيير الاجتماعي بطريقة أرسخ وأبقى وأحفظ في التاريخ،من الانتكاسات والردّة وحركات النكوص."[9] ولما كان التراث مرتبطا بالدين الذي تحوّل إلى عقائد ونظريات ومذاهب وذلك في سياق زمني مكاني تاريخي معيّن فيه صراع المصالح وتضارب بين القوى الاجتماعية. جاء التراث ليعبر عن الصراع والتضارب، وعبرت عن ذلك الفرق السياسية والكلامية القديمة بين تراث القهر وتراث التحرر ، وظهر ذلك في تراث الحركات الإسلامية المعاصرة مثل السنوسية والثورة العرابية وحركات التمرد الوطني في المغرب العربي ومن ثم في الثورة الإسلامية الكبرى في إيران.
يؤكد 'حسن حنفي' على ضرورة إحداث النموذج الثالث، النموذج البنائي التجديدي الإحيائي على نحو يحفظ شروط قيام هذا النموذج بعيداً عن النموذجين النموذج التراثي والنموذج اللاّتراثي. وهذه الشروط تنتقل بالإنسان وفكره وحياته عامة من وضعيات انتقال من الأدنى إلى الأعلى بتحويلها إلى وضعيات انتقال من الأعلى إلى الأدنى ومن الخلف إلى الأمام، فبدل من الإنسان إلى الله يكون الانتقال إلى من الله إلى الإنسان، ومن الأمير والرئيس والإمام إلى الجماهير والشعوب والأمّة، ومن الإيمان والنظر والعقيدة إلى العمل والممارسة والثورة، ومن فناء النفس وخلودها إلى بقائها واستمرارها، ومن زوال الحياة الدنيا إلى بقاء العالم واستمراره، ومن الفرقة الناجية إلى وحدة الوطن وتماسكه والذود عنه، ومن الجبر والإكراه والقدر إلى خلق الأفعال والحرية والتحرر، ومن الإشراقية والنورانية والعقلانية و الروحانية إلى العقل البرهاني ومن منهجية النص النازل إلى منهج الاستقراء الصاعد، هذه الطريقة في التعاطي مع التراث القديم ومع العصر الحالي هي التي تضمن تجانس التراث مع الحداثة بعيداً عن تغريب النموذج اللاّتراثي، وعن تعصب وتقوقع النموذج التراثي.
أما صلة التراث بالعمل السياسي في المجتمعات النامية فتقوم على صلة الحاكم بالمحكوم، والتراث سلطة في نفوس الناس والعمل السياسي تطوير للمجتمع ونقله من حال إلى حال ومن فترة تاريخية إلى أخرى، وهو ذلك الذي يشمل التغيير في كافة قطاعات المجتمع، فالتراث العلمي متمثلا في الأقسام العلمية الثلاثة النقلي والعقلي والعقلي النقلي له أثره الملموس على العمل السياسي قديماً وحديثاً. فالعلوم النقلية- القرآن، الحديث، التفسير، السيرة، و الفقه- تركت أثراً سلبياً في سلوك الناس أكثر منه إيجابياً، فعلوم القرآن مازالت تتحدث عن رسم المصحف وعدد آياته وشكله الخ. والأمر نفسه في العلوم النقلية العقلية، ففي علم أصول الدين استعملت التصورات لله وللكون وللإنسان من قبل النظم السياسية التي تبنت التصور الرأسي لله وللعالم والإنسان من الأدنى إلى الأعلى مما سهل أن "ينزلق الحاكم وراء صورة الإله المطلق فيتشبه به ويأخذ صفاته، ويستعير أفعاله فيصبح الحاكم مطلق مثل الله وأفعاله واجبة الطاعة مثل أفعال الله... مازلنا نعرض لقضية ابن خلدون لماذا تنهار الأمم ولا تضع سؤالاً تالياً كيف تتقدم الشعوب وما هي شروط النهضة؟ ما زلنا ننقل عن الغرب الرياضيات الحديثة والطبيعيات الحديثة بل والعلوم الإنسانية المعاصرة، وفي هذا الجو الحضاري العام يستحيل العمل السياسي حيث لا إبداع للجديد ولا تطوير للقديم ولا إعمال للعقل، ولا إجهاد للقريحة فنصبح في العمل السياسي أيضاً ناقلين تتشبث الأنظمة القائمة بتراث القدماء وتنقل المعارضة تراث المحدثية (الماركسية أو الليبرالية أو القومية). والقديم أرسخ جذوراً وأقوى شرعية من قشور المحدثين."[10]
إذا كان التراث يعيق العمل السياسي و التغيّر الاجتماعي حسب 'حسن حنفي' قد يتحول إلى دوافع تُحرك العمل السياسي وتُغير المجتمع من خلال إجابة على سؤال: "مدى ما يمكن أن يسهم به الفكر الإسلامي المعاصر في مواجهة قضايا العصر ومشكلاته وتحدياته؟."[11] و إمكانية المساهمة تتحدد من خلال النقاط الست التالية: تحرير الأرض من الاستعمار والغزو، فالله والأرض وحدة، والدفاع عن الحريات في مواجهة القهر والتسلط، والعدالة الاجتماعية في مواجهة سوء توزيع الثورة، والتنمية الشاملة في مواجهة التخلف الحضاري، وتأكيد الذات والهوية ضد كل أشكال الاغتراب في الآخر، والحرص على توحيد الأمّة بدل التجزئة والانقسام. ويتم توظيف التراث كدوافع لتحريك الحاضر السياسي والاجتماعي والاقتصادي في المجتمع التراثي النامي من خلال رؤية تاريخية، ومشروع إعادة بناء التراث يقوم على حرية الفكر وحفظ مقاصد الشريعة وإصلاح الأرض لا إفسادها واستقلال المؤسسة الدينية وإبطال أشكال ومظاهر النفاق الديني في الدولة ووسائل الإعلام.
يتضح مما سبق أن ما هو سلبي في التراث قد يتحول بفعل دور العقل والحرية وحفظ مقاصد الشرع ومبدأ صلاح الأرض لا فسادها إلى ما هو إيجابي، فمن سيادة التصور العمودي التسلطي للعالم المتمركز حول الواحد إلى التصور الأفقي والتمركز حول الإنسان والأرض والمجتمع والتنمية ومن هنا يتحول التراث كطاقة نفسية واجتماعية مشحونة داخل الوجدان الفردي والوعي الاجتماعي إلى حركة نهضوية فكرية وعملية سياسية واقتصادية تحرك التاريخ وتبني الحضارة.
أما بالنسبة لصلة الفلسفة بالتراث عند 'حسن حنفي' قد تُفهم هذه الصلة بين الفلسفة كوجود قائم حالياً وبين التراث القديم، أو بين الفلسفة القديمة والتراث القديم، أو بين الفلسفة كممارسة للتفلسف وصلتها بالتراث القديم. وأزمة الفلـسفة والـتراث ترتـبط بثنائية الفلسـفة الغربيـة و صاحبها الآخر أو الغرب والتراث الفلسفي القديم و صاحبه الأنا، فهناك بعد الآخر وبعد الأنا وبعد (الواو) الذي يمثّل التواصل والتفاعل والحراك الثنائي من خلال دور العقل، وهو بعد غير موجود تماماً راحت ضحيته ظروف العصر التي افتقدت المنظور المتوازن بين عمق التراث القديم ولا عمق الفلسفة الغربية والمعاصرة، وافتقدت الوعي المتوازن بين تراث مفهوم الهوية هي الأنا والفلسفة الغربية والمعاصرة وهي أقل وضوحاً في التعبير عن الهوية، ومظاهر أزمة الفلسفة والتراث كثيرة. فالتعامل مع التراث القديم تتم بنقل علومه كلها من غير تطوير أو اختيار من حيث وضعها في مستوى واحد، ونقل أقصى ما يمكن من العلم والتعرض لكافة فروع العلم، وتتكرر العلوم القديمة بغير محاولة لإعادة بنائها مثل تكرار القسمة الثلاثية لموضوع الفلسفة القديمة، المنطق والإلهيات والطبيعيات. ولا يتم الربط بين العلم والسياق التاريخي الذي نشأ فيه والواقع الذي أفرزه، الأمر الذي جعل الأزمة قائمة وصار التراث القديم لا يتفاعل بإيجابية مع الوافد ولا مع الواقع. ولضمان هذه الميزة ميزة التفاعل الإيجابي بين التراث الفلسفي القديم والفلسفة الغريبة الحديثة المعاصرة ضرورة إعادة قراءة التراث القديم وإعادة بنائه، والوصول إلى فلسفة جديدة. "وإنها لمسؤولية جيلنا أن يبدع فلسفة إسلامية جديدة طبقاً لظروف عصرنا بعقلية المجتهد، فيصبح الفيلسوف في نفس الوقت أميناً على الحكمة واعياً لمصالح الأمة... لا توجد فلسفة إسلامية واحدة ودائمة لكل العصور بل توجد فلسفات متعددة ومتغيرة بتغير العصور. الفلسفة تعبير عن روح العصر."[12]
إن صلة التراث بالمجتمع والسياسة في العالم العربي والإسلامي المعاصر وهو عالم تراثي تاريخي تضع الحياة أمام ثنائية تتعدد أوجهها، التراث والحداثة، التراث والواقع، التراث والسياسة، التراث والسلطة، التراث والفلسفة الغربية، وهي ثنائيات تعبر عن أزمة التراث في المجتمع العربي الإسلامي المعاصر. هذه الأزمة أسبابها ودوافعها كثيرة بعضها داخلي ذاتي خاص بطبيعة التركيبة الفكرية والثقافية والاجتماعية للمجتمع العربي الإسلامي المعاصر وبعضها الآخر موضوعي يتعلق بالظروف التاريخية التي تحيط بهذا المجتمع سياسية واقتصادية و حضارية بشكل عام، والسبيل إلى تجاوز الأزمة هو إعادة بناء التراث القديم من جهة وإعادة قراءة الوافد من جهة ثانية وإيجاد نظرية صحيحة في تفسير الواقع يتضح من خلالها الموقف الحضاري من الواقع، هذا الموقف الذي يُمثّل عتبة ننطلق منها نحو الأمام في سبيل إنقاذ الأمّة من محنتها.
ما زال التراث يؤثر في حياتنا اليومية ويمثل قضية أثارت جدالات ونقاشات حادّة في أوساط المثقفين والمفكرين مع بداية التفكير في النهضة و في مشروعها، ومنذ طُرح سؤال الحداثة لأجل تحديد أسباب التقدم وشروطه، وهي نقاشات طرحت جملة من الأسئلة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، مثل قضية التراث ومعناه والحرية والعقلانية والتعامل مع الآخر. والتراث في مشروع 'حسن حنفي' يمثل المستوى الأول إلى جانب التجديد وهو المستوى الثاني. ولإزالة اللّبس والغموض يُحدد صاحب المشروع مفهوم التراث ومفهوم التجديد في مشروعه. حيث بدأ كتابه 'التراث والتجديد' بسؤال: "ماذا يعني 'التراث والتجديد'؟"[13] كمشروع حضاري قومي. فالتراث عنده "كل ما وصل إلينا من الماضي داخل الحضارة السائدة. فهو إذن قضية موروث وفي نفس الوقت قضية معطى حاضر على عديد من المستويات."[14]
المسألة ليست تجديد التراث ما دام التراث نقطة الانطلاق من خلال الوعي الكامل بالمسؤولية القومية والثقافية وما دامت الأصالة تؤسس للمعاصرة والغاية تتحقق بالوسيلة والجديد يأتي بعد القديم. فالتراث ليس مطلوباً في ذاته بل هو وسيلة لتفسير الواقع وتطويره فهو "نظرية للعمل وموجه للسلوك، وذخيرة قومية يمكن اكتشافها واستغلالها واستثمارها من أجل إعادة بناء الإنسان وعلاقته بالأرض وهما حجرا العثرة اللّتان تتحطم عليها كل جهود البلاد النامية في التطور والتنمية... فالنهضة سابقة على التنمية وشرط لها والإصلاح سابق على النهضة وشرط لها، والقفز إلى التنمية هو تحقيق لمظاهر التقدم دون مضمونه وشرطه. 'التراث والتجديد' إذن يحاول تأسيس قضايا التغيير الاجتماعي على نحو طبيعي وفي منظور تاريخي، يبدأ بالأساس والشرط قبل المؤسس والمشروط."[15]
التراث ليس هو مجرد مخزون مادي ولا مجرد كيان صوري نظري قائم بذاته، فالتراث هنا بمستويين مادي وصوري وهو في حقيقته مخزون لدى الجماهير. فما زال التراث محدداً لسلوك الناس في الحياة اليومية، محاطا بالمدح والتقديس أحياناً وبالانغماس فيه هرباً من الواقع الصعب أحيانا أخرى، هذا في وقت انطلق فيه الغير علمياً وحضارياً من الواقع ونقد التراث بل وهدمه وتعويضه بما هو أفضل وأريح. وإذا تناولنا موروثاتنا النفسية نجد أننا مازلنا نحيا على فلسفة الكندي وعلى أصول الدين المعتزلية والأشعرية وعلى التصوف الداعي إلى الفقر والجوع والصبر والتوكل وعلى إعطاء الأولوية للكلي النظري على الكلي العملي. 'فالتراث والتجديد' انطلاقاً من معنى التراث يدل على "موقف طبيعي للغاية، فالماضي والحاضر كلاهما معاشان في الشعور، ووصف الشعور هو في نفس الوقت وصف للمخزون النفسي المتراكم من الموروث في تفاعله مع الواقع الحاضر إسقاطاً من الماضي أو رؤية للحاضر، فتحليل التراث هو في نفس الوقت تحليل لعقليتنا المعاصرة وبيان أسباب معوقاتها، وتحليل عقليتنا المعاصرة هو في نفس الوقت تحليل للتراث... فالتراث والتجديد يؤسسان معاً علماً جديداً وهو وصف الحاضر وكأنه ماض يتحرك، ووصف الماضي على أنه حاضر معاش... يمثلان عملية حضارية هي اكتشاف التاريخ وهو حاجة ملحّة ومطلب ثوري في وجداننا المعاصر."[16] ويكشف المشروع عن ظاهرة البحث عن الذات والأنا، لأن التخلف قد يكون صادراً عن غياب النظرة العلمية الحضارية القديمة، كما أن الفقر قد يكون من تصدير النظم الاقتصادية والسياسية البالية. والبحث عن الهويّة بوجود الآخر كفيل به منهج 'التراث والتجديد' الذي ينقلها من حال التلقي والنقلية إلى صرح النقد والإبداع.
فالتراث في المشروع ليس هو معتقدات مقدسة مغلقة ولا هو بناء صوري شكلي ولا هو مجرد مخطوطات ومنشورات و مؤلفات أو دوائر معارف، فهو ليس بالتراث الصوري الفارغ الذي لا أثر له، ولا هو مجرد أشياء مادية محفوظة. فالتراث "هو المخزون النفسي عند الجماهير، هو تمركز الماضي في الحاضر، يتحول إلى سلطة في مقابل سلطة العقل أو الطبيعة تمد الإنسان بتصوراته للعالم وبقيّمه في السلوك ويظهر التراث كقيمة في المجتمعات النامية وهي المجتمعات التراثية التي ما زالت ترى في ماضيها العريق أحد مقومات وجودها وفي جذورها التاريخية شرط تنميتها وازدهارها."[17]
2- لماذا التراث ؟ التراث قضية شخصية في سياقها التاريخي
يربط 'حسن حنفي' انشغال الفكر العربي المعاصر بموضوع التراث بهزيمة العرب في سنة 1967. بعد تقهقر الأنا في مجابهة الآخر. فالهزيمة في جوهرها هي هزيمة التراث فلا أدبيات السياسة ولا أدبيات الدين وهي منبعثة من التراث استطاعت أن ترد الهزيمة، كما ارتبط الاهتمام بالتراث في وقت أصبحت فيه القومية العربية نمطاً للحرية وسبيلاً إلى الاستقلال في العالم الثالث بأكمله الذي عاش أزمة لم تهدد الحدود الجغرافية أو السياسية للبلاد العربية بل هددتها في وجودها، "وما زالت آثارها تتوالى لإزاحة العرب خارج التاريخ ولوراثتهم من شعوب أخرى، وبقوميات بديلة وبتصورات جديدة عن الشرق الأوسط، وحوض البحر الأبيض المتوسط، عصر إسرائيل الكبرى."[18]
وإذا كان التراث قد قام انطلاقاً من الدين وابتداء به فهذا لا يعني أنه ظاهرة دينية تفرض الدفاع عن الماضي من مشروعية دينية، إنما هو إقحام في تحديات الحاضر ومعارك العصر، "فالتراث ما زال حياً في قلوب الناس، ويؤثر فيهم سلباً وإيجاباً يلجئون إليه ساعة الأزمات، ويحتمون به إذا اشتدت بهم عوائد الدهر... مطلق يضع لهم معايير السلوك. ويحدد لهم تصوراتهم للعالم. بل أنه أكثر وضوحاً من الحاضر نفسه لأنه حضور معنوي وفعلي، ذهني ومادي، عقلي وحسّي. البداية به ليست مثالية بل عن الواقعية. فالتراث واقع وليس مثالاً وإن إزاحته بدعوة الواقعية أو المادية الجدلية لهو إزاحة للواقع نفسه وتخلّ عن النظرة العلمية."[19]
ويؤكد 'حسن حنفي' على حقيقة التراث في كونه ليس دينياً فقط، "ففيه يتداخل الديني والشعبي، المقدس والدنيوي.لا فرق في الاستخدام الشعبي بين الاستشهاد بالآية القرآنية والحديث النبوي وبين الاستشهاد بالمثل الشعبي وبسير الأبطال كلاهما مصدر سلطة ومنبعاً لمعايير السلوك. وتتداخل معهما أقوال الآباء والأجداد ونصائح المعلمين والمشايخ والرواد، الكل حجة سلطة وليس حجة عقل يتداخل فيه الصحيح والموضوع، التاريخي والأسطوري، المروي والخيالي، الكل يكون مخزوناً في اللاشعور التاريخي للأمّة وفي ذاكرتها الجماعية."[20]
الانشغال في التراث ليس من قبيل الدفاع عن الأنا وحمايته، إثبات الهويّة والمحافظة عليها، فالتراث هو أحد مكونات الأنا لا الأنا ككل، لا الذات بأجمعها، فالأنا في حقيقته تراث وعصرنة أو عصرية، انحصار الذات في التراث يؤدي إلى التقوقع، وتصبح هوية لا وجود لها في الحاضر والمستقبل. وقد يستخدم التراث في إخفاء الانصهار في الآخر وإتباعه والانقياد إليه. كثير من الأنظمة التي تدّعي أمام شعوبها حماية التراث ومصالحها مع الآخر. التراث ليس مطلوباً لذاته في المشروع بل هو مجرد أداة ووظيفة وليس جوهراً، يتميز بالتغير لا بالثبات، التراث منعدم في انعدام أساليب استعماله، والواقع الذي يُستعمل فيه والقائم على ذلك الفرد والجماعة، سلطة الدولة وسلطة الجماهير، فهو مدرك في إطار فعل التغير الاجتماعي حين يقوم كعائق أمام التغير أو يقوم كعنصر فاعل على التقدم وعندما تستخدمه السلطة كوسيلة لضبط المجتمع أو لبعث الحركة بداخله ومن داخله، فالتراث جزء من التغير الاجتماعي فهو طاقة مشحونة قد تتحرك سلبا وقد تتحرك إيجاباً تبعاً لاختيارات السلطة الاجتماعية والسياسية.
