عقبات وأشواك
الإهداء:
إلى التي تحدت معي ظلم العبيد وسلكت معي طريقا مليئا بالأشواك...
فجمعت بيننا المبادئ، وفرقت بيننا قساوة الزمن الغادر.
كان هدفنا الوحيد أن نلتقي... فلم نلتقي
إلى التي لم أذكر إسمها شرفا لها
أهدي هذه الأشواك
ليس من حق أي امرأة في هذا العالم أن تحبك، فقط.. أنا التي من حقها أن تحبك.
من رسالة لها إليه عام 1984 حيث كان يؤدي فاتورة أفكاره ومبادئه بأحد سجون المملكة
بداية النهاية
في ربيع سنة 1985 قرر عمر أن يضع حدا للأقاويل والشائعات التي كانت تلاحق محبوبته بسبب تماطله غير المقصود في عدم التقدم لخطبتها رسميا، فقد أحاطتها العائلة بالعديد من التساؤلات والاستفسارات... خاصة ونصف العالم كان على اطلاع بالعلاقة القوية والمتينة التي كانت تجمع بينهما.
وللحقيقة فقط ، إذا كانت هناك علاقة عاطفية بريئة مائة بالمائة قد حدثت بين إثنين فهي تلك التي جمعت بين عمر وبهية، كانت تفهمه وكان يفهمها إلى حد لا يمكن تصوره، عاش على هواها وتمسكت بحبه خمس سنوات كاملة أو تزيد، لم يحدث أن زلت بهما الأقدام أو زاغت بهما الأبصار، لم يكونا مستعجلان في الأمر فكل منهما كان يعتقد أن لا أحد في هذا العالم يستطيع أن يفرق بينهما إلا الموت، كان يطمئن إليها وكانت تطمئن إليه ولم يخطر ببال أحدهما أنهما سيفترقان يوما وهما أحياء، حتى الأصدقاء والمعارف الذين كانوا على صلة بعلاقتهما الفريدة لم يكن لديهم أي شك بأن علاقتهما ستستمر إلى الأبد، أو هكذا كان يخيل للجميع على الأقل، لأن الخيط الذي كان يربط بينهما سميكا، والمبادئ التي تجمعهما قوية، وكان الطموح المشترك لا يقف عند حد معين لديهما، كان حبهما ممزوجا بالنضال والحركية، وكان أملهما تحقيق حلم كبير اعتقدا أنهما خلقا معا لتحقيقه رغم بعد مسافة الميلاد بينهما.
بدأت القصة عام ،1980 كان عمر في العشرين من عمره وكانت بهية تصغره سنا.
حينما شعرا أن كلا منهما يحتاج للآخر كعادة بني آدم وبنات حواء، وبعد أن تأكد عمر من أنه لو اقترح عليها حبه لن ترفض، خاصة وقد لمس ذلك في رسائلها المتعددة حيث كانا يتبادلان الرسائل لمدة سنتان تقريبا، وحينما شعر بأن قلبه اتجه إليها بعنف، كتب لها ذات مرة بأدب ممزوج بالحياء والتردد يشرح لها عواطفه تجاهها بطريقته الخاصة، حيث كان يستطيع أن يمرر أفكاره وكل ما يريد قوله بطريق غير مباشر، ولكنه كان يثق في خطط أسلوبه وتفكيره إلى حد الغرور، لكنها كانت أشجع منه وأبلغ في التعبير والتصوير... لقد كتبت إليه رسالة مطولة تبثه فيها حبها وتعلقها به، وأفضت إليه في رسالتها أنها كانت على وشك أن تصرح له بحبها الدفين، استراح عمر، ونزلت عباراتها بردا وسلاما على قلبه الذي لم يخطئ الاتجاه.
كان عمر يصارع على جبهات متعددة، كان يحلم بأن يصبح كاتبا مرموقا وأن يكون نفسه فكريا وعقديا حتى يستطيع أن يتحرر من قيود التخلف التي كانت تهدد مستقبله.
تخلت عنه العائلة والعشيرة في سن مبكرة، وألهمه الله حب طلب المعرفة فلم ييأس أبدا، وإلى جانب تعلمه كان يشتغل في أي شيء حتى يضمن مصروفه اليومي وتكاليف الدراسة والإيجار، كانت بهية قد اطلعت على تفاصيل حياته منذ صباه وكبرت فيه نشاطه وتحديه للحياة... وكانت كلما قص عليها قصة من قصصه الغريبة ازدادت تعلقا به وتمسكا بشخصه.
