قصة قصيرة: (21) الجمعة المعجزة !
قحطـان فؤاد الخطيب / العراق
لم يكن يوما كباقي الأيام.....فالسكون يلف المكان، وأنت لا تسمع سوى زقزقة العصافير، وهديل الحمام وهي تجوب فضاء المجمع السكني ، ذا الطوابق التي شقت عنان الغيوم بارتفاعها الشاهق..... المركبات آوت إلى مرآبها بكسل، بعد أن أعياها تنقل الأيام الستة، وقد كساها غبار سميك.... الآن، يتعذر عليك رؤية بشر وسط المجمع العصري، المكنى (أفرو سيتى)، حتى عمال النظافة كانوا غير منظورين في مثل هذه العطلة الأسبوعية الروتينية. الأشجار تتراقص بدلع في هذا الفصل الخريفي المعتدل، وأوراقها تهوي بعفوية وهي تلقى حتفها المحتوم بصمت، مطرزة باحات المكان بألوان الاحتضار، فيما تبسط أشعة الشمس الدافئة جناحيها على طول المكان وعرضه وكأنها تقول:
- "ما لكم عباد الله لا تنتفعوا بنوري ودفئي وأنتم مقبلون على شتاء لا يرحم !؟"
كان اليوم يوحي وكاّن منع التجوال الصارم ساري المفعول بدقة، ما خلا المصلين المتجهين مبكرا لدور العبادة لأداء فريضة صلاة الجمعة، إذ كانت عقارب الساعة تمضي برتابة نحو منتصف النهار، ناهيك عن أن أغلب ســكان المجمع يغطـون، باستمتاع، في نوم عميق، غير معنيين بتناول الفطور أو الغداء. يوم العطلة، إذن، مناسبة للمتعة والنأي بالنفس عن المنغصات والقلاقل والشجون.
ولكن الرياح سارت بما لا تشتهي السفن ! فجأة، شق الهدوء السائد صرخات امرأة طاعنة في السن، تولول وتلطم على خديها الشاحبين، متفوهة بكلمات مفككة لم يفهمها أحد.
فتحت أبواب الشقق المجاورة والمقابلة على مصارعها. ودنى منها نساء بأثواب النوم الشفافة، مغلوبات على أمرهن، يتقن إلى إماطة اللثام عن كنه الموضوع. وبلمح البصر، تقاطر الرجال والأطفال، هذا مسن أعرج يحمل عكازا، وذاك جاء وقد نسي نظاراته الطبية، وثالث يقرأ التعاويذ بصوت عال مخففا من وطأة الحدث الغامض!
مرت اللحظات والدقائق والكل مشدوهون لمعرفة سر البكاء والعويل. أخرست العجوز من هول الفاجعة، وخرت صريعة على الأرض لا حول لها ولا قوة، كأنها جثة هامدة. وانصرف بعض الرجال لجلب الماء كي يسكبونه على وجهها البائس علها تسترجع بعض عافيتها. والكل حيارى لا يعرفون ماذا حدث وماذا يفعلون!
- "ما بك يا سيدة، لماذا البكاء والعويل ؟" سألت جارتها، أم علي، بعد سكب الماء على وجهها.
- "حفيدي، آه حفيدي !"
- "وماذا حصل لحفيدك ؟" سأل أحدهم وقد أفزعه المشهد.
- "سقط من يدي فجأة." تمتمت العجوز وشرعت تلطم على خديها بما أوتيت من قوة، فيما دخل الحضور الشقة دون استئذان لمعاينة ملابسات الحادث الأليم، إذ تبين بأن الطفل، ذا السنة الثانية من العمر، أفلت من يديها النحيلتين وهي تطل من الشرفة بالطابق السابع حاملة إياه.
هرع الكل فزعين إلى المصعد فإذا به بلا تيار كهربائي. فاقفلوا راجعين بعصبية مفرطة إلى السلالم بلا وعي، نساء ورجالا وصبية، متجهين نحو أرضية العمارة، كما لو كانوا جميعا في ماراثون، يحدوهم الأمل بالعثور على الطفل حيا. لقد كانوا محبطين بصدد مصير الطفل. وأخيرا تجمهروا حوله بشكل عشوائي. واحتضن شاب مفتول العضلات الطفل وتوجه به إلى مركبته كي ينقله إلى المستشفى. إلا أن مركبة أخرى كانت جاثمة أمام مركبته بشكل غير قانوني، مما حال دون تقديم خدمته للطفل المنكوب.
هنا ، انبرى عم الطفل وطالب بتسليمه الطفل لأن مركبته جاهزة للانطلاق.
- "أين أبوه؟" سأل أحد الحضور.
- "ذهب لأداء الصلاة." أجاب العم .
وما هي إلا بضع دقائق حتى كانوا أمام العيادة الخارجية للمستشفى ، إذ أفاد تقرير الطبيب بأن النبض لا بأس به، لكن يجب إيصاله إلى العناية المركزة فورا.
أخذ المسكين هناك فيما بقي المرافقون خارج المكان لمدة ثلاث ساعات تمخض عنها التوصية ببقائه هناك لثلاثة أيام. وحمد الحضور الله على سلامته مبتهلين إليه سبحانه وتعالى أن يكلأه بعين رعايته ويعيده إلى أهله سالما معافى. بعدها انصرفوا إلى منازلهم، ناسين الإفطار والغداء.
مضت الأيام الثلاثة وكأنها ثلاثة قرون، والكل يترقب ما ستؤول إليه النتيجة. لم يغب الطفل عن بال الأسر في المجمع كله. فلحسن حظه أنه سقط على رمل الباحة وليس على بلاطها.
وأخيرا، اجتاز الطفل محنته بسلام. هنا حصلت المعجزة الفعلية التي لا يصدقها أحد.
طفل رضيع يسقط من الطابق السابع ويخرج سالما......!!!