لذا فالتراث عند 'حسن حنفي' ليس تراثاً واحدا بل "التراث تراثان: تراث السلطة وتراث المعارضة، تراث الدولة وتراث الشعب، الثقافة الرسمية والثقافة المضادة. فالثقافة كالمجتمع تتمايز بتمايز السلطة في المجتمع. ولما تكوّن المجتمع من طبقات اجتماعية وكان الصراع على السلطة فيه طبقا لصراع الطبقات أفرزت كل طبقة أي كل سلطة تراثها وثقافتها... التراث نتاج اجتماعي لا يسبق وجود المجتمع، وليد الصراع الاجتماعي والسياسي وليس سابقاً عليه، إفراز اجتماعي كأحد أشكال القوى الاجتماعية المؤثرة في الصراع الاجتماعي. يتغير بتغير موازين القوى. التراث سلطة لأنه يمدّ السلطة السياسية القائمة بشرعيتها والتي تحاول أن تنزع الشرعية عن سلطة المعارضة وتراثها."[21]
إن الأزمة القائمة حالياً في التحجر والجمود في العالم العربي والإسلامي والثبات الاجتماعي تعود أساساً إلى كوننا "نريد تغيير الواقع الاجتماعي بتراث السلطة السائدة في أجهزة الإعلام وتحت سيطرة الدولة، والموجّه الأول لمناهج التعليم والرافد الرئيسي في الموروث الثقافي الشعبي حتى أصبح جزءاً من تصورنا للعالم وكأنّه هو التراث كله ولا بديل عنه... فالعالم شكله مخروطي هرمي، له قمّة وقاعدة، أعلى وأدنى، يقوم على التدرج."[22]
وإذا كان التراث ليس هو الدين ذاته و لا هو وسيلة للدفاع عنه، ولا هو الأنا ولا هو وسيلة للدفاع عن الأنا، وليس هو غاية أو موضوع أو جوهر أو ثبات بل وسيلة ووظيفة وتغيّر نشط في داخل المجتمع، ويرتبط بكل ما في المجتمع ويجري في سياق تاريخي ومتصل بكل ما في السياق التاريخي فهو ينهض في الواقع بالإنسان داخل التاريخ، كما يرتبط التراث بالوطن والوطنية ويقول صاحب مشروع 'التراث والتجديد' في ذلك: "ولكنه قضية وطنية تمس حياة المواطنين وتتدخل في شقائهم أو سعادتهم... قضية 'التراث والتجديد' قضية وطنية لأنها جزء من واقعنا، نحن مسئولون عنه كما أننا مسئولون عن الشعب والأرض والثروة، وكما أننا مسئولون عن الآثار القديمة و المأثورات الشعبية."[23]
الحديث عن التراث ليس هو حديث عن الدين لأن التراث ظاهرة حضارية ثقافية، والحضارة تتكون في الزمان والمكان وبفعلهما، فالدين جزء من التراث وليس كل ما في التراث في الدين، وليس كل ما في الدين في التراث. "فالتراث إن هو إلا عطاء زماني أو مكاني يحمل في طياته كل شيء... لا يوجد دين في ذاته بل يوجد تراث لجماعة معينة ظهر في لحظة تاريخية محددة ويمكن تطويرها طبقاً للحظة تاريخية قادمة."[24] ولم يطلق وصف 'إسلامية' على الحضارة لأنه وصف ديني والمسألة حضارية في أصلها، فالإسلام ظاهرة حضارية وقعت في التاريخ وفي حالات كثيرة تستعمل الألفاظ الدينية بمعان تصف الحضارة التي أنتجها الإسلام باعتباره معطيات حضارية تاريخية إنسانية وليس باعتباره ديناً.
بالإضافة إلى كون التراث قضية وطنية فهو قضية شخصية في حياة الجماعة العربية الإسلامية لأن هذه الجماعة تتعاطى باستمرار مع موروثها الشخصي، وهو موروث إسلامي، "والنسبة تشير إلى الحضارة أكثر مما تشير إلى الدين وتعني أننا والتراث من منطقة حضارية معينة كما يعيش الغربي في تراث مسيحي و لا يكون هو مسيحياً أو كما يعيش الهندي في تراث هندي ولا يكون هندوكيا أو بوذياً. التراث قضية شخصية نلتزم بها، وتختلف دراستنا له عن دراستنا مثلاً للتراث الهندي أو الفارسي أو الصيني أو الغربي لأننا في هذه الحالة نكون مجرد باحثين في حين أننا في الحالة الأولى نكون أكثر من باحثين بل نكون ملتزمين بقضية شخصية."[25] ففي الحالة الأولى تكون الذات المدروسة ويكون الموضوع المدروس أمراً واحداً فهو وجود إنساني تاريخي يلتقي فيه الحاضر والماضي والمستقبل ويكون الباحث صاحب مسؤولية قومية. أما عند دراسة تراث الغير فلا الذات تندمج في الموضوع ولا موضوع الدراسة جزء من ثقافة الذات الوطنية ولا مسؤولية قومية في البحث.
إن أخطاء التراث تعاد صياغتها، ونقائصه لا تُبرر ولا تتعرض للنقد فقط بل يتم إكمالها والزيادة فيها، "فالباحث على نفس مستوى مسؤولية المفكرين القدماء. وهم أتوا به وليسوا غرباء عنه. فإذا انفصل الباحث عنهم وقع في الغربة وأصبحت مسؤوليته هو وليست مسؤولية التراث أن يقضي على اغترابه حتى يشعر بالانتماء وبأنه جزء من التراث وبأن التراث جزء منه."[26] ويضيف 'حسن حنفي' مؤكداً على صفة الشخصية في البحث في التراث على أنّه شخصي ويعيب على الدراسات التي تنعدم فيها هذه الصفة قائلاً: "لذلك تغيب على معظم دراسات باحثينا في التراث عدم أخذ قضاياه كقضايا شخصية والاكتفاء بعرض المادة القديمة كما هي إلى حد التبسيط الرخيص المخلّ بأهمية مثل هذه القضايا للقدماء وقد تطايرت من أجلها الرقاب حينذاك، في حين و أن المعاصرين وقد ضاعت أرضهم وثرواتهم لم يهتزوا ولم يلتزموا، وظلّ التراث بالنسبة لهم قضية ميتة لأنهم ميتون... لذلك كان 'التراث والتجديد' تعبيراً عن الحياة الشخصية للباحث. والمشاكل التي عرضت له إبّان العشرين سنة الماضية، وحرصه على التراث وعلى تغيير الواقع في آن واحد، وهي قضية المثقفين الثوريين لهذا الجيل."[27] تبنىّ المفكر قضية التراث مرتبطة بالتجديد في مشروعه الحضاري القومي على أنها مسألة شخصية ناهيك عن كونها وطنية وقومية، وإذا كان الالتزام في التراث أمرا مطلوباً و أساسياً فذلك لا يضر بحياده كباحث وبموضوعيته كدارس. وعلمه هو مدى التزامه بمشكلات وقضايا التغيير داخل المجتمع والالتزام في هذه الحالة يحتوي العلم، وإذا كان العلم يتعارض مع الإيديولوجية في الفكر الغربي و في الفكر الماركسي ففي الوعي القومي في بلدان العالم الثالث، كل منهما يشدّ الجمهور نحو غاية واحدة. فلا الإيديولوجية تضر بالعلم و لا العلم يضر بالإيديولوجية، لأن الالتزام بالتراث وبالثقافة وبالوحدة الوطنية وهي معطيات تتّحد فيها الإيديولوجية بالعلم.
ما دام التراث مخزونا نفسيا في الجماهير وهو مسؤولية فردية وجماعية، شخصية وقومية ووطنية ليس هو الأنا بل يحميها ولا يرفض الآخر بل يشاركه الحياة بإيجابية وفعّالية، ليس هو الدين بل الدين جزء منه، الواحد منها يحمي الآخر ويُفعّله، التراث ينمو ويزدهر بالعلم حينما يلتزم الباحث في التراث والالتزام شرط العلم فالإيديولوجية لا تضاد العلم بل تتحد معه في الوعي القومي العربي والإسلامي وفي الوعي القومي لشعوب العالم الثالث. هذه كلّها تمثل دوافع إعادة بناء التراث العربي الإسلامي بشكل عام والتراث الفلسفي بشكل خاص "علومه وأبنيته وحلوله واختياراته وبدائلها الممكنة هي تغير الظروف كلية من عصر إلى عصر، ومن فترة إلى فترة... هناك إذن فترتان متمايزتان في تراثنا القديم وفي حضارتنا الإسلامية، الأولى الفترة القديمة والثانية الفترة الحديثة، الأولى اكتملت فيها الحضارة في دورتها الأولى والثانية ما زلنا نشاهدها... الأولى تعادل في التراث الغربي العصر الوسيط فيه والثانية تعادل عصوره الحديثة وعلى هذا يكون التقابل بين التراثين، التراث القديم والتراث الغربي محددا جدل الأنا والآخر، عصر الازدهار والاكتمال لدينا في الفترة الأولى هو العصر الوسيط الأوربي، وعصر التدوين والشروح والملخصات أي التوقف والاجترار في العصور الغربية الحديثة. فليس تراثنا القديم هو العصر الوسيط إسقاط الآخر على الأنا، كما أننا لا نعيش في العصور الغربية الحديثة إسقاط الأنا على الآخر."[28]
كما أن محاولة إعادة بناء التراث تصبح ضرورة ملحّة لأن مجتمعاتنا النامية تراثية والنموذج الاجتماعي التراثي يكون في نمطه يعاني من عيوب رئيسية كأن يؤخذ التراث فيه غاية في ذاته وليس وسيلة لتقدم الشعوب ونهضة المجتمعات، ويكون التراث منفصلاً عن الواقع وليس محدداً له وموجهاً إيّاه لأن التراث فكر وواقع معاً، ويؤخذ التراث كله أو يُلغى كله ولا يقبل التجزئة أو الانتقائية فهو "حقيقة أبدية لا تتطور أو تتغير ولا يخضع لتأويل أو تفسير أو وجهة نظر يشمل الزمان والمكان ويحتويهما فيه فلا فرق بين الماضي والحاضر والمستقبل ولا وجود لمراحل التاريخ أو نوعية المجتمعات أو خصوصيات الشعوب وبالتالي تمّ التنكر للحاضر كلية."[29] والواقع برمته فاسد لا يجوز تطويره بل هدمه من الأساس ويبدأ البناء من جديد. وبالمقابل نجد النمط الّلاتراثي يأتي كرد فعل على النمط التراثي وهو نمط أو نموذج يقطع صلته بالتراث القديم لبناء الجديد، "على أسس من العلم والمعرفة والجهد الإنساني الخالص بعد اكتشاف عورات التراث وعدم ثباته أمام العلم الجديد فالتقدم نحو الجديد مرهون بالتخلص من القديم وهو نمط عيوبه كثيرة فالتغيير لديه سطحي والتقدم في المظاهر مما أدّى إلى انفصام الشخصية الوطنية وسيطرة الأقلية وتراث الأقلية وانعزال الطبقة الثورية وما ينتج عن ذلك من مخاطر سياسية واقتصادية واجتماعية، الأمر الذي يستدعي قيام النمط الثالث وهو نمط أو نموذج إعادة بناء التراث وإحيائه وبعثه تطبيقاً لمشروع 'التراث والتجديد'. فإذا كان النمط التراثي يضحي بالتغيير الاجتماعي من أجل المحافظة على التراث وكان النمط الّلاتراثي يضحي بالتراث من أجل التغيير الاجتماعي، فإن تجديد التراث أو إحيائه أو إعادة بنائه طبقاً لحاجات العصر هو الذي يحفظ من التراث دوافعه على التقدم ويقضي على معوقاته وهو القادر على إحداث التغيير الاجتماعي بطريقة أرسخ وأبقى وأحفظ له في التاريخ من الانتكاسات والردّة وحركات النكوص."[30]
وإذا كان التراث في المجتمعات التراثية النامية ليس ديناً مقدساً ولا بناءً صورياً ولا نصوصاً محفوظة أو كتب صفراء فهو سلطة تقوم في مقابل سلطة العقل تمنح الإنسان تصورات عن العالم وعن السلوك وقيّمه ويشكل واحدا من مقومات الشعوب النامية في وجودها ويمثل عامل تنميتها وازدهارها في أصولها التاريخية، ولما كان التراث كذلك فهو مستعمل من قبل السلطة ومن قبل المعارضة في المجتمعات الديمقراطية كما يستعمل من قبل الحاكم والمحكوم والقاهر والمقهور في المجتمعات الطبيعية. كل منهما يجد في التراث ما يؤيده. ويؤكد 'حسن حنفي' على ضرورة الاهتمام بالتراث دراسة وبحثاً واندماجاً متبادلاً بين الذات الدارسة والموضوع المدروس، والتزاماً من قبل البحث لأن المستشرق يرصد التراث من حيث حركته التاريخية فيفقد الحياة والموضوعية. "وبالتالي كان علينا تطويره وتغييره بل وقلبه رأساً على عقب، ومن هنا كان التراث واجبا وطنيا والنواح على سلبياته مجرد بكاء وصراخ وعويل لا يجدي. فالسلبيات يمكن القضاء عليها بإنتاج تراث آخر أو تحويلها إلى إيجابيات بفعل سياسي مضاد. كما أن التغني بإيجابياته إعجاب بتراث الآباء والأجداد لا قيمة له إلا بمقدار مساهمة هذه الإيجابيات في حل قضايا العصر الأساسية وقبول تحدياته الرئيسية. فما الفائدة في التغنّي بالعقل في مجتمع غيبي أو الفخر بالعدالة الاجتماعية والمساواة في مجتمع الفقر والفشل والبؤس والشقاء أو الاعتزاز بالحرية في مجتمع القهر والتسلط تفتح فيه السجون والمعتقلات أكثر مما تفتح فيه المدارس ودور العلم أو التشدّق بالوحدة في أمة تقطعت أوصالها وتفرقت شيّعاً يحارب بعضها بعضاًًًًًً."[31] (كل حزب بما لديهم فرحون).[32]
فقراءة التراث ونقده وإعادة صياغته و محاولة إعادة بنائه وفق ما تتطلبه حاجات العصر هو الكفيل الوحيد بتوظيف التراث إيجابياً وبفعّالية في بناء الحاضر والتطلع للمستقبل، وهي مهمة مشروع 'التراث والتجديد' متجاوزا النمط التراثي والنموذج اللاتّراثي.
3- التجديد: ماذا يعني تجديد التراث ؟
يمثل التجديد ظاهرة مهمّة جدّاً وضرورية لكل فكر يسعى إلى التحوّل أو عمل يسعى إلى التطوّر انطلاقاً من تغيير ظروفه وعناصره، ما دامت كلمة تجديد (innovation) مصدر لفعل جدّد، يجدّد والمصدر تجديد، "وجدّد الشيء صيّره جديداً، والتجديد إنشاء شيء جديد أو تبديل شيء قديم، وهو مادي كتجديد الملبس والمسكن أو معنوي كتجديد مناهج التفكير وطرق التعليم، ويغلب على التجديد أن يكون مذموماً في المجتمعات الزراعية الشديدة التمسك بتقاليدها،وأن يكون محموداً في المجتمعات الصناعية التي تقدّس روح الاختراع."[33] وإذا كان التجديد عند 'أندريه لالاند' هو: "Innovation : Production de quelque chose de nouveau."[34]
فالتجديد في تعريف 'لالاند' هو إنتاج شيء جديد قد يكون مادياً وقد يكون معنوياً. لكن التجديد لا يرتبط بالأشياء المادية والمعنوية فقط بل يعني تبديل شيء قديم، والشيء الذي يجري عليه التبديل هو الآخر قد يكون مادياً وقد يكون معنوياً كتبديل الكوخ الطيني بالمسكن الإسمنتي، وكتبديل طريقة العرض والإلقاء بطريقة الحوار في التعليمية.
والتجديد في معناه يرتبط بعدة مفاهيم تتطلبه ويتطلبها، فهو لا يقوم بدونها، بعضها يمثل شرطاً سابقاً عليه و بعضها يمثل عنصراً ملازماً له والبعض الآخر يمثل نتيجة حتمية له. فمفهوم التغيّر والذي يعني انتقال الموضوع أو الشيء من حال إلى حال، ومفهوم التحوّل الذي يعني تغيير يصيب الشيء أو الشخص في ماهيته أو في صفاته العرضية، ومفهوم التقدّم الذي يعني السير إلى الأمام وعدم الثبات، وهو عند الفلاسفة تقدم بالطبع وتقدم في الزمان وفي الرتبة وتقدم بالشرف وبالعلة. ومفهوم التطور الذي يعني تحول الموضوع أو الشيء من طور إلى طور وهو لدى الفلاسفة متعدد فهو النمو أو التبدل الموجّه أو الانتقال من البسيط إلى المركب أو الارتقاء من الأدنى إلى الأعلى وضد التطوّر التكوّر الذي يعني التقبض والتقلص والتّضام والتراجع، ومفهوم الإبداع الذي يعني إنشاء الجديد من القديم وهو كشف واختراع. وارتباط مفهوم التجديد بهذه المفاهيم من خلال علاقة التلازم والتكامل يدل على أن التجديد في الحضارة هو فاعلية إنسانية ترتبط بعدة فاعليات أخرى، هذه الفاعليات بعضها يمثل شرطا ضروريا لحصول التجديد في التاريخ والحضارة.
فضرورة التجديد في ارتباطه بالمفاهيم التجديدية الأخرى، ولا يمكن الاستغناء عنها في حياة الفرد والمجتمع داخل التاريخ ولبناء النهضة والحضارة، خاصة إذا عرفت حياة الأمة مثل الأمة الإسلامية والعربية ظاهرة التكوّر لا التطور وهي أمّة تملك من الإمكانات ما يمنحها الأهلية الحضارية والريادة التاريخية مادياً ومعنوياً، فلها من الماضي والتاريخ صفحات مشرقة وبيضاء وهو تراثها العتيق العتيد، ولها من الثروات المادية الكثير المتنوع، لكن واقعها فاسد مادياً ومعنوياً، لا هي استطاعت أن تحافظ على تراثها وقيّمها وماضيها بالرغم من دعوات الأصالة والمحافظة والتقليد وهو موقف التيار التراثي ولا هي استطاعت أن تعيش عصرها وتعيش ما فيه من تقدم علمي وتكنولوجي وفكري بالرغم من دعوات الحداثة والتغريب وهو موقف التيار اللاتراثي، وعجزت عن التوفيق بين الاثنين في وقت مطالبة بعدم التفريط في الماضي وبعدم التفريط بالعصر وظروفه خاصة وهي أمة تراثية، التراث حيّ فيها في مجال الشعور القومي والفردي وفي داخل اللاشعور القومي والفردي. وأمام تيار التواصل مع التراث إلى درجة الانقطاع عن العصر وتيار التواصل مع العصر إلى درجة الانقطاع عن التراث وتيار التوفيق أو التلفيق بين التراث والعصر بغير إيجابية وفعّالية لا من جهة التراث ولا من قبل العصر، يقوم مشروع'التراث والتجديد' لطرح قضية التراث كأساس وشرط وقضية التجديد كمنهج وميدان وعلم داخل مشروع حضاري قومي من شأنه يحلّ أزمة العالم العربي والإسلامي المعاصر بأسلوب علمي التزامي بعيداً عن الأحادية في المنظور وفي المنهج والدراسة والنتائج، فهو مشروع يؤسس للتغيير الاجتماعي من خلال منهج أو نظرة تجمع بين التراث والتجديد بكيفية جديدة لا تسمح بسيطرة التراث بمفرده أو سيطرة العصر بمفرده أو سيطرة التغليف و التلفيق مثلما هو الحال في النماذج السائدة والمشاريع القائمة والتي لم تستطع حتى الآن تجاوز وضعية التخلف وأزمة التحضر في العالم العربي والإسلامي المعاصر.