حينما أفضى كل مهما بحبه للآخر لم يكونا قد التقيا أو تقابلا بعد، وكل ما كان يجمع بينهما: الرسائل والصور الشخصية، سألته مرة.. عن المواصفات التي يرغب أن تكون متوفرة في محبوبته، ولم تنتظر الرد بل تابعت في رسالتها... تصف نفسها وتصرفاتها وتعد سلبياتها وإيجابياتها، وقالت إنها لا تنبهر برجل غني بالمال بقدر ما ترغب في زوج مثقف يؤمن بالله ويرعى حرماته، إضافة إلى إيمانه بالتغيير والعمل من أجل بناء مجتمع إسلامي متكامل وعادل.
لم تكن بها سلبيات كبيرة فهي تملك كل مقومات الأنثى، وتمتاز بالديناميكية والمرح، ولكنها كانت سريعة القلق وشديدة الغيرة، فإذا سمعت كلاما فهمت منه شيئا يؤذيها، إنفعلت ولن تستطيع بعد ذلك أن تصرفها عن الاهتمام بالموضوع إلا إذا كنت دبلوماسيا من طراز خاص، كانت هذه واحدة من معاناة عمر معها، ولكنه تغلب على الأمر بتفاديه لكل ما يحرجها أو يسبب لها إزعاجا في حياتها... وبسبب هذا التفهم ضاعفت من حبها له حتى أصبح ملجؤها الوحيد، لدرجة أنها كانت تبثه مشاكلها مع الأسرة ومشاكل الأب والأم والعائلة عموما، لقد كانت تشتكي له دائما من سوء تصرفات والدها مع والدتها، حيث الأب مدمنا على الخمر وكلما شرب هذه الآفة يشبع الأم سبا ولعنا وضربا، لدرجة تصل أحيانا إلى التهديد بالطلاق، وكانت تجد في شكواها إليه بعض الطمأنينة. كانت تستريح دائما إلى اقتراحاته وتوجيهاته وهكذا ظلت بهية تركن إلى عمر في كل الشدائد العائلية والشخصية بالإضافة إلى رضاها التام عن وضعه المادي والاجتماعي البئيس جدا، بل كانت فخورة به لأنه اعتمد على نفسه في تكوينه الفكري وتحصيله العلمي، وعلى مدى أكثر من عامين كانت الرسائل البريدية هي وسيلتهما الوحيدة لبث المشاعر، وتبادل المعلومات والأفكار، وخلال هذه الفترة كانت والدتها وأخواتها على علم بهذه العلاقة الخاصة جدا، ولم تمانع "الوالدة" في مواصلة مشوار ابنتها مع من أحبته من كل أعماقها.
لقاء...
كانت بهية تقوم بزيارات دورية للعاصمة لإحياء صلة القرابة بينها وبين بعض أفراد عائلتها، ولم تتح لها الفرصة لأي زيارة منذ ارتباطها (بريديا) ب: عمر، وفي العام 1982 قررت قضاء إحدى عطلها المدرسية بالعاصمة وكان الهدف مشتركا بين عمر وبهية، وظلا معا ينتظران هذه الفرصة التي ستمكنهما من التعارف أكثر ومن التقارب أكبر ورغم أن هذا هو لقاءهما الأول فإن أحدا منهما لم يشعر بغربته عن الآخر، لقد قالا كل شيء في الخطابات المتبادلة، وربما لو كان التقيا من غير المراسلة لما حصل بينهما هذا التقارب، فقد حصل اقتناع مسبق بأن كل منهما صورة طبق الأصل للآخر، وكأن الله خلقهما ليلتقيا، ولم يزدهما اللقاء إلا تماسكا وارتباطا أكثر، وهكذا كلما مرت فترة أو وقع حدث ما، إلا وازدادا ارتباطا، خاصة وأن عمر كان على صلة بالأحداث وكانت الأحداث شديدة الصلة به، وكان معرضا دوما للمساءلة والتوقيف، لم يكن راضيا عن وضعه الفكري على الأقل، فقد حرم من متابعة الدراسة وهو طفل صغير، بسبب فقر العائلة أولا، وعدم تفهم هذه العائلة لطموحاته الكبيرة ثانيا، ومن ثم أخذ على عاتقه تربية نفسه بنفسه وكانت مشكلته الرئيسية أن يتعلم، فقد كان أقرانه يطمحون إلى العمل لكسب المال واستثماره... وكان يطمح لكسب المعرفة بأي ثمن، ومن هذا المنطلق كان عمر معتمدا على نفسه متوكلا على الله، فتعلم وعلم، كان شعاره في هذه المرحلة "واتقوا الله ويعلمكم الله" ربط عمر علاقات متنوعة مع مختلف التيارات الفكرية داخل وخارج المغرب وكسب العديد من الصداقات مع شخصيات علمية متعددة خصوصا في المشرق العربي، وكانت هذه المعطيات حاضرة في لقائهما الأول، وبدت بهية متخوفة من كل هذه النشاطات التي من شأنها أن تعكر صفو حبهما في يوم ما، وطلبت إلى عمر أن يفكر في نفسه ومستقبله ومحبوبته، وبررت طلبها بأنه إذا كانت مسئوليتنا في المجتمع جسيمة فإننا جزء من هذا المجتمع ونحن لا نملك سلطة التغيير، فقط نصلح أنفسنا ونحاول إصلاح الآخرين من خلال قدوتنا لهم في الأقوال والممارسات...
