قصة قصيرة جدا بعنوان:
دورة الدموع (؟!)

رآه يبكي بحُرْقَة، فسأله فيما كان البكاء (؟!)

أجاب بأنه يستكمل ريَّ بحيرةِ أحزانه في خريطة "القحطانيين الجدد" (!!)

لم يفهم، فاستفهمَ كي يفهمَ (!!)

قال له: راودني الرقم 3 عن عمري فرسم فيه هوَّة سحيقة بلا قرار (!!)

مستهجنا أن يكون كشفُ الغموض بغموض:

أوضِح يا صديقي، فكأني بدموعك تخفي وراء أَكَمَة عمرِك ما تخفيه (!!)

لملمَ بقايا آهاتٍ أَبَتْ فراقَه قبل استنزاف آخر الدمع كي تلقيَها في بحيرة الأحزان، وقال:

الرقم "3" يا صديقي رسمَ في حياتي خمسَ محطاتٍ مؤلمة لا تُمْحى من ذاكرتي لأنني بكيتُ فيها بمرارة، وها أنا ذا استحضرها عندما غزاني فجأة سؤالك "أين ترى مصر في مستقبل الأمة" (!!)

هازا رأسه باهتمام بالغ:

ألم أقل لك أن أَكَمَتَكَ تخفي في أحشائها الدَّسَم، هات يا صاحبي، فَجِّرْ مخزونَ دموعِك كي أحملَ عنك بعض الألم (!!)

فتدفق منه الوجع:

في أكتوبر 1973، عندما أعلن الرئيس "أنور السادات" قبول وقف إطلاق النار قبل استكمال تحرير سيناء وهو المنتصرُ المكتسحُ، وبعدما سمعت والدي وهو يتحاور مع أصدقائه متحسرا، يتنبأ بأن صلحا مصريا إسرائيليا يلوح في الأفق وأن الزمن الإسرائيلي قادم لا محالة، انزويت في حجرتي وبكيتُ بكاءً مريرا، عوَّضت به بكاءَ عقدٍ كاملٍ مضى من عمري (!!)

فنفرتْ من عينِ صاحبه دمعةٌ صامتة (!!)

لكنه واصل:

وفي حزيران 1983، عندما امتُهِنَت آدميتي في أقبية وزنازين مخابرات النظام، وتعرضت للتعذيب الذي لم أتوقعه، فتكسرت عظام أصابعي، وتطايرت أظافري وعُلِّقْتُ مثل الذبيحة، بكيت ليس من شدة الألم، بل من شدة الشعور بالامتهان والإذلال، مستجمعا في زنزانتي دموعا اختزنَها العقد الثاني من عمري (!!)

نفرتْ دمعةٌ صامتة أخرى من عين صاحبه (!!)

لكنه أضاف:

في حزيران 1993، عندما تم تكفيري والحكم عليَّ بالردة وأُهْدِرَ دمي علنا، لأنني كنت أكتب في الإسلام بعقلانية لم تَرُقْ لهؤلاء، بكيتُ لأنني شعرت بأن العقل في بلادنا مغيِّب، وبأن المطلوب مني ألا أفكِّر إذا شئت أن أرضيَ الله، وبأن "جهنم" أكثر احتراما للعقل وللعقلاء وللتعقُّل من "الجنة"، فكانت بحيرة جديدة من الدموع راكمها العقد الثالث من عمرٍ راح يهرول أمامي (!!)

تحولت الدموع في عيني الصديق إلى تشنجات على الوجه (!!)

لم يصمت وواصل سردَ المحطات:

في نيسان 2003، عندما رأيت تلك الدبابة الأميركية اليتيمة تعلن احتلال بغداد وهي متمركزة فوق جسر من جسور نهر دجلة، لأرى في اليوم التالي، تلك المرأة العراقية بالغة السعادة والفرحة تُظْهِرُ من سيارةٍ كانت تركبُها ورقةً كرتونية ترفعُها عاليا وقد كتبت عليها عبارة "thank you usa"، بكيت لأنني رأيت لوحة سريالية لم أستطع فهمَ ألوانها، فكانت دموعي طوفانا ادخرها العقد الرابع للحظة مهينة كهذه (!!)

ثم ساد الصمت لحظة حاول كلٌّ منهما خلالها السيطرةَ على أعصابه التي كادت تنفلت من عقالها، ثم فَجَّرَ الرجل آخر القنابل التي أدمت عينيه:

أما في حزيران 2013، وعندما رأيت مشهدَ نحر ثورة مصرية مجيدة، قال لنا المصريون فيه: لا تُعَوِّلوا علينا، فنحن لم نعد قادتكم إلى المجد، بكيت كثيرا، كثيرا، كثيرا، لأنني وجدت أن بداية الدمع كانت مصرية عام 1973، وخاتمتها الراهنة كانت أيضا مصرية حزيرانية في عام 2013 (!!)

ولأن الرقم "3" الفاصل بين عشرياتٍ من عمري أثبتَ حضورا في مآسي أراقت الدموع، فإنني أنتظر عام 2023 إن كان لي عمر، لأرى إن كنت سأبكي، أم أنني سأمسح دموع العقود الخمسة الماضية (!!)