في كثير من الأحيان تكون المشكلة في اتجاهات الفكر العربي والإسلامي المعاصر في المفاهيم، لذا يؤكد صاحب مشروع 'التراث والتجديد' على ضبط مفهومي التراث والتجديد. إن نقطة الانطلاق في المشروع هو التراث وليس الغرض من ذلك تجديده لأجل المحافظة عليه وعلى أصالته، "بل من أجل المحافظة على الاستمرار في الثقافة الوطنية، وتأصيل الحاضر، ودفعه نحو التقدم، والمشاركة في قضايا التغيير الاجتماعي. التراث هو نقطة البداية كمسؤولية ثقافية وقومية، والتجديد هو إعادة تفسير التراث طبقاً لحاجات العصر، فالقديم يسبق الجديد، والأصالة أساس المعاصرة والوسيلة تؤدي إلى الغاية التراث هو الوسيلة، والتجديد هو الغاية، وهي المساهمة في تطوير الواقع، وحلّ مشكلاته، والقضاء على أسباب معوقاته وفتح مغاليقه التي تمنع أيّة محاولة لتطويره."[35]
فالتجديد في ارتباطه بالتراث يجعل التراث ليس هو غاية في ذاته أو قيمة في ذاته، مجرد متحف للأفكار نتغنى ونفتخر بها بل مادة حيّة تعطي النظرية العلمية في تفسير الواقع والسعي إلى تطويره، ونظرية للعمل ومحددا للعمل ومحددا وموجهاً لسلوك الإنسان ومادة قومية تُكتشف وتُستثمر لإعادة بناء الإنسان وعلاقته بالأرض، فالتخلف بمختلف مظاهره وفي جميع قطاعات الحياة يعود إلى غياب مشروع حضاري قومي محكم وإلى غياب ثورة إنسانية في الوعي والفكر، والثقافة سابقة على الثورة في الزراعة أو الصناعة أو غيرها، "فالنهضة سابقة على التنمية وشرط لها والإصلاح سابق على النهضة وشرط لها والقفز إلى التنمية هو تحقيق لمظاهر التقدم دون مضمونه وشرطه. 'التراث والتجديد' إذن يحاول تأسيس قضايا التغيّر الاجتماعي على نحو طبيعي و في منظور تاريخي، يبدأ بالأساس والشرط، قبل المؤسس والمشروط."[36]
المنهج السائد في التعاطي مع التراث يعيق تجديد التراث وتحويله إلى ذخيرة فردية وقومية تضطلع بإعادة بناء الإنسان انطلاقاً من الإصلاح، فالنهضة فالتنمية فالتقدم. وإذا كان الغرب الحديث ابتدأ نهضته العلمية من الواقع باعتباره مصدر الفكر الأول والأخير، فإن تراثنا جزء من الواقع حيث مازلنا نعيش بفكرة القضاء والقدر وثنائية الله والعالم وبتصور الكلي والجزئي في النظري على حساب العملي، وبالقيّم السلبية في التصوف مثل الصبر والتواكل والقناعة والتسليم، وتتشعب المناقشات في الفروع التي لا تغيّر شيئاً في الواقع. فالتراث ما زال حياً في شعور العصر ووجدانه، يمكن للتراث أن يؤثر في العصر ويكون محدداً وموجهاً للسلوك فيه، و"تجديد التراث إذن ضرورة واقعية، ورؤية صائبة للواقع، فالتراث جزء من مكونات الواقع وليس دفاعاً عن موروث قديم، التراث حيّ يفعل في الناس ويوجّه سلوكهم، وبالتالي يكون تجديد التراث هو وصف لسلوك الجماهير وتغييره لصالح قضية التغير الاجتماعي. تجديد التراث هو إطلاق لطاقات مختزنة عند الجماهير بدلاً من وجود التراث كمصدر لطاقة مختزنة... تجديد التراث هو حلّ لطلاسم القديم وللعُقد الموروثة وقضاء على معوقات التطوّر والتنمية والتمهيد لكل تغيّر جذري للواقع، فهو عمل لا بد للثوري من أن يقوم به."[37]
وتجديد التراث لا يكون إلا بتحليله، وتحليل التراث هو تحليل للعقلية القومية المعاصرة وإظهار مكوناتها وعناصرها وأسباب ضعفها وتخلفها، وتحليل العقلية القومية المعاصرة وهي عقلية تراثية تاريخية فهو تحليل للتراث ذاته مادام التراث القديم مكوناً رئيسياً في العقلية المعاصرة، وهذا من شأنه يسمح برؤية الحاضر داخل الماضي ورؤية الماضي داخل الحاضر، فالتراث والتجديد في المشروع يؤسسان حسب 'حسن حنفي' علما جديداً "وهو وصف للحاضر وكأنه ماض يتحرك، ووصف الماضي على أنّه حاضر معاش خاصة في بيئة كتلك التي نعيشها حيث الحضارة فيها مازالت قيمة، وحيث الموروث مازال مقبولاً... ولما كان التراث يشير إلى الماضي والتجديد يشير إلى الحاضر، فإن قضية التراث والتجديد هي قضية التجانس في الزمان وربط الماضي بالحاضر وإيجاد وحدة التاريخ... فلا يعني انتقال شعب ما من مرحلة إلى أخرى حدوث قطع أو انفصال حضاري بل يعني استمرار الحضارة ولكن على أساس جديد من احتياجات العصر، قضية التراث والتجديد هي إذن الكفيلة بإظهار البعد التاريخي في وجداننا المعاصر واكتشاف جذورنا في القديم... التراث والتجديد يمثلان عملية حضارية هي اكتشاف التاريخ وهو حاجة ملحّة ومطلب ثوري في وجداننا المعاصر. كما يكشفان عن قضية البحث عن الهوية عن طريق الغوص في الحاضر... عن طريق تحديد الصلة بين الأنا والآخر."[38]
ومسألة تجديد التراث هي مسألة إعادة جميع الاحتمالات في القضايا المعروضة، وإعادة الاختيار حسب متطلبات الحياة في العصر الحاضر، "فلم يعد الدفاع عن التوحيد بالطريقة القديمة مفيداً ولا مطلوباً، فكلنا موحدون منزهون، ولكن الدفاع عن التوحيد يأتي عن طريق ربطه بالأرض، وهي أزمتنا المعاصرة."[39] وإذا كان التشبيه أو التجسيم اختياراً قديماً غير مقبول، قد يحرك العقول والقلوب نحو الربط بين الله والأرض، بين الله وفلسطين. وإذا كان الفصل قديماً بين الله والعالم والإنسان جزء من العقل هذا الفصل يبرره الدفاع عن الألوهية ضد الثقافات والفلسفات الأخرى، أما حال عصرنا مختلف فأصبحت المأساة هي التراث والتعاطي معه، فسيطرة الفكر الأشعري لمدة أكثر من عشر قرون وكان إحدى معوقات العصر آنذاك لأنه قام على التصور الرأسي للعالم لا التصور الأفقي الذي جعل البديل في الاختيار الاعتزالي الذي بلغت بوجوده الحضارة الإسلامية أوجها وقوتها لأنه الاختيار الذي يعبّر عن حاجات ذلك العصر ومتطلباته. وكان أكثر سلبية لمطالبه. 'فالتراث والتجديد' "إذن هي إعادة كل الاحتمالات القديمة بل ووضع احتمالات جديدة واختيار أنسبها لحاجات العصر، إذ لا يوجد مقياس صواب وخطأ نظري للحكم عليها بل لا يوجد إلاّ مقياس عملي فالاختيار المنتج الفعّال المجيب لمطالب العصر هو الاختيار المطلوب. ولا يعني ذلك أن باقي الاختيارات خاطئة بل يعني أنها تظل تفسيرات محتملة لظروف أخرى، وعصور أخرى ولّت أو مازالت قادمة."[40]
لا يجوز القول بأن حضارتنا حضارة وحدة لا تنوع واتفاق لا اختلاف، فتراثنا القديم قدّم جملة من الاحتمالات. فالاجتهاد مثلاً ليس هو منهجاً في أصول الفقه فقط فهو كذلك منهج في أصول الدين ووظيفته لا تقتصر على القياس بل كذلك اختيار النظريات المناسبة للعصر ولروحه. وروح العصر أو احتياجات العصر أو الواقع المعاصر لا يعني الإشارة إلى جماعة بشرية ما بل الإشارة إلى تركيبات نفسية وأبنية اجتماعية، هذه التركيبات وهذه الأبنية هي التي تحدد الهوية. وأي تفسير ينطلق من العنصر أو القومية أو الجنس فهو تفسير تابع للهوى والمزاج ولا صلة له بالعلم وبتحليل الواقع، وقد يكون تفسيراً منحرفاً عن الموقف الحضاري وتابعاً في مساره لمسار بيئة الحضارة الغربية وظروفها الفكرية والمادية. كما يصعب التحليل في تناول قضية 'التراث والتجديد'. فتحليل القديم يؤدي إلى الأكاديمية والتعالم والانعزال عن الواقع. وتحليل الواقع المعاصر يُجرد البحث من التراث القديم ويصبغه بصبغة اجتماعية معاصرة بحتة، فمعادلة تحليل التراث والواقع تقتضي تحليل التراث وليس تركه وتقتضي تحليل الواقع دون عزل التراث عن واقعه الذي يتحرك بفعل التراث.
وتجديد التراث ليس بدافع عاطفة التبجيل والتقديس والتعظيم بل كون الإنسان الذي يجدد ينتمي إلى أرض ما وإلى شعب ما ويشرح 'حسن حنفي' هذا الموضوع قائلاً: "لذلك أتأسف كل التأسف لغياب هذا الطابع الوطني من معظم دراسات معاصرينا في التراث وكأنهم لا يعيشون عصرهم أو أي عصر بالمرّة. وربما يرجع ذلك إلى أن الدافع على التأليف هو الكتاب الجامعي المقرر أو على أكثر تقدير الحصول على درجة علمية دون الالتزام بأي هدف أو مجرد الشهرة والتشرف بقضية يتاجر بها المشاهير على صفحات الجرائد بغية التصدر والزعامة، وهم أقرب الناس إلى الارتزاق والعهر الفكري."[41] فتجديد التراث ليس مطلوباً لذاته بل هو أداة للبحث عن العصر وروحه والسعي إلى تطويرها من خلال دراسة البعد الاجتماعي فيه فهو جزء من علم الاجتماع الديني أو علم الاجتماعي الحضاري. وتجديد التراث لا يبحث في نشأة التراث، "والمجدد هنا كعالم الحديث مهمته البحث عن صحة الحديث في التاريخ وليس عن مصدر الحديث في النبوة وصدقها."[42] وإذا كان التراث قضية شخصية قومية يلتزم الباحث بالتراث بحيث يصير هو والموضوع المدروس أمرا واحدا. ولا يُنقص الالتزام هنا من موضوعية وحياد الباحث المجدد فالالتزام هو نفسه موضوع العلم وبذلك "تتكشف المشاكل القديمة في شعور الباحث المعاصر كمشاكل شخصية في حياته وحيوية ثقافته الوطنية، ويتحول التراث القديم بالفعل إلى مشكلة الثقافة الوطنية، فهو مصدر الثقافة باعتباره مخزوناً نفسياً موجّهاً لسلوك الجماهير، وهو موجّه نحو الواقع باعتباره أسسا لنظرية ممكنة للتغيير والتنمية وإذا كانت ثقافتنا الوطنية تتأرجح بين القديم والجديد، بين الماضي والحاضر، فإن تجديد التراث يعطي لثقافتنا الوطنية وحدتها الضائعة وتجانسها المفقود."[43]
والتساؤل عمّا يقدمه 'التراث والتجديد' بالنسبة للمنهج والعلم والميدان يقرّر صاحب المشروع بصعوبة تصنيف التجديد بين هذه الأطر الثلاثة، فالمنهج علم يؤسس للعلم والعلم المؤسس ميدان. فتحليل الواقع وبداخله التراث وتحليل التراث على أنه مخزون نفسي واجتماعي يهدف إلى تحليل الواقع، 'فالتراث والتجديد' "إذن يغطّي ميادين ثلاثة:
1- تحليل الموروث القديم وظروف نشأته ومعرفة مساره في الشعور الحضاري.
2- تحليل الأبنية النفسية للجماهير وإلى أي حد هي ناتجة عن الموروث القديم أو من الأوضاع الاجتماعية الحالية.
3- تحليل أبنية الواقع وإلى أي حد هي ناشئة من الواقع ذاته ودرجة تطوره أم أنّها ناشئة من الأبنية النفسية للجماهير، الناشئة بدورها عن الموروث القديم، وإن شئنا فالتراث والتجديد يودّ الانتقال من علم الاجتماع المعرفة إلى تحليل سلوك الجماهير. أي من العلوم الإنسانية إلى الثقافة الوطنية ومن الثقافة الوطنية إلى الثورة الاجتماعية والسياسية."[44]
وقضية تجديد التراث ليست جديدة، تناولها العديد من المصلحين الدينيين والمفكرين المعاصرين لكن التحليل جاء إمّا جزئياً أو للتعبير عن الأماني والنيات الحسنة وإما جاء خطابها حماسياً وإما جاء في قوالب وأُطر التراث الغربي. وتجديد التراث ليس مهمة فرد بل دور كافة المثقفين وجميع الباحثين، فجوانب التراث متعددة ومتنوعة وتحتاج إلى التخصص كل في مجاله. والنمو الحضاري لأي مجتمع كان يحصل بالإبداع الحضاري في الفن والسياسة، "أو في الروح العامة باسم 'المحافظة والتقدم'، فالنمو بطبيعته هو خروج الجديد من براعم القديم، مشكلة خطيرة إذن لو استطاع المجتمع النامي دراستها دراسة علمية لحافظ على تجانسه في الزمان، ولتأكّد من إرساء قواعد ثورية واطمأنّ إلى مسارها العلمي."[45]
4- لماذا التجديد ؟ استجابة التراث للواقع المعاصر وتطويره
يؤكد 'حسن حنفي' في أكثر من كتاب له أن الدافع إلى تجديد التراث هو "إعادة النظر في التراث الفلسفي خاصة وفي التراث كله عامة. علومه وأبنيته وحلوله واختياراته وبدائلها الممكنة هي تغير الظروف كلية من عصر إلى عصر ومن فترة إلى فترة."[46] ويعيش العالم العربي والإسلامي اليوم في أزمة متعددة الجوانب، من جوانبها أزمة الثقافة التي تعبّر عن انتقال الأمّة من مرحلة تاريخية إلى مرحلة تاريخية أخرى، "وتتكون الثقافة العربية من مكونات رئيسية ثلاثة: الموروث القديم، والوافد الحديث، والواقع المعاش... فما زال الموروث القديم يفكر فينا ولنا، وما زلنا نحن نفكر فيه و به، فـلا فرق بين التراث الحي والثـقافة المعاصرة... أما الثقافة الوافدة المعاصرة عن الغرب فهي عنصر مكون ضعيف لا يتجاوز سطح الثقافة إلى الأعماق ولا يظهر إلاّ عند النخبة... ويمثل الوافد المستقبل البعيد المحاصر، ويمثل الواقع الموروث الغائب بالرغم من التأزّم والمعاناة التي قد تصل إلى حد الكفر به، الخروج عليه أو الهرب منه. بالتالي تكون العناصر الرئيسية المكونة للثقافة العربية المعاصرة هي أيضاً عناصر تكوينية في الزمان التاريخي، الماضي والمستقبل والحاضر."[47]
تنبعث أزمة الثقافة العربية وتظهر من تكرار واجترار وترديد التراث القديم في الواقع المعاصر على الرغم من تبديل وتغير المرحلة التاريخية وتحويلها من الماضي إلى الحاضر، هذا التغير يقتضي ثقافة جديدة وإبداعاً فكرياً وحضارياً جديداً، كما يتطلب مبدعين جدد لا يجترّون إبداعات السابقين، "فإذا كانت المرحلة الأولى قد أبدعت بلا نموذج حضاري سابق باستثناء ثقافات العرب وديانتهم السابقة على الإسلام فإن الإبداع الآن ونحن على مشارف الفترة التالية لديه نموذج سابق وهو إبداع القدماء. وبالتالي يسهل الإبداع لأنه يكون إبداعاً على إبداع، وتفكيرا على تفكير وقراءة على قراءة وتأويلاً على تأويل. وقد يصعب الإبداع إذا ما تقيّد بإبداع السابقين واعتبر الإبداع ذا نمط واحد في كل العصور."[48]
كما تنبعث أزمة الثقافة العربية وتظهر ليس فقط من نقد التراث القديم بل كذلك من نقل الوافد الحديث من الغرب وهو نقل استمر لفترة تقترب من مائتي عام وخطوة النقل عن الغرب الحديث تنتج عن اعتبار الغرب مصدر التنوير الفكري والفلسفي والعلمي والسياسي. ويؤدي النقل عن الغرب "إلى اعتبار الغرب نموذج الثقافة العالمية بمقاييسها وعلومها وتصورها للعالم وقيّمها وعلى كل ثقافة تبنيها نظراً للتباين بين المستوين... إلى انتشار الثقافة الأوربية خارج حدودها الطبيعية وجعلها نقطة جذب لثقافات الأطراف التي تصبح مجرد مستقبل لهذا الإرسال المستمر الفيّاض... إلى زيادة حدّة التغريب في الثقافة العربية وخطورة الوقوع في الاغتراب الثقافي وطمس الهوية الثقافية مما يؤدي بالضرورة إلى الولاء للغرب."[49]
أما المكون الثالث للثقافة العربية والذي ارتبطت به أزمتنا هو الواقع وانعزالها عنه وإذا كانت الثقافة العربية الإسلامية القديمة هي ثقافة النص وهو المكون الأساسي فيها. نص مُعطى في أوضاع وظروف تاريخية معينة ترتبط هي الأخرى بظروف وأوضاع تاريخية سبقتها هذا النص أثّر فيها وتأثّر بها فهو لا يعبر عن الواقع الثقافي والسياسي والاجتماعي للعالم العربي والإسلامي المعاصر، والأمر نفسه بالنسبة للنص الوافد الحديث فقد تكوّن في ظروف غربية غريبة عن جسم الثقافة العربية المعاصرة. فلا الأول يعبر عن واقعنا إلا بعد تأويل ولا الثاني يعبر عن حياتنا الثقافية إلا بعد تكييف وتلفيق، و"لم تُحوّل الثقافة العربية الواقع المباشر إلى نص محكم جديد يعبر عنه و يوجهه و يؤثر فيه ... و يجد فيه نصا جديدا يعبر عنه تعبيرا محكما مباشرا فيه أحكام الخطابين الموروث والوافد وفيه مباشرة الخطاب الديني والسياسي، ولما كان الواقع هو ذاته نص مباشر، مصدر كل نص ونشأته ظل الواقع في الثقافة العربية بلا قراءة وبلا صياغة فتأزم واستعصى."[50]
يقتحم الواقع الفكر العربي المعاصر من خلال جملة من التحديات كتحدي الأرض المغصوبة في فلسطين وغيرها، وتحدي الحرية حرية الوطن وحرية المواطن ورغم تبني الليبرالية كنمط في التحديث فأزمة الحريات العامة مازالت قائمة وبحدّة. وتحدي العدالة الاجتماعية، "فنحن أمّة يُضرب بها المثل بأنها تظم أغنى أغنياء العالم وأفقر فقراء العالم. من بيننا من يموت بطنة وشبعاً، ومن بيننا من يموت جوعاً وقحطاً."[51] وتحدي التجزئة، تجزئة الأمة وتجزئة الوحدة الوطنية وتحدي التبعية في الغذاء والسلاح والثقافة والعلم، "نستهلك أكثر مما ننتج، ونأكل أكثر مما نعمل ونحارب بما لم تصنعه أيدينا."[52] وتحدي التغريب الذي أفقدنا الاستقلال الوطني وضاعت منا الهوية، فتكوّن فينا مركب النقص وتكوّن في الآخر مركب العظمة، "وما زالت سلبية الجماهير وحيادها ولا مبالاتها تمثل التحدي الرئيسي للثقافة العربية... فالموروث إن عبّر عن ما فيها فإنّه لا يحل مشاكل حاضرها. والوافد إن عبّر عن مستقبلها فإن الهوّة بينه وبينها ما زالت بعيدة... وفي التصور الموروث ما يساعد على حشد الناس وتجنيد الجماهير، فالأمّة خير أمّة أخرجت للناس كحمل الأمانة وتُبلّغ الرسالة... ويمتلئ الوافد بفلسفات تحقيق المثل الأعلى وتطبيق كلمة الله في الأرض وتجسيد الروح في التاريخ، كما أنه زاخر بفلسفات الالتزام والفعل والتقدم والمسؤولية وتحقيق رسالة الأمم الثقافية والفنيّة."[53]
أمام وضع الثقافة العربية المتأزم من خلال صلتها بالتراث القديم والوافد الحديث والمعاصر والواقع المعاش، وهو وضع صنع واقعاً أقحم نفسه في الفكر العربي والإسلامي المعاصر بواسطة جملة من التحديات التي تفرض نفسها. فأزمة الثقافة العربية بعمقها وبمخلّفاتها على الأرض والإنسان والعالم دعت المفكرين إلى البحث عن سبيل العلاج وطرق الخروج من هذه الأزمة فشهد الفكر العربي ثلاثة نماذج، نموذج تراثي ونموذج لا تراثي فالأول يجعل المجتمع يعيش على التراث فالتراث فيه هو ماضيه وحاضره ومستقبله، دينه وفنّه وفلسفته أما الثاني فيقطع صلته بالتراث ويعيش على ثقافة العصر ومنتجات الحضارة فيه، "والنموذج هو إعادة بناء التراث أو إحياء التراث أو تجديد التراث، النموذج الذي تحاول المجتمعات النامية صياغته وتبنّيه بالرغم مما هو حادث الآن من وقوع في الخطابة أو الانتقائية من الخارج. فإذا كان النمط التراثي يضحي بالتغيير الاجتماعي من أجل المحافظة على التراث وكان النمط اللاتراثي يضحي بالتراث من أجل إحداث التغيير الاجتماعي فإن تجديد التراث أو إحيائه أو إعادة بنائه طبقاً لحاجات العصر هو الذي يحفظ من التراث دوافعه على التقدم ويقضي على معوقاته وهو القادر على إحداث التغيّر الاجتماعي بطريقة أرسخ وأبقى وأحفظ له في التاريخ من الانتكاسات والردّة وحركات النكوص."[54]
وعملية إعادة بناء التراث ليست مطلوبة لذاتها، شرعيتها مستمدة من قيمة التراث ودوره، "ويظهر التراث كقيمة في المجتمعات النامية، وهي المجتمعات التراثية التي ما زالت ترى في ماضيها العريق أحد مقومات وجودها وفي جذورها التاريخية شرط تنميتها وازدهارها."[55] فالتراث العلمي المتمثل في العلوم العقلية والنقلية والعلوم النقلية والعلوم العقلية يحمل بداخله دوافع تحريك العمل السياسي والاجتماعي. ففي تراثنا ما يدعوا إلى تحرير الأرض المغصوبة، وما يدافع عن الحرية ضد القهر والجور، وما يسمح بتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين الأفراد في مواجهة التعسف وسوء توزيع الثروة ولمواجهة الفروق الكبيرة بين الفقراء والضعفاء وما يحارب التجزئة والتفكك وتحقيق الوحدة للوطن وللأمّة انطلاقاً من التوحيد وفي التراث ما يصون الهوية ويحفظها من الاغتراب لهذا ينبغي إعادة بناء التراث ليصبح حاضر الأمّة أحد حلقات وحدة تاريخها.