ودار حديث طويل في هذا الموضوع كانت محطاته، شوارع الرباط الرئيسية وبعض الأماكن الأثرية مثل قصبة لوداية، إضافة إلى بعض المقاهي ومحطات الحافلات... كانت تقضي معظم يومها إلى جانبه وتستريح بالليل عند عائلتها التي كانت موزعة بين سلا والرباط، وكان جل أفراد هذه العائلة على علم بعلاقة بهية مع عمر، والعديد منهم تعرف على عمر، فلم يكن هناك مانع لديه من التعرف على أي فرد من أفراد عائلتها، اقتناعا منه أنها حبه الأول والأخير، وبسبب هذه "الشفافية" التي كان يمارسها مع "العائلة" كسب ودهم جميعا وتقديرهم واحترامهم سواء الذين تعرفوا عليه مباشرة أو سمعوا عنه فقط.
لم يكن لقاءهما الأول عابرا بل كان "لقاء عمل" بمفهوم الاقتصاديين والسياسيين الذين يلتقون في مؤتمر أو تجمع لدراسة القضايا التي من شأنها الدفع بمؤسساتهم للأمام ولم تكن قضية عمر وبهية أقل شأنا من هؤلاء ، فقد تبادلا عشرات، بل مئات الرسائل على مدى أكثر من عامين قالا فيها كل شيء يعتبر نظريا، ولم يبقى إلا ما يمكن أن يكون تطبيقيا لتلك النظريات، كانت بهية في هذه الفترة تتابع دراستها بالثانوي بمسقط رأسها بإحدى مدن الجنوب (....) وكانت نتيجة هذا اللقاء تشبث كل طرف بالآخر واتفقا على مواصلة المسير رغما عن كل العراقيل التي كانت توضع في طريقهما من شتى الجهات.
ولحدود هذا اللقاء لم يكمن والد بهية يعلم بعلاقة إبنته مع عمر، فقط كانت والدتها وأخواتها والعديد من أفراد العائلة هم المحيطون بجوانب هذه العلاقة.
بعد عودتها إلى بيت العائلة في نهاية العطلة الربيعية أفضت إلى والدتها برغبتها في إخبار والدها بالأمر... وكعادة الأمهات مع بناتهن لم تتردد في تلبية طلب إبنتها، والد بهية سبق له أن اشتغل بإدارة الأمن وهو على قدر من المعرفة بشؤون السياسة والسياسيين، وإلى هذه اللحظة كان متقاعدا ويشتغل بالقطاع الخاص.
بعد إبلاغه بفحوى العلاقة أصر على أن يعرف كل شيء عن هذا المجهول الذي سيرتبط بابنته التي يحبها أكثر من باقي بناته وربما لم يفضل عليها إلا الإبن الوحيد الصغير والمدلل.
ومن البديهي أن يعترض والد بهية على أي خطوة تزيد في تقريب إبنته من عمر بعد أن عرف عنه كل شيء، وسبب اعتراضه الرئيسي يتجلى في كون "عمر" منخرط في العمل السياسي الذي يعتبر "شبهة" تضع على صاحبها أكثر من علامة استفهام،(في تلك الفترة من تاريخنا كان كل شخص يعبر عن رأيه يعتبر مناهضا للنظام الملكي بطريقة أوتوماتيكية)ومن الطبيعي أن أي أب يرغب لابنته أن تكون حياتها الزوجية آمنة ومستقرة، وحياة السياسيين معرضة دائما للخطر... (الملاحقات، الاعتقالات، الخ..)
