مع الرومانسية في الأدب
تعتبر الرومانسية تطوراً معمماً للكلاسيكية، حيث اهتمت بالخيال والعاطفة واهتمت بالصورة والروح، جعلت المادة لاحقة لهما، وكان محورها الاهتمام بالفرد وتقدير حقوقه لبناء مجتمع تستقر فيه مبادىء الحرية والاخاء والمساواة، مبادىء الثورة الفرنسية وقد تأثرت بالفلسفة المثالية، وذلك فيما يتعلق منها بالخيال والمطلق الارادي المتمثل في الانسان، ولها اتجاه داخلي شعوري تمنحه القدرة على اعادة خلق المادة، ومن أبرز كتابها «هوجو» و«لامارتين» و«شاتوبريان» و«شيلي»، وهم من دول أوروبية مختلفة، وهذا دليل على ان المذهب كان أكثر انتشاراً وأقوى تأثيراً.
وللرومانسية فضل في توسيع مفهوم الأدب وخوض الميادين الفلسفية والدينية، كما حولوا النقد الى علم بعد ان كان فناً جامداً وهدموا أصول البلاغة القديمة، وأنكروا سلطانها كما كان منذ أرسطو، وأتى على أيديهم النقد الأدبي المنهجي، وظهرت في منتصف القرن التاسع عشر حركة عارضت الرومانسية وأعادت الفن الى نوع من الكلاسيكية الموضوعية الذاتية، وهي قطع الصلة بين الذات والموضوع وأطلق عليها مؤسسها الفرنسي «ليكونت دي ليل» اسم «البرناسية» واتضحت معالمها وانتشرت في الربع الأخير من القرن.
قدمت البرناسية الواقع الخارجي واعتزلت سوح المعاناة عليه، فالفن عندهم سبيل للمتعة، والفن غاية في ذاته، وغاية الفن هي الجمال الذي يتحقق في كمال الشكل، ويقولون ان المضمون نضب وجف على أيدي الشعراء السابقين، أما الشكل فهو مادة الابداع الذي لا ينتهي، في حين ان الرومانسية قد بالغت في اعتماد المضمون، لذا كان النحت هو المفضل عند البرناسيين، والفن عندهم هو الامتناع عن التأثر بالانفعال، والالمام بالذاتية، أما الانفعال والخيال فهما عندهم يشبهان التقارير العلمية.
وفي نهاية القرن التاسع عشر تراجع العقل الغربي عن النزعة المادية التي أوغل فيها طوال القرن، وأوغل معه فيها العلماء والفلاسفة، وكان من أثر ذلك ان ظهرت في الأدب موجة الرمزية التي حاول أصحابها ان يرتفعوا الى أجواء خيالية صاغوها وخلقوها خلقاً، وتقول الرمزية: ان كل مظهر هو رمز وكناية عن حقيقة أخرى غير الحقيقة الحسية المتفق عليها، وقد استحال العالم الحسي الى اشارات ولا شك لكتاب مكتوم، بينما العالم النفسي متحول ومتآكل ولا سبيل الى أسره، لذا تظهر خصائصها في انتقاء الواقع ورفض الأبعاد الحسية والمعاني الفكرية التي أوفى اليها العقل الانساني من العالم المادي ومن العالم النفسي، فالصورة لا الفكر هو المهم، حيث الصورة الرمزية هي الصورة الابداعية التي تستحضر غيب النفس والوجود، والموسيقى هي الوسيلة الفضلى عندهم للتعبير، لأنهم يؤثرون الغموض لا الوضوح، لأن الموسيقى لا تعطي أفكاراً، بل تبدع في النفس رؤى وصوراً وأحوالاً غامضة، والرمزية تعني اللاشعور والغوص في أغوار النفس الانسانية مع محاولة لادراك أقصى غاية البلاغة والابداع للرفع من مستوى القدرة على التعبير.
الجدير بالذكر ان عدة أسباب تعاونت على خروج الغربيين من الدورة الكلاسيكية في آدابهم وتقدمهم الى دورة جديدة، وكان من أهم الأسباب في ذلك ما حققته الفلسفة عند «بيكوث» و«ديكارت»، فقد أظهرت آراؤهم ونظرياتهم ان الفكر الحديث لا يقل عن الفكر اليوناني، ونشبت الثورة الفرنسية، فتآزرت السياسة مع الفلسفة، على إحداث ثورة في الأدب، هي الثورة المعروفة باسم الرومانسية.
محمد كشك
جريدة البعث