إن إعادة النظر في التراث أو إعادة قراءته أو إعادة بنائه كل هذا رد فعل واستجابة للأزمة الثقافية ولأزمة التغير الاجتماعي، ولفشل محاولات التغيير وارتطامها جميعاً بقضية التراث كمخزون نفسي لدى الجماهير. ومثلما نجد اتجاهات ثلاثة في مشكلة التراث والتجديد على المستوى النظري وهي اتجاه القديم واتجاه الجديد واتجاه التوفيق بين القديم والجديد نجدها ثلاثة على المستوى العملي وهي المسئولة عن أزمة التغيير الثقافي والاجتماعي.
أما الاتجاه الأول فيسعى إلى التغيير بواسطة القديم لكنه يتعثر بفعل سيادة النظرية الإلهية على الفكر النظري وأصبح التغيير المطلوب مرتبطاً بالدعوة إلى الحكم الإلهي الديني الذي ناهضته أوربا للتخلص منه إلى الحكم الديمقراطي، "وبدا أن الغاية هي الدفاع عن الله وليس التغيير الاجتماعي، وبدت الدعوة دينية متطاولة على السياسة وغير قادرة على ممارسة قضايا التغيير الاجتماعي التي تحتاج إلى علم دون دين وإلى واقعية دون إيمانية مسبقة."[56] أدى الفكر اللاهوتي الذي حلّ محل الفكر النظري العقلي إلى توقفه في مرحلة ما في الوقت الذي تطور فيه الواقع، فتأخر الفكر الإصلاحي وعجز عن تحويل الإلهيات إلى فكر نظري ثم نقل الفكر النظري إلى مستوى إيديولوجية واضحة المعالم وتستمر "هذه المحاولات لتغيير الواقع في تعثرها طالما أنه لا توجد أيديولوجية لها واضحة المعالم يجد فيها الواقع تعبيراً عن ذاته، وتجد فيها الجماهير تحقيقاً لمصالحها."[57] ولما سيطرت النظرية الإلهية على الفكر والحياة التي تقوم على التصور الهرمي للعالم من الأدنى إلى الأعلى، صنع سيطرة التصور الرأسمالي للدين والحياة وهو تصور طبقي "يضع الناس والطبقات الاجتماعية ويرتبها بين الأعلى والأدنى لا بين الأمام والخلف، هو التصور الرأسي للعالم وليس التصور الأفقي. وهو ما تابعنا فيه التراث الغربي الذي ينشر هذا النوع من الفكر الديني لأنه فيه إرساء للنظام الرأسمالي وتأسيساً له على أسس نظرية ووجدانية للشعوب المستعمَرة وللبلاد المتخلفة."[58]
يسيطر على هذا الاتجاه فكر عدائي للمحاولات التجديدية النظرية ويرميها بالإلحاد كما يرفض تغيير الأساس النظري الهرمي وتبديله بأساس آخر الأمر الذي أوضعه في التعصب بدل الوعي الفكري، "فالإيديولوجية مجموعة من الأفكار المستقاة من الواقع والتي تُنظّر الواقع، وتقبل التغيير والتعديل طبقاً لتطورات الواقع ومن ثم فهي ضد القطعية الجازمة وعلى نقيض الروح الدجماطيقية، وهنا تأتي أهمية التنوير العقلي حتى تظهر الدعوة في قالبها الفكري."[59] كما أن الجدل في الكل أو لا جدل قطعاً عند الممارسة، وتغيير الواقع بالقوة دون السعي نحو تجنيد الجماهير وبالوثوب على السلطة، والاعتماد على العمل السري المنظم والتسلح، وخلق تنظيمات جماهيرية مغلقة ومطالبة الجماهير بالولاء التام والطاعة المطلقة في غياب الحرية والديمقراطية، بالإضافة إلى سيادة التصور الجنسي والبداية بالمحرمات وبقوانين العقوبات، وتطبيق الحدود. "أما الأخطاء الناتجة عن التحليل السياسي للموقف فهي ليست أخطاء جوهرية قد يقع فيها أي تنظيم، وهي في معظمها أخطاء ناتجة عن المنظور الفكري للجماعة وعن تكوينها الفكري والديني، فهي ليست أخطاء من حيث المبدأ ولكنه فقط سوء تصرف من حيث الممارسة."[60] كل هذا أدى إلى فشل أنصار القديم في تغيير الواقع.
أما اتجاه التغيير بفعل الجديد والذي يفشل في تغيير الواقع لأسباب كثيرة. فاستعمال الصعب من اللغة واللفظ وهي لغة وألفاظ وافدة مستوردة، والتبعية لفكر الغرب والسقوط في عالمية الثقافة، ومعاداة تراث الجماهير وتعويضه بتراث منقول، وغياب التنظير المباشر للواقع أي انعدام نظرية محكمة في تفسير الواقع وعدم وجود برنامج ثوري تثويري ويشترك مع أنصار القديم في الاستيلاء على السلطة والعمل السري واستعمال العنف ضد السلطة والدعوات المعارضة، "تفتيت الوحدة الوطنية بتفضيل الصراع الطبقي على الوحدة، والوقوع في التفسير الحرفي للإيديولوجية المنقولة دون ما علم بتطوراتها وتأقلمها طبقاً لواقع العالم الثالث الذي تكون فيه الأمة أو الجماعة أو الأسرة هي الأساس الحضاري والنفسي للتغير الاجتماعي."[61] والفصل بين ما هو إيديولوجي وما هو أخلاقي الذي يؤدي إلى عزوف الجماهير عن الانتساب إلى هذا التوجه لأن الجماهير تؤمن بالقدوة الحسنة وتربط بين الحق والخير. فأنصار هذا الأسلوب وقعوا كغيرهم في أزمة هي أزمة التغير الاجتماعي.
أما الاتجاه الثالث فهو الذي يسعى إلى تغيير الواقع بواسطة القديم والجديد، بين الوافد والموروث، ويفتقر هذا الاتجاه هو الآخر إلى عوامل النجاح في قراءة الواقع وتغييره رغم محاولته تجاوز الاتجاهين من خلال اعتماده على الوافد والموروث والجمع بينهما لكنه يفتقر إلى الأساس النظري الواضح للتغيير مثل غيره كما يقوم بالتغيير الاجتماعي لصالح الطبقة المتوسطة ويعادي الاتجاه الأول والاتجاه الثاني معاً لأن كلّ واحد منهما يدعو إلى التغيير الجذري، كما ينتهي بالجماهير إلى السلبية واللامبالاة وتقوم بالترقيع والتلفيق و التغليف في عملية التغيير الاجتماعي، و"لما كانت السلطة الوطنية من أنصار التوفيق بين القديم والجديد كان التغيير يحدث من السلطة وباسمها وكأنها عملية مفروضة بالرغم من تلبيتها لحاجات الجماهير."[62]
أمام أزمة التغيير الاجتماعي والثقافي، وأمام هذه الاتجاهات الثلاثة ذات المحاولات الثلاث الفاشلة في صنع تغيير اجتماعي وثقافي داخل البلاد النامية يأتي مشروع "التراث والتجديد" بديلاً عنها وفي ذلك يقول صاحب مشروع "التراث والتجديد": "وقضية التراث والتجديد جزء من العمل الإيديولوجي للبلاد النامية، إذ أنّه عمل على الواقع، ومحاولة للتعرف على مكوناته الفكرية والنفسية والعملية، هي قضية تصفية المعوقات الفكرية للتنمية، ووضع أسس فكرية جديدة لتطوير الواقع... تتناول البحث عن الشروط الأولية للتنمية... محاولة لتحقيق متطلبات العصر للبلاد النامية في الناحية النظرية والعملية والتغلّب على مآسيه وهزائمه."[63] وأهم متطلبات البلاد النامية التحرر من الاحتلال ومن كل أشكال الاستعمار وصوره، وتحقيق التنمية الشاملة ضد التخلف بمختلف صوره وتحقيق التقدم ضد الركود والجمود بمختلف أشكاله. "مهمة التراث والتجديد حل طلاسم الماضي مرّة واحدة وإلى الأبد وفك أسرار الموروث حتى لا تعود إلى الظهور أحياناً على السطح وكثيراً من القاع. مهمته هو القضاء على معوقات التحرر واستئصالها من جذورها... التمرد من السلطة بكل أنواعها سلطة الماضي وسلطة الموروث فلا سلطان إلاّ للعقل، ولا سلطة إلا لضرورة الواقع الذي نعيش فيه... هو تفجير طاقات الإنسان المختزنة المحاصرة بين القديم والجديد كحصار الإنسان في اللاّهوت المسيحي بين آدم والمسيح، بين الخطيئة والفداء."[64]
5- مخطط مشروع "التراث والتجديد" وأقسامه
إن ما دفع الباحثين في الفكر العربي القديم والمعاصر إلى دراسة التراث وإلى التفكير في المشروع الحضاري القومي للأمة العربية والإسلامية هي الأزمة التي تتخبط فيها هذه الأمة، أزمة تتميز بالعمق والتعقيد وتزداد تفاقماً من وقت إلى آخر في وقت يزداد فيه الغرب المتقدم ازدهاراً. وأمتنا تراثية تاريخية، لا يمكنها أن تعيش خارج موروثها الثقافي والحضاري كما لا يمكنها أن تنعزل عما يجري في عصرها وهو عصر كله تحديات حضارية. وأمام أزمة الثورة والتغيير الاجتماعي وأزمة البحث العلمي وهي أزمة التراث والتجديد ينطلق 'حسن حنفي' وهو واحد من المفكرين المعاصرين في بناء مشروع فكري نظري حضاري قومي يكون عند صاحبه خطة عمل نظرية للخروج من التخلف وتجاوز الأزمة التي تعيشها الشعوب العربية والإسلامية في واقعها المعاصر.
انطلقت عملية التفكير في المشروع وبنائه وتدوينه في ظروف عصيبة وأوضاع صعبة تميزت بغياب القيم وغياب محددات وموجهات الفكر والعمل وضياع الذات العربية الإسلامية، بين ذوات كثيرة و مختلفة و تغربت في الآخر، وغاب لديها الفكر و النظر ، انطلق المشروع ليربط بين الحاضر والماضي، ويؤصل الحاضر في الماضي ويبعث التراث ويجده في الحاضر ليصبح قوة ومناعة في بناء الحاضر، على أساس أن الثقافة القائمة خارج الحياة والعصر لا معنى لها ولا جدوى منها، والفاقدة للبعد التاريخي وللارتباط بشعور ووجدان الأمة لا قيمة لها، وهذا ينطبق على المشروع وعلى الثقافة التي يدعو إليها. فالأمة التي تحيا حاضرها وعصرها بما فيه وتؤصل ما تملكه من خصوصية تراثية وتاريخية في عصرها وحاضرها متطلعة باستمرار إلى مستقبل مشرق مبني على رؤية محكمة يقوم عليها مشروع حضاري محدد الأبعاد والجبهات تكون أمة ذات وعي حضاري تاريخي قادرة على النهوض والاستمرارية في التقدم وهو الأمر ذاته الذي عرفته الأمم السابقة التي تحضرت أو الأمم المتحضرة حديثاً ومعاصراً.
ومشروع 'التراث والتجديد'من خلال جبهاته والموقف الحضاري الذي يتضمنه وخصائصه يظهر أنه لا يخص المفكر أو المثقف العربي الذي يعيش في البلاد العربية بمفرده ولا يخص الثقافة العربية الإسلامية وحدها فهو مشروع واقع ككل، واقع فيه أزمة التخلف الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي وحتى النفسي، فهو مشروع يريد به صاحبه تحرير الإنسان بشكل عام والإنسان العربي من التخلف وإعادة تشكيل عقله وفكره ووجدانه وتحريره من كل أشكال الاغتراب التي تحاصر وجوده من كل جهة وجانب، وتحرير الثقافة بشكل عام والثقافة العربية الإسلامية لدى الشعوب المتخلفة من أزمتها وجذور الأزمة الداخلية والخارجية، لذا الهدف الأكبر لهذا المشروع هو التحرر، تحرر الذات من ظاهرة الاغتراب الحضاري بنوعيه الداخلي والخارجي أي ترتيب البيت الداخلي وانطلاق معركة البناء الحضاري.
يقول 'حسن حنفي': يتكوّن"مشروع 'التراث والتجديد' من جبهات ثلاثة: موقفنا من التراث القديم، موقفنا من التراث الغربي، موقفنا من الواقع (نظرية التفسير). ولكل جبهة يبان نظري."[65] والبيان النظري لكل جبهة من الجبهات الثلاث موجود في كتاب 'التراث والتجديد' الذي يمثل البيان النظري للمشروع برمته، جبهات وأقسام كل جبهة، وأجزاء كل قسم. فالجبهة الأولى هي جبهة الموروث القديم و الموقف الحضاري منه تقوم على دراسة و نقد التراث و نقله إلى حاضر الأمة و إلى عصرها ليصبح عنصر قوة وعامل تجديد وبناء وازدهار في جميع المستويات الحياتية لأنه لازال وبقوة مخزونا نفسياً في نفوس أبناء الأمة العربية والإسلامية وتحويله إلى طاقات وشحنات البناء الحضاري أمر ممكن. أما الجبهة الثانية فهي جبهة الآخر أو الغرب الأوربي المتقدم والموقف الحضاري منه من خلال قراءة الآخر ونقده في إطار جدل الأنا والآخر هذا الجدل المبني على المركز والأطراف كظاهرة فكرية وعلى مركب العظمة عند الآخر ومركب النقص عند غيره كظاهرة سلبية وغير إنسانية، رؤى وأفكار تأسست بفعل الاستشراق وبفعل الأغراض التي تخدمها، والموقف الحضاري ببعده المستقبلي في هذه الجبهة يتوقف على 'علم الاستغراب' وهو العلم الجديد الذي ينشأ في مقابل الاستشراق ويؤدي لا محالة إلى "انتهاء 'الاستشراق' ويحوّل حضارات الشرق من موضوع إلى ذات، ومن أحجار إلى شعوب، وتصحيح الأحكام التي ألقاها الوعي الأوربي وهو في عنفوان يقظته على حضارات الشرق وهي في عمق نومها وخمولها."[66]
والجبهة الثالثة والأخيرة هي جبهة الواقع، والموقف الحضاري منها في المشروع الحضاري ككل يتمثل في إيجاد نظرية في تفسير الواقع تعتمد على منهج تحليل الخبرات تدرس الأنا و الآخر، الموروث والوافد لا على أساس التبرير والرفض أو الانعزال كما فعلت وتفعل الاتجاهات الفكرية والمشاريع الحضارية القائمة بل على أساس التنظير المباشر للواقع والتعامل مع تحدياته ومتطلباته في جميع جوانب الحياة لدى الفرد والمجتمع والأمة وحتى الإنسانية جمعاء. والجبهات الثلاث والموقف الحضاري المطلوب في كل منها ذات أبعاد زمانية الجبهة الأولى، جبهة التراث وزمانها الماضي والجبهة الثانية جبهة الآخر أو الغربي الأوربي وثقافة الوافد القديم والحديث، وزمانها المستقبل، أما جبهة الواقع وتحدياته ومتطلباته فزمانها الحاضر. و'التراث والتجديد' هو العنوان العام للمشروع كله الذي يتكون من ثلاث جبهات وثلاثة مواقف وثلاثة أبعاد زمانية فهو مشروع غزير وضخم، كثير الأجزاء والفصول والأبواب من يشتغل به يشتغل على أكثر من مستوى وعلى أكثر من وجهة نظر وعلى أكثر من عصر، وعلى أكثر من جبهة، يتناول عوالم ثقافية متعددة ومتباينة وينظر في تجارب إنسانية مختلفة فهو ترسانة معرفية وثقافية يحشدها في وجه قرائه بتعبير أحد النقاد.
ويرى 'حسن حنفي' أن الجبهات الثلاث تشير "إلى جدل الأنا والآخر واقع تاريخي محدد. فالجبهة الأولى 'موقفنا من التراث القديم' تضع الأنا تاريخها الماضي وموروثها الثقافي. والجبهة الثانية 'موقفنا من التراث الغربي' تضع الأنا في مواجهة الآخر المعاصر وهو الوافد الغربي الثقافي أساساً، والجبهة الثالثة 'موقفنا من الواقع(نظرية التفسير) "فإنها تضع الأنا في نظم واقعنا المباشر تحاول تنظيره تنظيراً مباشراً فتجد النص جزءاً من مكوناته سواء كان نصا دينياً مدوناً من الكتب المقدسة أو نصاً شعبياً شفهيا من الحكم والأمثال العامية، الجبهتان الأوليتان حضاريتان نصيتان بينما الجبهة الثالثة واقع مباشر. ويمكن رؤية الجبهات الثلاثة وكأنها أضلاع مثلث والأنا في وسطها. الأول للتراث القديم، (الماضي) والثاني للتراث الغربي، (المستقبل)، والثالث للواقع المباشر (الحاضر) على النحو التالي:
الأنا
فإذا كانت الجبهة الأولى تتعامل مع الموروث فإن الجبهة الثانية تتعامل مع الوافد. وكلاهما يصبان في الواقع الذي نعيش فيه."[67] وتتطابق الجبهات الثلاثة كما رأينا سابقاً مع أبعاد الزمان الثلاثة، الجبهة الأولى مع الماضي والجبهة الثانية مع المستقبل والجبهة الثالثة مع الحاضر. ويردّ صاحب المشروع الجبهات الثلاثة إلى اثنتين هما النقل والإبداع الزمان الماضي والمستقبل والمكان هو الحاضر أي الفكر والواقع، الحضارة والتاريخ، الأولى والثانية تراثيتان والتحدي أمامهما غياب طرف الواقع والإبداع، فالنقل موجود من التراث والوافد أما الإبداع غائب في الواقع. كما ترتبط الجبهات فيما بينها فإعادة بناء التراث القديم والوافد يعمل على إيقاف التغريب "في الواقع المباشر الذي يُعاد فيه بناء التراثين القديم والغربي معاً فإن أخذ موقف نقدي منهما يساعد على إبراز الواقع ذاته وفرض متطلباته على قراءة التراثين معاً."[68] وبهذا تتداخل وتتكامل الجبهات الثلاث والمواقف الثلاث وأبعاد الزمان الثلاثة من خلال نظرية في التفسير محكمة جريئة وقابلة للتنفيذ.
ومشروع 'التراث والتجديد' بجبهاته الثلاث مشروع قومي حضاري لا يعالج مناهج البحث في الموروث القديم أو في الوافد أو في الواقع المعيش فحسب بل مسؤوليته فردية ووطنية وقومية وحتى أممية، "فالمعركة الحقيقية الآن معركة فكرية وحضارية ولا تقلّ أهمية عن المعركة الاقتصادية أو المعركة المسلحة، إن لم تكن أساسها. وإن الهزيمة المعاصرة هي في جوهرها هزيمة عقلية كما أنها هزيمة عسكرية. وإن الخطر المداهم الآن ليس هو فقط ضياع الأرض بل قتل الروح وإماتتها إلى الأبد وانجرارنا إلى نقد الأصالة في تراثنا القديم ونقد المعاصرة التي حوّلها تراثنا القديم مع الثقافات المعاصرة له. 'التراث والتجديد' هو مشروع الأصالة والمعاصرة التي لم نستطع أن نحققها حتى الآن، وبعد توالي الهزائم، ولم نكن نلمسها إلا دعاية أو ادّعاء. ويشمل 'التراث والتجديد' ثلاثة أقسام، تعبر عن موقفنا الحضاري الحالي الذي يحدد اتجاهات الدراسة والبحث."[69]
الأقسام الثلاثة التي يتكون منها مشروع 'التراث والتجديد' والتي تمثل الجبهات الثلاث، موقفنا من التراث القديم، وموقفنا من التراث الغربي، موقفنا من الواقع أو نظرية التفسير، كل قسم منها له أجزاء يكون "على النحو الآتي:
التراث والتجديد
أ)- موقفنا من التراث القديم
1- من العقيدة إلى الثورة.
2- من النقل إلى الإبداع.
3- من الفناء إلى البقاء.
4- من النص إلى الواقع.
5- من النقل إلى العقل.
6- العقل والطبيعة.
7- الإنسان والتاريخ.
ب)- موقفنا من التراث الغربي.
1- مصادر الوعي الأوربي.
2- بداية الوعي الأوربي.
3- نهاية الوعي الأوربي.
ج)- موقفنا من الواقع.
1- المناهج.
2-العهد الجديد.
3-العهد القديم.
القسم الأول تمثله الجبهة الأولى ويمثله موقفنا من التراث القديم يهدف أساساً إلى إعادة بناء العلوم التقليدية النقلية العقلية ابتداء من الحضارة ذاتها من خلال الدخول في بنائها والعودة إلى أصولها لإبراز نشأتها وبيان تطورها بالنسبة لكل علم أو بالنسبة لجميع العلوم، يتشكل هذا القسم من سبعة أجزاء كل جزء يخص علم أو مجموعة من العلوم، فالأول يخص علم أصول الدين ويسمى علم الإنسان وهو محاولة لإعادة بناء أصول الدين من خلال شعار وعنوان هذا الجزء 'من العقيدة إلى الثورة'. والثاني يخص الفلسفة أو علوم الحكمة ويسمى فلسفة الحضارة وهو محاولة لإعادة بناء الفلسفة وعلومها الإلهيات والطبيعيات والمنطق من خلال شعار أو عنوان هذا العلم 'من النقل إلى الإبداع'. والثالث يخص التصوف ويسمي المنهج الصوفي وهو محاولة لإعادة بناء علوم التصوف التي شهدها تراثنا من خلال شعار أو عنوان لهذا العلم 'من الفناء إلى البقاء'. والرابع يخص علم أصول الفقه ويسمى المنهج الأصولي وهو محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه من خلال شعار أو عنوان هذا العلم 'من النص إلى الواقع'. والخامس يخص العلوم النقلية البحتة الخمسة (علوم القرآن، علوم التفسير، علوم الحديث، علوم السيرة، وعلوم الفقه) وشعار ذلك وعنوانه 'من النقل إلى العقل'. أما الجزء السادس فيخص العلوم العقلية الرياضية والطبيعية وهو محاولة لإعادة بناء هذه العلوم وشعار ذلك وعنوانه 'الوحي والعقل والطبيعة'. أما الجزء السابع والأخير فيخص العلوم الإنسانية الاجتماعية واللغوية والتاريخية وغيرها وهو محاولة لإعادة بناء العلوم الإنسانية بمختلف فروعها وشعار ذلك وعنوانه 'الإنسان والتاريخ'.
القسم الثاني تمثله الجبهة الثانية ويمثله موقفنا من التراث الغربي يهدف أساساً إلى إعادة بناء حضارة إسلامية جديدة بالإضافة إلى الحضارة الإسلامية القديمة الموروثة، وتحديد الموقف من التراث الغربي أو الوافد جزء من حركة التاريخ وتطور الحضارة واستمرار لما بدأناه في العصر القديم وهو تحليل الواقع المعاصر الذي أصبح التراث الغربي جزءا منه خاصة لما أصبح العالم العربي والإسلامي منذ القرن التاسع عشر في مواجهة مفتوحة مع التراث الغربي والحال صار أسوء لما تحوّل الوفود إلى غزو، والتقليد إلى تغريب وتغرّب. والموقف من التراث الغربي واجب قومي ووطني لتأصيل الموقف الحضاري، وهو معركة مع الوافد في مواجهة الاستعمار الثقافي وإيقاف التغريب مهمة شرف، شرف الأنا لإظهار حدود الثقافة الغربية وبيان "محليتها بعد أن ادّعت العالمية والشمول وإخراج أوربا من مركز الثقل الثقافي العالمي وردها إلى حجمها الثقافي الطبيعي في الثقافة العالمية الشاملة."[70] كما يهدف هذا القسم إلى عرض الحضارة الإسلامية انطلاقاً من حضارة أخرى إما نقداً أو تأكيد ذلك لوجود تقاطع بين علوم الحضارة الإسلامية وعلوم أخرى في حضارات أخرى في النشأة والتكوين والأهداف. والبحث مرتبط ليس فقط بحضارة الباحث بل بحضارات أخرى متاخمة له الأمر الذي يجعل الباحث ينقد فكر الآخر بلغة حضارته القديمة أو يعبر عن فكره بلغة حضارة أخرى. فالبدء دوما من حضارة ما حضارة الأنا أو حضارة الآخر. ويشمل القسم الثاني ثلاثة أجزاء، الجزء الأول والثاني كل منهما موزع على جزأين فالجزء الأول يخص مصادر الوعي الأوربي بالنسبة لعصر أباء الكنيسة وهو محاولة لدراسة نشأة الفكر الغربي في الفترة من القرن الأول حتى القرن السابع أي عند أباء الكنيسة اليونان ثم الرومان. وبالنسبة للعصر المدرسي الذي يمثل تاريخ الفكر الغربي في مرحلة العصر الوسيط المتأخر وهي فترة تواكب ازدهار الحضارة الإسلامية وبلوغها أوجها. الجزء الثاني يخص بداية الوعي الأوربي بالنسبة لمرحلة الإصلاح الديني وعصر النهاية وفي محاولة لدراسة تاريخ الفكر الأوربي خلال الإصلاح الديني والنهضة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر وهي فترة رفض سلطة القديم وبداية التنوير. كما يخص هذا الجزء كذلك العصر الحديث وهي محاولة لدراسة بداية تاريخ الشعور الأوربي في القرنين السابع عشر والثامن عشر وبداية القطيعة بين القديم والجديد، بين الفكر في مستواه الصوري وفي مستواه المادي. أما الجزء الثالث في القسم الثاني يخص نهاية الوعي الأوربي بالنسبة للعصر الحاضر وهو محاولة لدراسة تاريخ الشعور الأوربي في لحظته الأخيرة في القرن التاسع عشر والقرن العشرين حيث يحاول الفكر أن يجمع بين الاتجاهين المثالي والمادي فأفقد الشعور توازنه "في رؤية الظواهر حتى أتت الفينومينولوجيا فاكتملت المثالية الأوربية وعاد الخطاّن المنفرجان إلى الشعور من جديد. وتحول الموضوع إلى الذات حتى قضى نهائياً على الصورية والمادية... فإذا كان القسم الأول من 'التراث والتجديد' وهو 'موقفنا من التراث القديم'، قد أغلق بداية شعور العالم الثالث كطليعة للتاريخ فإن القسم الثاني 'موقفنا من التراث الغربي' يعلن عن نهاية الشعور الأوربي، وتخلّيه عن دور القيادة للتاريخ البشري."[71]
القسم الثالث تمثله الجبهة الثالثة ويمثله موقفنا من الواقع أو 'نظرية التفسير'. الهدف منه إعادة بناء الحضارتين حضارة الموروث وحضارة الوافد معاً والبداية من جديد ابتداء من أصولها الأولى في الوحي أي في الكتب المقدسة، الغاية من هذا القسم هو تحويل الوحي إلى علم إنساني شامل وهذا لا يتم إلا عن طريق نظرية في التفسير تكون منطلقاً للوحي، كل أفكار الإنسان تخضع لنظرية في التفسير، تفسير النص أو تفسير الواقع، الأبنية الخاطئة في العلوم التقليدية، أو في المذاهب الغربية تعود إلى أخطاء في نظرية التفسير ونظرية التفسير بواسطتها تتم إعادة بناء العلوم التي تُحوّل طاقة الوحي إلى الإنسان وتصبها في الواقع، عرض التراث لا كحضارة لها زمان ومكان لكن باعتبارها فكراً حرّا مستقلاً نابعاً من الوحي ومؤسساً في العقل ومبنياً في الواقع. ويشمل القسم الثالث قسم 'مواقفنا من الواقع' ثلاثة أجزاء. الجزء الأول يخص منهاج الموقف وهو عبارة عن محاولة لتجاوز مناهج التفسير التي شهدها التراث القديم الكلامية والفلسفية والفقهية والصوفية وتراوحها بين نفسية أو عقلية أو واقعية أو وجدانية ثم وضع نظرية للتفسير تكون جامعة لها كلها. والبحث عن منهاج هو غاية 'التراث والتجديد' محاولة للعثور على منهاج إسلامي عام شامل لحياة الفرد والجماعة ووصف الإنسان في الوعي في علاقته بقواه النظرية والعملية، المادية والروحية، وفي علاقته بالآخرين ومع الأشياء ويكون هذا المنهاج بمثابة الإيديولوجية التي يمكنها تنظير الواقع وهي الحقيقة التي بحث عنها الجميع في تراثنا الإسلامي القديم وفي التراث الغربي الحديث، ويقول 'حسن حنفي' في هذا الجزء: "وهو في الحقيقة حدسنا الأول الذي حدث لنا في مقتبل حياتنا الفلسفية والذي ظل موجهاً لنا في كل كتاباتنا. وسيتم إخراجه ابتداء من نصوص الوحي ذاتها بلا حاجة إلى تراث ويكون هذا هو جزء الوداع."[72] والجزء الثاني هو العهد الجديد وهو عبارة عن محاولة لتحقيق صحة الوعي في التاريخ ابتداء من مراحل الوحي السابقة حتى المرحلة الأخيرة بالنسبة للتوراة والإنجيل من خلال فهم النصوص وسلوك أهل الكتاب باستعمال مناهج النقل التاريخي الشفهي والكتابي والتعرف على الكتب الدينية المقدسة فهما وتمحيصاً وسلوكاً. "و في هذا الجزء تتم مراجعة العهد الجديد نشأة وتكويناً والتمييز بين أقوال المسيح وأقوال الحواريين والفصل بين الكتاب المقدس والتراث الكنسي. وهو نواة التراث الغربي، فالتراث الغربي كله ما هو إلا رد فعل هذه النواة الأولى."[73] أما الجزء الأخير الذي تشمله الجبهة الثالثة فيخص العهد القديم ويعتني بتحليل الكتاب المقدس لدى اليهود والتمييز بينه وبين كتب التوراة وكتب التاريخ وكتب الملوك وكتب القضاة وكتب الأنبياء وكتب الحكمة، دراسة تطور العقائد عند بني إسرائيل لمواجهة أهل الكتاب لأن تطور العقائد لدى بني إسرائيل غير مستقل "عن تاريخهم القومي: عصر البطاركة، عصر الأنبياء، عصر التدوين، والعصر الوسيط والعصر الحديث، وقد كانت هذه سنّة علمائنا القدماء في التعرض إلى نقد الكتب المقدسة. وما زال المطلب قائماً. فنحن ما زلنا في مواجهة أهل الكتاب بمواجهتنا لمخاطر الاستعمار والصهيونية."[74]
لقد أنجز 'حسن حنفي' من مشروعه 'التراث والتجديد' البيان النظري للمشروع في كتابه 'التراث والتجديد' كما أنجز وينجز الجزء الأول في الجبهة الأولى، 'من العقيدة إلى الثورة' و'من النقل إلى الإبداع' و'من لنص إلى الواقع' ومن 'الفناء إلى البقاء' يصدر قريباً، كما أنجز البيان النظري للجبهة الثانية، والمشروع ككل أجزاؤه في طور الإنجاز لكن هذا الإنجاز لم يحترم الترتيب الذي وصفه صاحب المشروع فقبل إنهاء القسم الأول يقفز وينجز البيان النظري للقسم الثاني وربما يمثل القسم الثاني ككل. ذلك لاتساع المشروع وكبر حجمه وتركيبه الموسوعي. "وقصر العمر يشكل هاجساً لدى 'حسن حنفي' يهجس به منذ بدأ التفكير بمشروع 'التراث والتجديد' قبل ربع قرن، خصوصاً بعد أن بدأ تنفيذه. وقد قوي هذا الهاجس مع تقدمه في السن وإحساسه بأنه لن يف بما وعد به والأرجح أنه سيجد نفسه مضطرا إلى الاشتغال على الجبهات الثلاث واختصار المشروع أجزاءً وفصولاً."[75]
6- سمات الفلسفة والمشروع
تميّزت فلسفة 'حسن حنفي' وتميّز مشروعه الحضاري 'التراث والتجديد' بمجموعة من الخصائص، ارتبطت هذه الخصائص بالظروف الفكرية والثقافية التي تبلورت فيها ملامح مشروعه ومعالم فلسفته، وهي ظروف ارتبطت بماضي الأمة التي يرتبط بها صاحب المشروع تاريخياً وفكريا وحضارياً فهي أمة تراثية تاريخية، وارتبطت بثقافة غربية أوربية اطّلع عليها المفكر واستفاد منها في دراساته وأبحاثه كما شرح وترجم ودرس بعض الجوانب فيها، كما ارتبطت بواقع أمته المعاصر وتحدياته ومشكلاته ومتطلباته، فجاءت فلسفته وجاء مشروعه يحمل خصائص أملتها ظروف المرحلة التاريخية المعاصرة الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية، وأفرزتها ثقافة المفكر الواسعة والمتنوعة حول التراث والوافد ومعرفته بالواقع وأزمته وتحكّمه في عدة لغات. هذه السمات هي على النحو الآتي:
أ- التراثية: اشتغل صاحب مشروع 'التراث والتجديد' من بداية تعاطيه مع الفلسفة على التراث، ورسالته الأولى في 'مناهج التفسير' جاءت في أصول الفقه، تحمل بوادر محاولة لقراءة أصول الفقه وإعادة بنائه وفق ما يقتضيه العصر وبأدوات مفاهيمية ومنهجية معاصرة وهي تعد مغامرة آنذاك. بعد ذلك تبلور المشروع واتضحت معالم فلسفته وصار التراث الميدان الأكبر الذي يشتغل عليه المفكر في فلسفته وفي مشروعه، فهو الجبهة الأولى والموقف الحضاري في جزئه الأول والأكبر هو 'موقفنا من التراث القديم'، والتراث في المشروع مسؤولية شخصية وقومية وأُممية في إطاره الحضاري التاريخي، فلا سبيل إلى التخلص من الأزمة التي يعيشها العالم العربي والإسلامي في غياب قراءة التراث وإعادة بنائه وفق مقتضيات الواقع المعاصر، لأن شعوب العالم العربي المعاصر تعيش على التراث وهو مخزون نفسي حالّ في نفوس أبنائها يؤثر فيهم شعوريا ولا شعوريا، وأيّة محاولة لتجاوز الأزمة خارج التراث ومن دونه هي ضرب من الوهم ونهايتها الفشل، والأمر يختلف عما حدث في الغرب الأوربي، حيث قامت النهضة الأوربية الحديثة بعدما تعرّضت كل جوانب التراث للنقد والهدم، لأن الموروث التاريخي الغربي آنذاك ارتبط بجوانب مظلمة فكرياً وسياسياً واجتماعياً و دينياً، يجب أن تسقط وتقوم مذاهب وأفكار ومعارف مشرقة تنويرية كانت هي بدايات النهضة الأوربية والحضارة الحديثة و المعاصرة.أما التراث عندنا فيمثل جوانب مشرقة في الثقافة العربية الإسلامية وهو صورة ومادة الحضارة الإسلامية الزاهية التي بلغت قوة أوجها وعزّتها. والتراث في فكر 'حسن حنفي' يمثل الجبهة الأولى وهي "أضخم وأكثر تفصيلاً لأنها أعمق في التاريخ إذ أنها تمتد إلى ما يزيد على الألف وأربعمائة عام. وهي الأكثر حضوراً في وعينا القومي وتاريخنا الثقافي."[76] فالتراث في الفلسفة و في المشروع منطلق وموضوع بحث ودراسة وهدف التجديد في واقع يتعاطى مع الموروث والوافد، وهو في أمسّ الحاجة إلى التغيير والتجديد ليساهم بدوافع وشروط لإبداع التي يتضمنها في داخله في تغيير العصر وفق مستجدّاته ومقتضياته الراهنة.
ب- التجديدية: إذا كان التراث منطلقاً وموضوع دراسة وهدف فإن التجديد في فلسفة 'التراث والتجديد' يمثل الوسيلة الرئيسية، والأداة التي بدونها لا تحصل عملية التغيير فكرياً واجتماعياً و حضاريا و تاريخياً. فالأزمة أزمة تغيير أوضاع اجتماعية وقبلها فكرية وثقافية، وأزمة بحث علمي ومشكلة منهج في التغيير، تغيير الذهنيات وتغيير العادات والتقاليد وتغيير مناهج البحث والدراسة فالقضية تجديد والمشكلة ليست مشكلة تراث ذاته بل مشكلة تجديد التراث، فلا سبيل لحل أزمة التغيير الاجتماعي وأزمة المناهج في الدراسات الإسلامية وهي أزمة البحث العلمي إلا بواسطة التجديد، تجديد اللغة ومنطقها، وتجديد مستويات التحليل وتجديد البيئة الثقافية، وفشل المحاولات المتكررة لحل مشكلة التراث والتجديد يعود أساساً إلى ارتباط تلك المحاولات بحلول مستوردة لأزمة خاصة لها ظروفها وأوضاعها تختلف عن الأوضاع والظروف التي وجدت فيها تلك الحلول، أو الاكتفاء بحلول ذاتية موروثة من القديم ولم تعد تلك الحلول تناسب مشكلات العصر الذي تختلف ظروفه عن الظروف التي نشأ فيها التراث. فالحاجة ملحّة إلى التجديد وهو في مشروع "التراث والتجديد" يمثل كافة المحاولات لإعادة بناء العلوم التراثية بمختلف فروعها وهو ضروري في التعاطي مع الجبهة الثانية واتخاذ موقف حضاري من الغرب وثقافته خاصة إذا كان التجديد في الغرب واقعة تحصل يومياً وباستمرار وهي ميزة العصر وحضارته التي بلغت ذروتها في التقدم والازدهار على المستوى النظري والعملي معاً، والتجديد ضرورة ملحّة في التعاطي مع الجبهة الثالثة واتخاذ موقف حضاري من الواقع الذي صار يتحدد بفعل الوافد المحلي الذاتي. "فالتراث والتجديد هو القادر على التنظير المباشر لأنه يمدّ الواقع بنظريته في التفسير وقادر على تغييره، فالتراث هو نظرية الواقع، والتجديد هو إعادة فهم التراث حتى يمكن رؤية الواقع ومكوناته."[77] والتراث والتجديد عند 'حسن حنفي' "يؤسسان معاً علماً جديداً وهو وصف للحاضر وكأنه ماض يتحرك، ووصف للماضي على أنه حاضر معاش في بيئة كتلك التي نعيشها حيث الحضارة فيها مازالت قيمة، وحيث الموروث ما زال مقبولاً."[78]
ت- النقدية: يمثل النقد في فلسفة 'حسن حنفي' الوسيلة لقراءة التراث والوافد والواقع من خلال جبهات المشروع الثلاث، والموقف الحضاري المطلوب في كل منها، الموقف من التراث يقوم على قراءة التراث ونقده ونقد قراءات المتعاملين معه من دعاة التواصل أو أنصار الانقطاع أو أصحاب الانتقاء. فالدعوة الأولى ذات الإصلاح الديني تأخذ التراث برمته بلا تفحيص أو تمحيص فتصطدم بالواقع المعارض لها فكرياً ودينياً وسياسياً وحتى عسكرياً. أما دعوة الانقطاع فهي الدعوة إلى أخذ ما ليس لها وترك ما لها فيقضي ذلك على الإبداع الذاتي من أجل التقليد الخارجي، "ويُعطي الأنا أقل مما تستحق، ويُعطي الآخر أكثر مما يستحق. يرفض تقليد القدماء ويقع في تقليد المحدثين أما الموقف الثالث وهو موقف الانتقاء ... قد يقضي هذا الاختيار على تاريخية التراث القديم وبفصل أجزائه عن الكل الذي نشأ فيه ... لذلك قد تكون الضرورة ملحّة إلى موقف رابع من التراث القديم يتجاوز المواقف الثلاثة السابقة: التواصل والانقطاع والانتقاء إلى إعادة البناء."[79] ويمارس النقد في الجبهة الثانية بل يبني العلم الجديد "علم الاستغراب" على أساس نقد الثقافة الغربية ونقد المتعاملين معها دراسة وتأثرا من خلال نزعات التواصل والانقطاع والانتقاء، "علم الاستغراب" بديل طبيعي يقوم على النقد والتأسيس، والنقد هنا لا لأجل النقد فحسب بل لرد الآخر إلى مكانه الطبيعي وتحجيمه بعد تضخمه وامتداده واسترجاع الأنا لمكانه الطبيعي داخل المسار الحضاري التاريخي، ويعتمد على النقد في بناء الموقف الحضاري من الواقع أو في نظرية التفسير باعتبارها بديلاً عن موقف الرفض وموقف التبرير وموقف الانعزال وهي "لا تؤدي إلى تغيير الواقع أو حتى إلى فهمه بل تدل على عدم نضج في التعامل معه."[80] وبالتالي ضرورة وجود موقف يقوم على التنظير المباشر للواقع. ويمارس المفكر النقد في فلسفته بشكل عام فينقد الفكر المعاصر والتراث القديم والتراث الغربي، كما ينقد الأوضاع الاجتماعية والسياسية في العالم العربي خاصة الأنظمة السياسية الجائرة في البلدان العربية وبلدان العالم الثالث المتخلّفة أو في البلدان الكبرى التي تفرض هيمنتها على غيرها وتستغلّ ثرواته، كما ينقد أوضاع المرأة والتعليم والاقتصاد والإعلام وغيرها، فميزة الفكر والفلسفة عند 'حسن حنفي' وفي مشروعه 'التراث والتجديد' النقدية بل الثورية والتثويرية.
ث- الثورة والتثوير: تتميز فلسفة 'حسن حنفي' ويتميز مشروعه 'التراث والتجديد' بالطابع الثوري، فهما ثورة في وجه الأوضاع الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية التي يعيشها العالم العربي والإسلامي المعاصر، أوضاع يسودها الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي والضعف الفكري والثقافي والتخلف الاقتصادي في الداخل وتبعية وتغريب وضياع للهوية وسقوط الضحية بين أيدي الآخر صاحب العظمة والنفوذ الحضاري في الخارج كل هذا يمثل مواطن نقد وتمحيص وتفحيص في فلسفة مشروع 'التراث والتجديد'، ورسالة المفكر ليس تبخير الواقع أو تسكينه والإبقاء عليه كما هو أو تغيير أو تبديل أو إشباع حاجاته بعد تسكينه أو تبرير الوضع القائم، بل رسالته تكمن في "البحث عن معوقات تقدمه، وعن أسباب سكونه إن كان ساكناً، رسالة الفكر دفع الواقع وتطويره بل وتفجيره.ففي لحظات التحوّل الحاسمة في التاريخ يتفجر الواقع، وتحدث الثورات، يتحرك فجأة وبعنف وينتهي دور المفكرين المهبطين وحفظة النظام."[81] ففكر المفكر شهادة على عصره واستشهاد للمفكر في سبيل رسالته ودوره في التاريخ، "فوجود المفكر في حدّ ذاته في العصر شهادة، والمفكرون شهداء الحق أي هم الذي يشهدون على عصرهم، وهم قد يلقون الشهادة أي الاستشهاد جزءاً من شهادتهم. المفكرون في العصر هم الشهداء. لذلك كان سقراط شاهداً على عصره وشهيداً له."[82] ومشروع 'التراث والتجديد' إذا كان ثورة في وجه كل ما هو قائم لا يحلّ الأزمة بل يزيدها تفاقماً في استخدام التراث أو في جدل الأنا والآخر أو في التعاطي مع الواقع فهو مشروع تثويري. يقوم بتثوير التراث وتثوير العلوم التراثية المختلفة من خلال إعادة بناء كل فرع منها، فعنوان محاولة إعادة بناء أصول الدين 'من العقيدة إلى الثورة' يدلّ على تثوير علم الكلام ليتحول من نظرية في العقيدة إلى نظرية في السلوك بل إلى علم الإنسان يرتبط بالواقع لغيّره ويبنيه تحقيقاً لمصلحة الإنسان في الدنيا، وهكذا مع علوم الحكمة وأصول الفقه والتصوف وغيرها. و"علم الاستغراب" ثورة في وجه التغريب وفي وجه الاستشراق الذي جعل الآخر يزداد تضخماً وامتداداً لأنه المركز في الوقت الذي ازداد فيه الأنا تقزماً وانحطاطا و تراجعاً باعتباره طرفا من الأطراف. ونظرية التفسير ما هي إلا ثورة في وجه نظريات التفسير الكلاسيكية من جهة وفي وجه نظريات التفسير الوافدة وتلك أشباه نظريات التفسير الحالية، فالثورة والتثوير من صميم مشروع "التراث والتجديد" و من وسائله محتوياته و أهدافه الكبرى.
ج- المنهجية: يتميز مشروع 'التراث والتجديد' في جبهاته الثلاث باعتماده على عدة مناهج في قراءة التراث وإعادة بنائه وفي تأسيس "علم الاستغراب" كبديل للاستشراق ولبناء موقف من الآخر هو الموقف الحضاري من الغرب ومن تراثه وثقافته وحضارته، وفي نظرية التفسير أو الموقف من الواقع. إن المناهج التي يستخدمها مشروع 'التراث والتجديد' وتستخدمها فلسفة هذا المشروع مستمدة بعضها من التراث القديم وبعضها من الثقافة المعاصرة والفكر في الواقع المعاصر ومصدرها الوافد، والمناهج المتبعة في المشروع كثيراً ما يُعلن عنها في الكتابات عرضا للمشروع ولفلسفته. ففي الجبهة الأولى وهي أضخم وأكثر تفصيلاً وأعمق في التاريخ منهجها هو إعادة البناء من خلال قراءة المضمون وتحليله ونقده وإعادة صياغته وبنائه وفق ما يتطلبه العصر ليصبح جاهزا للاستعمال في ظروف تقبله وليس في الظروف التي نشأ وعمل فيها. والمنهج المتبع في الجبهة الثانية جبهة التراث الغربي من خلال علم الاستغراب الذي يقوم بنقد وتحليل الوعي الأوربي في مصادره وبدايته ونهايته باستخدام المناهج الواردة في التراث القديم وفي التراث الغربي الحديث والمعاصر التي تضع الغرب في مكانه الطبيعي وتمكّن الشعوب المقهورة من الانطلاق نحو الحضارة وبناء التاريخ. ونظرية التفسير تُبنى في المشروع باستخدام منهج تحليل الخبرات الذي يكون وحده الكفيل بالتنظير للواقع المباشر ولا سبيل لتغيير الواقع وتجديده في غياب نظرية التفسير المحكمة، وتخلّف العالم العربي والإسلامي في الواقع المعاصر يعود إلى غياب نظرية التفسير أو الموقف الحضاري من الواقع. وترتبط الأزمة في الواقع المعاصر بأزمتين: أزمة التغيير الاجتماعي وفشل مناهج معالجتها التي تتأرجح بين القديم والجديد والقديم الجديد وأزمة البحث في الدراسات الإسلامية التي تتأرجح بين النزعة الخطابية المحلية والنزعة العلمية الإستشراقية وما ترتب عن كل من النزعتين من سلبيات الأمر الذي اقتضى استخدام مناهج جديدة منها منطق التجديد اللّغوي ومنهج التحليل الشعوري وأساليب تغيير البيئة الثقافية. ومشروع 'التراث والتجديد' ذاته يمثل منهجاً ويؤسس علماً ويكشف عن ميدان. "فالمنهج هو ذاته علم لأنه تأسيس للعلم. والعلم إذا كان تأسيساً للعلم فهو ميدان"[83] يعيد بناء التراث ويستغله في بناء الحاضر وتغيير الواقع، كما يدرس الآخر ويضعه في مكانه الطبيعي ويستفيد منه ويقضي على الأزمة من الداخل والخارج.
ح- النسقية: إن ظاهرة الانسجام بين وحدات الفكر وعناصر الفلسفة والجبهات الثلاث في مشروع التراث والتجديد وأبعاده الزمانية والحضارية قائمة في بنية أقسامها وأجزائها مترابطة في بنية منطقية يعكسها البيان النظري للمشروع ككل في كتاب 'التراث والتجديد'، كما تعكسها المبادئ النظرية التي يقوم عليها مشروع "التراث والتجديد" والجبهات التي تكوّنه وأبعاد الموقف الحضاري فيه والمناهج المتبعة والأهداف والمرامي المُعلن عنها، خاصة لما ظهر الجزء الأول في القسم الأول وهو في طور الاكتمال وظهر البيان النظري للجبهة الثانية فظهرت صفة النسقية والاتساق والانسجام داخل المشروع من الناحية الفكرية والنظرية كنوايا ومبادئ ومنهج وأهداف ومرامي، رغم أن صاحب المشروع يصرح أن "من الصعب تناول قضية 'التراث والتجديد' والاستقرار على أسلوب متسق للتحليل، فقد يغلب أحياناً تحليل القديم مما يؤدي إلى الأكاديمية الخالصة وما يتصف به من برودة وتعالم وانعزال عن الواقع وقد يغلب أحياناً أخرى تحليل الواقع المعاصر مما يعطي البحث طابع التحليل الاجتماعي الذي لا شأن له بالتراث القديم والواقع أن المعادلة صعبة."[84] ونظرا للتطابق بين الجبهات الثلاث نجد الجبهتين الأولى والثانية تصبّان في الواقع وفي كل موقف حضاري توجد عوامل الإبداع الوافد والموروث والواقع كما يوجد تطابق في أبعاد المشروع الزمانية الحاضر والماضي والمستقبل كما تُردّ الجبهتان إلى النقل والإبداع. "والجبهات الثلاث ليست منفصلة عن بعضها البعض بل تتداخل فيما بينها ويخدم بعضها بعضاً. فإعادة بناء التراث القديم بحيث يكون قادراً على الدخول في تحديات العصر الرئيسية يساعد على وقف التغريب الذي وقعت فيه الخاصة، وهي لا تعلم من التراث إلا التراث المضاد لمصالح الأمة والذي أفرزته فرقة السلطان. فلم تجد حلاً إلا في التراث الغربي."[85]
خ- التأريخية: سمة التأريخية تطبع فلسفة مشروع 'التراث والتجديد' في جميع جبهاته وتطبع منهجه ونتائجه، فالتراث يمثل الجبهة الأكبر والأكثر تفصيلاً والأكثر ارتباطاً بالهوية الحضارية للأمة التي وُجد المشروع لأجلها، هو الأعمق في التاريخ، ظاهرة تاريخية وُجدت في الماضي وما زالت تشكل المخزون النفسي والاجتماعي المؤثر في السلوك شعورياً ولا شعورياً، وكأن لا حاضر للأمة بل تعيش الماضي في الحاضر وتعيش المستقبل من خلال الماضي الذي هو الحاضر، لذا يشتغل المشروع على الموروث التاريخي ويحمل اسمه، ويمثل تجديد الموروث التاريخي و تحويله إلى طاقة يقتضيها الواقع المعاصر في تغييره لكي لا يعيش الماضي لأن الماضي له ظروفه بل يعيش ظروف ومقتضيات الحاضر. كما يشتغل المشروع على الموروث الغربي الوافد القديم والحديث والمعاصر، و في دراسة ونقد الموروث القديم بنوعيه العربي الإسلامي والغربي الأوربي تُستخدم المناهج التاريخية و تحتاج البحوث إلى أساليب هي التحليل التاريخي والتركيب التاريخي والتفسير التاريخي، و فعلاً أصبح مشروع "التراث والتجديد" يؤرخ لحقب وأحداث تاريخية فكرية وعلمية كلامية وفلسفية وأصولية وصوفية و من ورائها الحياة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و الثقافية عامة ويبدو أن الأمر كذلك مع بقية أجزاء المشروع في الجبهة الأولى والثانية بالدرجة الأولى وحتى في الجبهة الثالثة.
د- إصلاحية نهضوية: يمثل الإصلاح غاية مشروع 'التراث والتجديد' وفلسفته، وتمثل النهضة الهدف منه، فهو ينطلق دوماً من ظروف وأحوال العالم العربي والإسلامية الحديثة، حيث تعرضت شعوبه في بداية العصر الحديث إلى الاستعمار الذي مارس الاستبداد السياسي والعسكري والظلم الاجتماعي عليها كما نهب خيراتها وحاول بطرق شتى طمس هويتها الحضارية والتاريخية، هذه الهوية التي تتحدد بعناصر عدة أهمها الدين الإسلامي واللغة العربية. فبفعل الاستعمار غرقت شعوب العالم المستعمر-بفتح الميم- في الجهل والتخلف في الوقت الذي كان فيه المستعمر-بكسر الميم- يعيش الحضارة و حياة الرخاء و الرّفاه المادي، وكان للحركة الإصلاحية التي قادها مفكرون مصلحون دوراً في تنمية الشعور الديني والقومي والوطني الذي كان وراء الحركات التحريرية ونهضة الشعوب في وجه الاستعمار واسترجاع الاستقلال الوطني، وسرعان ما وقعت الشعوب العربية في استعمار غير مباشر اقتصادياً وسياسياً أو موصولة به منذ الاستعمار العسكري السابق على حساب الاستقلال الوطني، فأصبحت الضرورة ملحّة إلى إصلاح هذه الأوضاع وضرورة حدوث النهضة مرّة أخرى، لكن الإصلاح والنهضة في مشروع 'التراث والتجديد' ليس كسابقه لدى الحركة الإصلاحية في العصر الحديث فهو يقوم على رؤية فلسفية واضحة ومبني على مشروع حضاري قومي وإنساني عام وشامل يحقق الإصلاح والنهضة ويحرر الشعوب وواقعها من الأزمة.
ذ- العملية: 'التراث والتجديد' نظرية في التراث وفي الواقع، هذه النظرية خارج الواقع ترف فكري، لأنها تهدف إلى تغيير الواقع، وتغيير الواقع بواسطة هذه النظرية يتم بالعمل، وهي تعطي الأولوية للعمل على النظر، ففلسفة 'التراث والتجديد' تعيب على التراث في جوانب عديدة وفي طابعه العام لأن هذه الجوانب تقلل من دور العمل وتعطي الأولوية للنظر نظراً لتأثرها بالفلسفة اليونانية ولانشغالها بترسيخ مبادئ وقيّم وعقائد الإسلام، ليس هناك فكر مجرد خالص، فالفكر يجري في الإنسان والإنسان جسم يتحرك في الواقع وإن لم يتحرك بالعمل ينتهي وينتهي معه الإنسان، ورسالة الفكر ليست "البحث النظري الخالص في المسائل النظرية الخالصة التي قد لا ينتج منها عمل"،[86] و "ليس الفكر هو التأمل والتجديد، فعل العقل المفارق بل شعور داخلي، إحساس بالحياة."[87] هذا الشعور الداخلي يتعاطى مع العالم الخارجي، فيؤثر فيه ويتأثر به من خلال العمل والفكر، والتأثير في الطبيعة بواسطة الفكر لتغييرها وتسخيرها وللتغيير الاجتماعي، وحتى تغيير الحياة الفردية الخاصة لا يتم خارج العمل، وإذا كانت الحكمة في معناها العام في الفلسفة هي اليقين فاليقين وجهان نظري وعملي، فالأخلاق والاجتماع والسياسة والاقتصاد والتاريخ كل هذا يقترن بالحكمة العملية وبالإبداع فيها وهي غرض من أغراض 'التراث والتجديد'، لأن "علوم الحكمة القديمة قد نشأت وتطورت واكتملت في عصر الحضارات القديمة... ومن ثم تستأنف علوم الحكمة طورها الثاني في تعاملها مع الغرب الحديث في مراحل النقل ... حتى مرحلة الإبداع في الحكمة النظرية والحكمة العلمية. ومازلنا نمر بمرحلتي النقل والعرض منذ أكثر من مائتي عام ولم نصل بعد إلى مرحلة الإبداع."[88]
ر- الواقعية: يمثل الواقع الجبهة التي تُردّ إليها الجبهتان الأخريتان في مشروع 'التراث والتجديد' الذي جاء ليشتغل بالواقع المعاصر للعالم العربي والإسلامي، وهو واقع متأزم في جميع جوانبه فكرياً وثقافيا واجتماعياً، والمشروع عبارة عن نظرية في تفسير الواقع انطلاقاً من التراث بنوعيه الموروث والوافد. ورسالة الفكر في المشروع موجّهة أساساً إلى الواقع فالفكر والمفكر شهادة على العصر والواقع، وقد تكون هذه الشهادة استشهاداً فيكون المفكر شاهدا على عصره وشهيداً له. فهو يكشف الواقع بحلوه ومرّه من خلال تحليله وعرضه وتحريكه، "والفكر هو التعبير عن حركة الواقع. الواقع حركة مستمرة، يتجاوز حاضره إلى مستقبله والتجاوز هنا إلى الأمام، في حركة التاريخ.الواقع بطبيعته يتجه إلى الانتقال من مرحلة إلى أخرى ... وقد اعتبر الأصوليون القدماء الحقيقة ذات طرفين، النص والواقع وأن النص بدون واقع فراغ وخواء، وأن مهمة المفكر هي تحقيق المناط، أي رؤية مضمون النص في الواقع المعاصر الذي يعيش فيه المفكر أو الفقيه أو المجتهد وحديثاً أصبحت الطبيعة مصدر كل فكر، وهي خير من كل كتاب."[89] فالواقعية تطبع إستراتيجية 'التراث والتجديد' بطابعها في المبادئ والمنطلقات وفي السبل والأساليب وفي المبتغى. فالمبدأ الأساسي هو التعاطي مع الواقع أولا والاشتغال خارجه هراء وعبث فالواقع موطن العمل الفكري والاجتماعي والثقافي والمادي وبؤرة البحث عن القوة والضعف فيه، عن معوقات الإصلاح والنهضة وموانع الإبداع وتحديد شروط تغييره وتطوير. وفلسفة مشروع "التراث والتجديد" تعطي الأولوية للواقع على النص وللعمل على النظر لأن الواقع فيه تتحقق مصالح الإنسان العامة ويظهر ذلك بوضوح في محاولة إعادة بناء أصول الفقه وفي المحاولات الأخرى.
ز- العقلانية والتنظير: العقلانية في 'التراث والتجديد' وفي فلسفته لا تعني العقلانية في المذهب الفلسفي اليوناني أو في المذاهب الفلسفية الحديثة أي نظريات فلسفية في المعرفة والوجود والقيم من إبداع العقل ذات طابع نظري بحت تمتاز بالصورية تعيش في العقل وخارج الواقع، واقع الحياة عامة الفردية والاجتماعية. فالعقلانية في المشروع تعني تحكيم سلطان العقل في التفكير و في التغيير، التفكير في الموضوع ودراسته ونقده وتغييره بالاعتماد على سلطان العقل لا النقل لأن الحضارة من إنتاج العقل والتاريخ يتحرك بفعل العقل والإبداع عملية عقلية في أصلها، لذا ضرورة عقلنة التاريخ حتى يتحرك وعقلنة النص وتنظير الموروث وعقلنته و عقلنة الواقع وتنظيره. ونظرية التفسير هنا فعل عقلي ومن إنتاج العقل تفسر النص أو الواقع، وهي "النظرية التي يمكن بها إعادة بناء العلوم والتي يمكن بها تحويل طاقة الوحي إلى البشر، وصبّها في الواقع وتحديد اتجاهنا الحضاري بالنسبة للثقافات المعاصرة."[90] والبداية العلمية لغيرنا انطلقت من العقل والواقع ونحن مازلنا نتمرد على العقل والواقع ونعيش الإيمان بالقضاء والقدر وبالاستسلام والرضا، "ونقطع الصلة بين العقل والتحليل المباشر للواقع، باعتباره مصدراً للنص، ونقبل الإمام بالتعيين، ونطيع له خانعين، ضعفاء أو خائفين، ثم ننتقي من التراث ما يدعم هذا الوضع ... وإذا كنا نخلط يبن العقل والوجدان في فكرنا المعاصر فنخطب ونظن أننا نفكر وننفعل ونظن أننا نفعل...وأن العقل لم يستقل على الإطلاق ولم يُوجّه نحو الواقع وهو طرفه الأصيل."[91] لذا عقلانية الواقع وتنظيره المباشر من أسس وأهداف 'التراث والتجديد'.
ط- الظواهرية: يتميز منهج البحث والدراسة في فكر صاحب مشروع 'التراث والتجديد' بأنه ظواهري (فينومينولوجي)، وإذا كان كوجيتو المنهج الظواهري هو "أنا أفكر في شيء ما إذن أنا موجود."[92] وتغيّر مفهوم العالم المعيش ليصبح 'الوجود في العالم'، والعمل على تحويل العالم بما فيه من موضوعات وأشياء مادية إلى مجرد ظواهر خالصة تبدو في الشعور وتكوّن مجالا للإدراك الحسي. وهي بمفردها تعطي المعرفة اليقينية، فلا المثالية ولا التجريبية قادرة على الوصول إلى المعرفة اليقينية. هذا المنهج اتسم به البحث الفلسفي الذي كان وراء 'التراث والتجديد' سواء في دراسة التراث من خلال الوعي الحضاري الذي تكوّن فيه واكتمل وهو وعي تاريخي ووعي نظري ووعي عملي، أو في الاعتماد على هذا الوعي في دراسة الوافد الماضي والحاضر كما بان في محاولات إعادة بناء العلوم التراثية وما زال يظهر من خلال التركيز على منهج تحليل الخبرات في الماضي والحاضر للوصول إلى نظرية محكمة في التفسير لا هي مثالية فقط ولا هي واقعية فقط بل متوازنة تأخذ كل جوانب الحياة في الاعتبار وتربط الإنسان وحاضره وعصره بماضيه ومستقبله، وتربط بين الذات والموضوع. فهناك علم الأشياء وعالم الصور الذهنية، و"الصور حقائق تجمع بين الذات والموضوع، بين الرائي والمرئي فلا تُضحي بالرائي في سبيل المرئي كما تفعل الوضعية، ولا بالمرئي في سبيل الرائي كما تفعل المثالية، الصورة تجمع ولا تفرق، تضم ولا تُشعب، تربط ولا تفكك حتى يستطيع الإنسان أن يعيش في عالم واحد قادر على التعامل معه بدل أن يعيش في عالمين."[93]
ظ- التأويلية: الظاهراتية سمة في منهج 'التراث والتجديد' وفي الفلسفة التي يقوم عليها. كذلك التأويلية صفة طبعت المشروع و هي منهج مارسه القدماء، أمثال ابن سينا وابن رشد والمتصوفة وعلماء أصول الفقه وغيرهم، وأزدهر في عصرنا الحاضر وصار علماً قائماً بذاته هو 'علم النص' أو 'الهيرمينوتيقا'. ويربط صاحب المشروع بين 'الفينومينولوجيا' و'الهيرمينوتيقا' من خلال وظيفة التأويل وهي تحقيق الوئام النظري بين الأنا والعالم، والاتساق بين الذات العارفة وموضوع المعرفة، الذات تريد المعرفة بحواسها وذهنها، والواقع عصيّ عليها بعلاماته ودلالاته. هنا يأتي التأويل ليبني الجسور المعرفية بين الذات والموضوع حتى يصبح العالم مفهوماً معلوما تستطيع الذات أن تعيش فيه وتتعامل معه و تسيطر عليه. والتأويل تأويل النص وتأويل الذات. يقوم التأويل إذا ما توسط النص بين الذات والموضوع ويكون متعددا في الفهم ومشتبها في الواقع ومتشابها بين اللغات، ويكشف التأويل عن صراع القوى داخل المجتمع، وعن صراع الذات مع نفسها، فالذات هي الأخرى نص ولغة ومنطق وتركيب، فيها يتكشف الآخر في النزوع والقصدية كما تتكشف العلاقات بين الذوات والطبيعة والزمان. ونظراً لأهمية التأويل إلى جانب المنهج الظواهري في فلسفة مشروع 'التراث والتجديد' يقول صاحب المشروع في هذه الأهمية: "إن الغاية الباطنية من التأويل هو التأكيد على وحدة الذات والموضوع من خلال النص الذي يصوّر الموضوع من خلال المؤلف، ويفهمه الوعي من خلال القارئ.سواء كان الموضوع هو الله والتعالي أو الطبيعة والعالم أو الإنسان المجتمع. التأويل هو حوار بين المؤلف والقارئ حتى لو اختفى الموضوع وأصبح التأويل مجرد حوار بين الذات."[94]
ك- الفيلولوجية : إذا كانت الفيلولوجيا في تعريفها تعني محبة الكلام في اللغة اليونانية. فالمصطلح يطلق في عصرنا على الدراسات العلمية التي تعتني بالنصوص المكتوبة وتحقيقها وبالكلمات وتاريخها والمقارنة بين اللغات. فعلوم اللغة حققت تطوراً كبيراً في عصرنا وارتبطت مناهجها بمناهج العلوم الأخرى ذات الطابع النظري أو الطابع العملي أو هما معاً. ولما كانت لغة البحث العلمي من مكونات هذا البحث، ولما كانت الأزمة في دراسة التراث هي أزمة المناهج في البحث العلمي فمشروع 'التراث والتجديد' وفلسفته ينطلق في تجديد المناهج ويبنيها على اللغة باعتبار اللغة بعداً من أبعاد الفكر إلى جانب المعاني والأشياء. ويعتبر منطق التجديد اللغوي هو المنهج الأول في بلورة 'التراث والتجديد' وتنفيذه في الواقع مع ضرورة الاستفادة من التقدم الذي حققته علوم اللغة. لقد "فرض كل فكر جديد لغته، وبدأت كل حركة جديدة بتجديد اللغة أولاً إذ يحدث أحياناً عندما تتطور الحضارة وتمتد وتتسع معانيها أن تضيق بلغتها القديمة الخاصة التي لم تعد قادرة على إيصال أكثر قدر من المعاني لأكبر عدد ممكن من الناس فتنشأ حركة تجديد لغوية، وتُسقط فيها الحضارة لغتها القديمة الخاصة وتضع لغة جديدة أكثر قدرة على التعبير."[95] وهو حال مشروع 'التراث والتجديد' بجبهاته الثلاث في واقعنا المعاصر.
ل- الإنسانية: 'التراث والتجديد' مشروع فيه التراث غاية والتجديد وسيلة، مساره طبيعي، فيه النهضة سابقة على التنمية وضرورة لها، والإصلاح يسبق النهضة وهو شرطها فلا يقفز إلى التنمية دون توفير شروطها. فهو "يحاول تأسيس قضايا التغيير الاجتماعي على نحو طبيعي وفي منظور تاريخي، يبدأ بالأساس والشرط قبل المؤسس والمشروط."[96] في المشروع تعبير عن الموقف الطبيعي في حياة الإنسان فالماضي مرتبط بالحاضر في الشعور ووصف الشعور هو ذاته وصف للتراث في تواصله مع الواقع الحاضر، وتجديد التراث هو تحرير الطاقات المختزنة لدى الجماهير من كل ما يعيقها نحو التفجر والإسهام في تحريك التاريخ وبناء الحضارة بدلا من وجود الموروث كمصدر لطاقة المخزنة.
إنّ تجديد التراث- حسب حسن حنفي- هو عبارة عن حلّ للعقد والمبهمات والغوامض في الثقافة الموروثة، وتحويلها من طلاسم إلى حقائق واضحة، وإزالة كل ما يعيق التنمية والتطور، وتوفير كل ما يمهد لانطلاقة فعلية حقيقية لتغيير جذري للواقع. 'التراث والتجديد' سلوك حضاري يكشف التاريخ ويُنتج الثقافة ويبني الحضارة. وهو حاجة ملحّة ومطلب ثوري في الوجدان العربي الإسلامي المعاصر. إنّ الاشتغال على التراث والتجديد في الساحة العربية والإسلامية المعاصرة هو وحده الكفيل بمحاصرة وتقويض الأزمة وتحقيق النهضة، لأنّ اكتشاف الأنا وتأصيلها يكون بتحريرها من الغزو الثقافي من حيث العلوم والمناهج والتصورات والمذاهب والنظم الفكرية، وبمواجهة التحديات الحضارية التي نحن ضحية لها في عصرنا، وبالانتقال من وضع التحصيل والنقل إلى وضع النقد والخلق والابتكار. ولما كان المشروع يحمل هذه المعاني والقيّم الإنسانية في منطلقاته ومبادئه وفي مناهجه ومضامينه وفي أهدافه ومراميه فهو يستحق بحـق العـناية والاهتمـام دراســة و بحثا وتحليلا و نقدا، و لما لا عرضا على الواقع و التاريخ المعاصرين داخل الساحة الفكرية و الثقافية العربية والإسلامية المعاصرة.
خاتمة
يتضح مشروع "التراث والتجديد" وتتضح معالمه وملامح فلسفته من خلال جهود "حسن حنفي" في الكتابة والتأليف حول التراث والواقع والأنا والآخر، فلسفته ومشروعه يمثلان قراءة جديدة لدلالات التراث وعلومه العقلية النقلية والنقلية البحتة والعقلية المحضة، لمضامين الواقع وهمومه وتحدياته من أجل بناء نظرية محكمة للتفسير، ولقيّم ومعاني الوافد لأجل تحجيمه وتكوين صورة عن حقيقته دحضا لمركب العظمة لديه والقضاء على عقدة النقص في الأنا. فعند "حسن حنفي" لا تمتلك الأمة العربية الإسلامية المعاصرة شروط التقدم وعوامل التحضر وأسباب الازدهار الثقافي والحضاري، ولا يكون لها ذلك إلاّ بتحويل الموروث التاريخي إلى علوم إنسانية شاملة تعمل على مواجهة التحديات الراهنة وتحقق أهداف الأمة وتخدم مصالح الإنسان الفردية والاجتماعية في الواقع المعاصر، وبإيجاد نظرية محكمة تقوم بالتفسير المباشر للواقع من منطلق توجيه التراث القديم في مساره نحو الواقع ونحو الإنسان ونحو المجتمع ونحو الأمة بهدف الإصلاح والنهضة وتحقيق مصالح الجميع، على أساس أولوية الواقع على النص، والمصلحة على الحرف، والعمل على النظر، والعقل والإبداع على النقل،والتاريخ على الوحي، على عكس ما كان عليه الأمر من قبل في التراث القديم وهو أولوية النص على الواقع والوحي على المصلحة والنظر على العمل. هذا ما جعل طابع الفلسفة واقعيا عمليا وطابع المشروع براغماتيا نفعيا. ويشترط المشروع في نهضة الأمة توجّه الأنا إلى الأخر وتوضيح صورته هو،وتوضيح صورة الآخر لتأخذ كلّ صورة منهما مكانها في الثقافة العربية الإسلامية المعاصرة ذات الطابع التراثي التاريخي من جهة وتعيش على الوافد من جهة ثانية،وبالتالي تتضح العلاقة بين الأنا والآخر والجدل يمكن تجاوزه.
إنّ مواقف "حسن حنفي" الفكرية أكبر وكتاباته أوسع والقضايا التي عالجها أكثر مما تناوله كتابنا،فهو كتب ولازال يكتب حتى أنّ مشروعه أضخم من عمر صاحبه فنجده يقفز على مخطط مشروعه ويعتمد المقدمات ويكتفي بها في الانتقال من جزء إلى جزء ومن قسم إلى آخر داخل الجبهة، أو من جبهة إلى أخرى داخل المشروع. والجوانب التي تمثل فلسفة المشروع هي التي تمّ التركيز عليها في بحثنا، كدور الفكر في المشروع وفي الفلسفة، ومقولات الأصالة والمعاصرة والتقليد والحداثة وإعمال العقل وتوظيف الوحي وتفسير الواقع وإيجاد وعي تاريخي وفلسفة تاريخ جديدة وفلسفة سياسة جديدة ووعي سياسي جديد وفلسفة دين جديدة،وكذلك تحويل الآخر إلى موضوع بحث ودراسة بالاستغراب في مقابل الاستشراق،والتصدي لعقدة النقص في الأنا ومركب العظمة في الآخر ولأزمة الإبداع الحضاري في العالم العربي والإسلامي المعاصر من خلال الثورة والتثوير، فتتحول الأمة من كونها بموروثها وواقعها من عامل ضعف وتخلف وانهيار إلى عنصر قوة وتقدم وتحضر ومن الحاجة إلى الاستهلاك إلى القدرة على الإنتاج ومن النقل والإتباع والتقليد إلى سلطة العقل والإبداع والتجديد، ومن عقدة الضعف والنقص في الأنا إلى شعور الأنا بالمسؤولية والمساهمة في صنع التاريخ وإنتاج المعرفة وبناء الحضارة.
وبما أنّ المشروع قد اقترن بالتراث وبمعناه وبسياقه في الفلسفة والمشروع فمهما تعددت معانيه وأطره لا يمثل سوى المخزون النفسي لدى الجماهير يؤثر في نفوسها باستمرار، ويدل على تمركز الماضي في الحاضر، يصبح قوة فاعلة ومؤثرة في مقابل قوة العقل وقوة الطبيعة، وله قيمة في المجتمعات التراثية التاريخية وهي ترى أنّ ماضيها هو أحد مقومات وجودها ممتد في جذورها التاريخية وهو شرط من شروط بقائها واستمرارها وتطورها وازدهارها. وقراءة التراث ونقده وإعادة صياغته ومحاولة إعادة بنائه وفق متطلبات العصر هو وحده الكفيل بتوظيف التراث بإيجابية وبفعالية في بناء الحاضر والتطلع للمستقبل وهي مهمة مشروع "التراث والتجديد" من دون النمط التراثي أو النموذج اللاّتراثي. ويقترن المشروع بالتجديد ليغطي ميادين ثلاثة، تحليل الموروث القديم وتحليل الأبنية النفسية للجماهير وتحليل أبنية الواقع، فالنمو الحضاري لأي مجتمع يحصل بالإبداع في الفن والسياسة، والنمو هو صدور وانبثاق الجديد من براعم القديم، وتجديد التراث ليستجيب للواقع المعاصر ويطوّره. أمام أزمة التغيير الاجتماعي ومشكلة المنهج في الفكر الإسلامي وأمام الاتجاهات الثلاثة الاتجاه التراثي والاتجاه التجديدي والاتجاه التوفيقي بين التراث والتجديد و أمام عجز المحاولات الثلاث في الانقضاض على الأزمة وعلى مخلّفاتها يقوم مشروع "التراث والتجديد" بديلا استراتيجيا، يحرص على تحقيق متطلبات المرحلة، كالتحرر من الاحتلال ومن مختلف صنوف الاستبداد والظلم السياسي والاجتماعي، وتحقيق التنمية الشاملة وتفجير طاقات الإنسان المختزنة المحاصرة بين القديم والجديد، فلا سلطان إلاّ للعقل ولا سلطة إلاّ لضرورة الواقع الذي نحيا فيه.
اختص مشروع "التراث والتجديد" واختصت فلسفته بجملة من الخصائص ارتبطت بالظروف و المتغيرات التي تبلورت فيها ملامح لمشروع ومعالم الفلسفة وهي ظروف ارتبطت بماضي الأمة وواقعها وبثقافة غربية أروبية وافدة، فالتقى الموروث مع الوافد في واقع متأزم ، ولدى مفكر ومثقف ذي ثقافة متنوعة واسعة متعددة المشارب ملؤها التراث والوافد ومعرفة الواقع وأزمته وأبعادها العميقة وتحكّمه في عدة ألسن، كل هذا جعل المشروع و الفلسفة المنبثق منها ذا طابع تراثي، تجديدي، نقدي، ثوري تثويري،منهجي، نسقي، إصلاحي نهضوي، عملي براغماتي، واقعي، عقلاني تنظيري، وظواهري تأويلي فيلولوجي. فهو مشروع جامع وفلسفته شاملة لمميزات التراث وخصائص مناهج البحث والدراسة المعاصرة وخصائص الواقع المعيش وأحواله، فهو تعاطى مع التراث بمناهج علمية معاصرة ومن منظور معاصر ووفق متطلبات المرحلة الراهنة فكريا وعلميا واجتماعيا.
تمثل سائر الدلالات والإيحاءات الجديدة في مشروع "التراث والتجديد" الخاصة بإعادة بناء التراث والعلوم التراثية والخاصة بعلم الاستغراب في مواجهة الاستشراق والخاصة بنظرية التفسير في التصدي للواقع تمثل المبادرة الفكرية والمحاولة المنهجية التي تقوم على جمع المواقف من الأنا ومن التراث ومن الواقع ومن الآخر، في موقف حضاري واحد، جديد، مُؤسس، بنّاء، محكم، هادف،جدّي وجريء، كل هذا من منظور فلسفي وعلمي معاصر يهدف إلى تحريك التراث ليتحول إلى علوم فلسفية إنسانية سلوكية إلى جانب العلوم الإنسانية اللغوية والنفسية والاجتماعية يخدمها وتخدم، ويخدم مصالح الإنسان الفردية والاجتماعية في الواقع المعاصر، على أساس أولوية الواقع على النص وليس العكس. فالتجديد حاضر في المشروع وحالّ في الفلسفة التي يقوم عليها المشروع، التجديد في القراءة وفي الصياغة وفي إعادة البناء، والإبداع لا يقوم في العدم بل ينطلق دوما من القديم فيجدده وعند استقلال الجديد بكيانه وخصوصياته عن القديم يصبح إبداعا، والعملية مستمرة تبعا للفطرة البشرية والسنّة الكونية والصبغة الإلهية.
تعرضت ولازالت تتعرض كافة المواقف الفلسفية والفكرية والمرجعيات المنهجية والخلفيات الإيديولوجية التاريخية القديمة والحديثة والمعاصرة التي تأسس عليها مشروع "التراث والتجديد" وقامت عليها فلسفته إلى المسائلة النقدية وإلى الفحص والتمحيص النقديين، وهو عمل استمده صاحبه من مصادر شتّى أثّرت فيه وبان ذلك بوضوح في ثقافته وفي فلسفته ومشروعه، فهي مصادر تاريخية تراثية مثل مذهب المعتزلة ومصادر فكرية وفلسفية حديثة ومعاصرة مثل النقدية الكانطية والجدلية الهيجلية والمادية التاريخية والفلسفة الماركسية وفلسفة المقاومة عند فيشته والظواهرية والوجودية، ومصادر علمية ومنهجية حديثة ومعاصرة متعددة لغوية فيلولوجية وتأويلية وغيرها، والخط العام لمشروع "التراث والتجديد" ومنهج فلسفته ظواهري واقعي براغماتي أساسه الواقع قبل النص والعمل قبل النظر والعقل والإبداع قبل النقل والأرض قبل السماء والتاريخ قبل الوحي والمصلحة قبل الحرف.
فالفكر مثلا ميزة بشرية وجهد إنساني هو وراء كل ما صنعه الإنسان يقوم على الحرية والإبداع و التعدد والتنوع وهي أمور طبيعية فيه لا تسمح بإخضاعه لمنهج واحد ونمط واحد وفي مجال واحد ووفق إيديولوجية واحدة، فالفكر أوسع من أن يكون يساريا فقط أو يمينيا فحسب. أما مفاهيم قراءة التراث و العصر والأنا والآخر فهي الأخرى ذات طابع تعددي تنوعي في التصور والخلفية والمنهج، ولما كنّا نعيش تحت ثقل الثقافة القديمة في مواجهة الثقافة الغربية وتأثيرها دون تحقيق وحدة الهوية الثقافتين مما زاد في تعميق الأزمة فأصبحنا في أمس الحاجة إلى جميع مفاهيم قراءة الماضي والحاضر والمستقبل وإلى جميع لوازم الخطاب الفكري الفلسفي المعاصر وإلى جميع المشاريع الفكرية، ففي خضم التنوع والتعدد يحدث النمو التطور وفي خضم الأزمة تولد الهمّة.وعلى الرغم من أنّ المفاهيم الكبرى في المشروع مثل النقل والعقل والواقع والأنا والآخر أخذت حصتها كاملة من التحليل والعرض الموضوعي فإنّها تبقى تعبر عن مواقف صاحبها الفكرية والفلسفية والإيديولوجية والسياسية تغلب عليها التاريخية أحيانا النظرية التجريدية في أحيان أخرى رغم أنّ المشروع أساسه وغايته الواقع قبل كل شيء.
وفي فلسفة السياسة والتاريخ كثيرا ما اعتمد المشروع على فكر القدماء ليكون مطية لكشف الواقع المعاصر ونقده وتفسيره والدعوة إلى تجديده وتغييره، وارتباط السياسة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية المعاصرة بالآخر تاريخا وعلما وثقافة لأنّ العيش على التراث وحده انغلاق وتخلف وجمود العيش على الوافد وحده ضياع للتراث ولقيّم التاريخ وللهوية، غير أنّ الوعي السياسي في المشروع والأسس التي يقوم عليها من عقلانية وتنوير وتراثية وحرية وغيرها كثيرا ما يوقع هذا الفكر في مثالب ومتاهات وحتى في أوهام، فالعقلانية والتنوير ليسا دوما شرط الخروج من التخلف الفكري والاجتماعي كما نجد في كثير من الحالات اُتخذت مفاهيم مثل التراث والتجديد ذريعة لتبرير التخلف وليس بالضرورة ربط الأنا بالآخر يعطينا الصورة الصحيحة عن الأنا وعن الآخر ، فنحن في أمسّ الحاجة إلى وعي الذات ابتداء ولا ضير في الاستفادة من تجارب الآخرين في الحياة كمعلم لا كمرجع ولا كأُنموذج، وكثيرا ما نجد الحرية والتحرر القائم على التنوير والعقلانية مجرد وهم لانّ ذلك لم يعرف النور في الواقع بعد، وهما من الشعارات التي تُطلق لتبرير واقع معارض لذلك تماما.
أما التفكير الفلسفي العربي الإسلامي في المشروع ينطلق من الموروث ليصبح الموروث عنصر عطاء وإبداع دون الاكتفاء به فيكبو، ويتمثل الوافد ليصير عامل تطور وازدهار دون تغرب أو تغريب فتزول الخصوصية وتنمحي الأصالة ويتشوّه الأنا، كما يشتغل بمشكلات العصر وهمومه وقضاياه في عالمنا العربي والإسلامي المعاصر للتنظير المباشر للواقع، وإبداع النص الجديد وتجاوز نص الأنا ونص الآخر للوصول إلى فلسفة إسلامية جديدة وفكر عربي جديد، هذه الأطروحة حول إنشاء فكر عربي إسلامي جديد معاصر يتفاعل مع الوجدان بفعّالية وبإيجابية كبيرتين، كون هذا الفكر يعبر عن مقاصد ونيات ويعلن مبادئ ويحدد توجهات ومسارات على المستوى النظري الفكري، وقد يتفاعل مع العقل بإيجابية أكبر، لكنه في كل الأحوال والظروف يصطدم بالواقع المليء بالتأزم والتعقيد فتحكم عليه أطراف بأنّه من صميم الطوباوية والمثالية العارية على الرغم ما فيه من وجاهة وجدّة وجرأة.
وأطروحة علم الاستغراب وإمكانية تحويل الآخر إلى موضوع دراسة وبحث من طرف الأنا يطرح تساؤلا عن إمكانية تحويل البيان النظري لعلم الاستغراب إلى إنجازات في الواقع، وانتقال المبادئ والنوايا من عالم الأفكار و التصورات إلى عالم الأفعال والتصرفات، وإلاّ يبقى الاستغراب مجرد ترف فكري. كما يمكن التساؤل عن المؤسسات الفكرية والثقافية والعلمية والهيئات السياسية التي تتبنّى المشروع فتجسده في الواقع وتُحوّل بيانه من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، كعلم له موضوعاته وآلياته ولغته ومناهجه في ظل الاعتبارات الذاتية والإيديولوجية وأمام التحديات الداخلية والخارجية خاصة التحدي الجديد للعولمة، وهي اعتبارات وتحديات تجعل نظرية التفسير المنشودة في المشروع رهينة التساؤلات التالية: هل الأسباب والشروط مهيأة لظهور نظرية تفسير محكمة في العالم العربي والإسلامي المعاصر؟ وهل يمكن تجاوز الصعوبات القائمة؟ وإذا قامت محاولات لتطبيق نظرية التفسير فهل ذلك ممكن في الواقع؟ الإجابة بالنفي وبالسلب تجعل دعوة "حسن حنفي" وموقفه من الواقع وهو جزء من مشروعه مجرد ترف فكري، إلى جانب هذه التساؤلات يقوم التساؤل حول أزمة الإبداع الحضاري، فهل محور الترجمة ومحور نقد الأنا ووعيه ومحور ونقد الآخر ووعيه وردّه إلى حدوده وتحجيمه هي المحاور بمرجعياتها التي أنتجت الإبداع الحضاري في الحضارات السابقة الشرقية أو اليونانية أو الإسلامية أو حتى الحديثة والمعاصرة؟ وهل مشروع "التراث والتجديد" قادر على حل أزمة الإبداع الحضاري في المجتمع العربي الإسلامي المعاصر؟ خاصة وأنّ الأزمة عميقة جدّا وتزداد عمقا من وقت إلى آخر إلى درجة اليأس والقنوط، والمشروع التراثي التجديدي فيه ما فيه من المثالية والنقدية والأخلاقية، فهل أفكاره تبقى حبيسة سياق الفكر النظري المجرد أم تتحول إلى تطبيقات عملية تغيّر الواقع وتحوّله من واقع متأزم متخلف خالي من الإبداع إلى عالم متفتح منفتح على الإبداع قادر على صنع التاريخ وعلى بناء الحضارة؟.
إنّ الموقف الحضاري في المشروع مرتبط بالتراث والواقع والآخر، فلسفته ذات طابع تحليلي نقدي يظهر ذلك في آثار صاحب المشروع من مقالات ومؤلفات وحوارات وغيرها، كما يطغى على هذه الكتابات التكرار والاجترار في وقت يُعرض عن القراءة الطويلة، وإن كان التكرار قد يكون في بعض الحالات مشروعا ومطلوبا تتطلبه الحاجة إلى الدقة والعمق والتفصيل من أجل الإلمام بجميع جوانب الموضوع، وإذا كان المشروع يتميز بالثورة والتثوير فهو غزير وضخم جدّا مفتوح على أكثر من جبهة يصعب إتمامه كما يصعب تطبيقه خاصة إذا كانت عناصره وأجزاؤه وأقسامه وجبهاته متكاملة من الناحية النظرية، فلا يتحقق بجزء واحد أو ببعض الأجزاء دون الأخرى لأنّ الأمر يحتاج إلى المشروع بأكمله. لا نعرف إذا ما كان المشروع مآله النجاح خاصة وأنّ التراث ضخم والمواقف منه كثيرة ومتباينة وأنّ الواقع متأزم وأزمته عميقة وأبعادها كثيرة وأنّ ثقافة الآخر صارت محرك الحياة المعاصرة وميزة الواقع المعاصر فهل يجد المشروع حيّزا له في هذه الحياة وفي هذا الواقع أم يبقى مجرد إعلان عن مبادئ ونوايا ومقاصد في واقع مريض شبه ميئوس من شفائه يسهل فيه الحديث ويكثر ويقلّ فيه العمل ويغيب الإبداع.
ويُحسَب على المشروع انتماءُ صاحبه التاريخي الثقافي والحضاري كإعجابه بمذهب المعتزلة وتراثهم وغير ذلك من جوانب التراث العربي الإسلامي، والانتماء الإيديولوجي وهو اليسار الإسلامي وربط ذلك بالماركسية كاتجاه فكري وفلسفي، وبالمادية التاريخية كمنهج فكري في تفسير الحضارة والتاريخ. وفي المشروع وفي الفلسفة التي يقوم عليها يطغى العقل والواقع والمصلحة على الوحي وعلى النص وهذا لا يُرضي التيار التراثي السلفي المحافظ فيصفه بالعلمانية ويُوصف بفقدانه للصبغة العلمية وللتوازن في الرؤية وفي المنظور على المستويين النظري والعملي. وبهذا فالمشروع لا يزيل التباين السلبي السائد في الساحة الفكرية العربية والإسلامية المعاصرة فهو لا يُرضي التيار العلماني لأنّه تراثي ولا يُرضي التيار السلفي لأنّه عقلاني واقعي فهو محسوب على العلمانيين لكنه غير علماني ومحسوب على السلفيين لكنه ليس سلفيا، هذا التفرد وهذه الخصوصية هما ما يميّز فكر "حسن حنفي" ومشروعه وفلسفته وسائر أعماله عن غيرها.
على الرغم من الانتقادات التي تعرّض لها مشروع "التراث والتجديد" وتعرّضت لها فلسفته يبقى المشروع الذي يتصدر الواجهة على الساحة الفكرية والفلسفية المعاصرة في العالم العربي والإسلامي، لأنّ فيه تعبير عن الموقف الطبيعي في الإنسان وفي حياته، فالماضي مرتبط بالحاضر في الشعور ووصف الشعور وتحليل الوعي هو ذاته وصف التراث وتحليل الماضي في تفاعله مع الواقع المعاصر، وتجديد التراث هو تحرير الطاقات المختزنة لدى الجماهير من كل ما يعيقها نحو التفجر والإسهام في تحريك التاريخ وبناء الحضارة، ولما كان المشروع يحمل هذه الدلالات والمعاني والقيّم الإنسانية التاريخية الماضية والحاضرة ويسعى إلى ترسيخها في منطلقاته ومبادئه ومناهجه ومضامينه وتوطيدها في أهدافه وغاياته ومراميه فهو يستحق بحق كلّ تقدير، كما يحتاج إلى العناية اللاّزمة والاهتمام المطلوب بحثا ودراسة وتحليلا ونقدا ولما لا عرضا على الواقع والتاريخ والعصر اختبارا له واستثمارا لقيّمه.
[1] - حسن حنفي: دراسات فلسفية، ص136.
[2] - المرجع نفسه : ص137.
[3] - المرجع نفسه : ص137-138.
[4] - المرجع نفسه : ص138.
[5] - المرجع نفسه : ص139.
[6] - المرجع نفسه : ص140.
[7] - المرجع نفسه : ص140-141.
[8] - المرجع نفسه : ص143.
[9] - المرجع نفسه : ص143.
[10] - المرجع نفسه : ص160-161-167-168.
[11] - المرجع نفسه : ص209.
[12] - حسن حنفي: هموم الفكر والوطن، الجزء الأول، ص105.
[13] - حسن حنفي: التراث والتجديد، ص13.
[14] - المرجع نفسه : ص13.
[15] - المرجع نفسه : ص13-14.
[16] - المرجع نفسه : ص19-20.
[17] - حسن حنفي: دراسات فلسفية، ص153.
[18] - حسن حنفي: هموم الفكر والوطن، الجزء الأول، ص343.
[19] - المرجع نفسه : ص343-344.
[20] - المرجع نفسه : ص344.
[21] - المرجع نفسه : ص361.
[22] - حسن حنفي: التراث والتجديد، ص23.
[23] - حسن حنفي: التراث والتجديد، ص23.
[24] - المرجع نفسه : ص24.
[25] - المرجع نفسه : ص24.
[26] - المرجع نفسه : ص25.
[27] - المرجع نفسه : ص25، أنظر هامش الصفحة.
[28] - حسن حنفي : دراسات فلسفية ، ص109-110.
[29] - المرجع نفسه : ص137.
[30] - المرجع نفسه : ص143.
[31] - المرجع نفسه : ص156.
[32] - سورة الروم: الآية 32.
[33] - جميل صيبا : المعجم الفلسفي، الجزء الأول، دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان، بدون طبعة، سنة 1982، ص242.
[34] - Andre-lalande : Vocabulaire Technique et Critique de la philosophie, presse universitaire de France, 13eme édition, Paris, 1980, P516-517.
[35] - حسن حنفي: التراث والتجديد، ص13.
[36] - المرجع نفسه: ص13-14.
[37] - المرجع نفسه : ص19.
[38] - المرجع نفسه : ص19-20-21.
[39] - المرجع نفسه : ص21.
[40] - المرجع نفسه : ص22.
[41] - المرجع نفسه : ص23، أنظر هامش الصفحة.
[42] - المرجع نفسه : ص24.
[43] - المرجع نفسه : ص25.
[44] - المرجع نفسه : ص26.
[45] - حسن حنفي: قضايا معاصرة، في فكرنا المعاصر، ص78.
[46] - حسن حنفي : دراسات فلسفية، ص109.
[47] - حسن حنفي : هموم الفكر والوطن.، الجزء الثاني، ص91-92.
[48] - المرجع نفسه : ص93.
[49] - المرجع نفسه : 96-97.
[50] - المرجع نفسه : ص99-100.
[51] - المرجع نفسه : ص102.
[52] - المرجع نفسه : ص103.
[53] - المرجع نفسه : ص103-104.
[54] - حسن حنفي: دراسات فلسفية، ص143.
[55] - المرجع نفسه : ص153.
[56] - حسن حنفي: التراث والتجديد، ص37.
[57] - المرجع نفسه : ص38.
[58] - المرجع نفسه : ص38-39.
[59] - المرجع نفسه : ص39.
[60] - المرجع نفسه : ص43.
[61] - المرجع نفسه : ص45-46.
[62] - المرجع نفسه : ص48.
[63] - المرجع نفسه : ص49.
[64] - المرجع نفسه : ص52.
[65] - حسن حنفي: مقدمة في علم الاستغراب، ص09.
[66] - المرجع نفسه : ص41.
[67] - المرجع نفسه : ص11-12.
[68] - المرجع نفسه : ص12.
[69] - حسن حنفي: التراث والتجديد، ص176.
[70] - حسن حنفي: التراث والتجديد، ص181.
[71] - المرجع نفسه: ص183.
[72] - المرجع نفسه : ص186.
[73]- المرجع نفسه : ص185.
[74] - المرجع نفسه : ص185.
[75] - مجلة منبر الحوار: العدد 29، سنة 1993، لبنان، بيروت، ص87.
[76] - حسن حنفي : مقدمة في علم الاستغراب، ص10.
[77] - حسن حنفي : التراث والتجديد، ص34.
[78] - المرجع نفسه : ص19-20.
[79] - حسن حنفي : هموم الفكر والوطن، الجزء الثاني، ص45.
[80] - المرجع نفسه : ص463.
[81] - حسن حنفي : قضايا معاصرة، في فكرنا المعاصر، ص17.
[82] - المرجع نفسه : ص11.
[83] - حسن حنفي: التراث والتجديد، ص26.
[84] - المرجع نفسه : ص22-23.
[85]- حسن حنفي : مقدمة في علم الاستغراب، ص12.
[86] - حسن حنفي : قضايا معاصرة، في فكرنا المعاصر، ص14.
[87] - حسن حنفي : حصار الزمن، إشكالات، ص257.
[88] - حسن حنفي : من النقل والإبداع إلى الإبداع، المجلد الثالث، الجزء الثالث، ص646.
[89] - حسن حنفي: قضايا معاصرة، في فكرنا المعاصر، ص15.
[90] - حسن حنفي: التراث والتجديد، ص184.
[91] - المرجع نفسه : ص16.
[92] - فريدة غيوة : اتجاهات وشخصيات في الفلسفة المعاصرة، شركة دار الهدى، عين مليلة، الجزائر، ص56.
[93] - حسن حنفي: حصار الزمن، إشكالات، ص265.
[94] - المرجع نفسه : ص78.
[95] - حسن حنفي: التراث والتجديد، ص109.
[96] - المرجع نفسه : ص14.