حاولت بهية بمساندة والدتها إقناع الأب بتغيير رأيه على اعتبار أن الاشتغال بالسياسة ليس جريمة يكون عقابها التفريق من المحبين.
ولكن إصرار الوالد على موقفه تولد عنه الشعور بالإحباط والقلق لدى بهية التي رفضت كل من تقدم إليها وكلهم بعيدون عن الشبهات السياسية ووضعهم المادي مستقر، وفضلت عمر لأنه في نظرها الأهم من هؤلاء جميعا وثروتهم ومناصبهم وجاههم، (هكذا أفضت إلى محبوبها ذات مرة).
رسالة غيرت مسار الطريق
بعد أن بذلت كافة الجهود، وتدخل العديد من أفراد العائلة للتوسط لدى الأب، ظل هذا الأخير مصرا على رفضه لهذا الحب الذي نشأ بين ابنته الصغرى وهذا "الغريب" الذي استطاع أن يزرع فيها كل هذا التأثير لدرجة أضحت من خلاله بهية لا ترى شخصا سواه.
واستمرارا لهذه الرغبة في الارتباط بمحبوبها غادرت بهية البيت ذات صباح في اتجاه المدرسة، تاركة لوالدها رسالة على مكتبه تتضمن هذه العبارات:
" أبي العزيز... أنا ابنتك... أليس كذلك؟ وأنت تحبني، وهذا صحيح.. (إذا كان الأمر كذلك) فيجب أن تقبل بارتباطي بمن أحببت... (وصارت تعدد له الأسباب، وتصف له أخلاق عمر وشجاعته في مواجهة العواصف وصدق مشاعره تجاهها... وأضافت:
إنني لا أقبل بغيره مهما كلفني الأمر وإذا كنت تعزني حقيقة فعليك أن تقول نعم لعمر...
إبنتك بهية"
غادرت بهية البيت وهي ترتجف من ردة فعل والدها المتوقعة وصارت تعدد الردود وتتخيلها وتحسب لها ألف حساب وعادت من المدرسة، وهي جاهزة لتقبل أي رد فعل من والدها مهما كان.. كانت أول من استقبلها والدتها التي سارعت إلى إبلاغها قرار والدها القاضي باستقبال عمر، والحديث معه في هذا الأمر، شريطة أن يكون اللقاء خارج عن الإطار الرسمي للخطوبة..
لم تصدق بهية أذناها وهي تستمع إلى والدتها، طارت فرحا وخلت بنفسها في غرفتها الخاصة، وعلى الفور أخذت قلما وورقة وكتبت إلى عمر رسالة قصيرة أبلغته بالخبر الذي أسعدها وطلبت منه أن يقوم بزيارة عاجلة إلى الجنوب ليتحدث إلى والدها في الأمر..
استجاب /عمر/ للدعوة على الفور، وخلال اللقاء الذي جمعه بوالد محبوبته لم يلاحظ هذا الأخير على عمر أي اندهاش في الحديث أو تردد في الإجابة عن كافة الأسئلة التي طرحها عليه، والحقيقة أن والد بهية ارتاح كثيرا لهذا الشخص الذي عانى من إزعاجه لبعض الوقت، لدرجة أنه قدم له اعتذارا عن معارضته السابقة للأمر..
وكان شرطه الوحيد على عمر ألا يتم عقد القران إلا بعد أن تنهي بهية دراستها الثانوية وتحصل على شهادة الباكالوريا (الثانوية العامة) ولم يمانع عمر في الموضوع لأسباب كثيرة، ويكفيه أن الحاجز الوحيد الذي كان يقف حائلا بينه وبين محبوبته قد إنزاح من الطريق وما عليه إلا أن يتفرغ للخطوة القادمة.
تحضيرات
في ربيع نفس العام قام والد بهية بزيارة غير مفاجئة لعمر بمسكنه المتواضع المستأجر بحي قديم بمدينة الرباط ولم يكن هذا المسكن إلا عبارة عن غرفة واحدة ومطبخ مشترك مع عدد من المقيمين، ولم يكن عمر مستقرا، وفي هذه الفترة كان مجرد متعاون مع بعض الصحف، بالإضافة إلى عمل تجاري بسيط كان يديره بالمدينة القديمة للعاصمة...
وبالرغم من تواضع السكن والعمل وقلة الإمكانيات فإن والد بهية ازداد قناعة يشخص عمر، ولخص رؤيته تجاهه بقوله: "أنت يا إبني إنسان طموح... ولا شك أن أفكارك ستفيدك في مستقبلك وأنا أتنبأ لك بوضع أحسن من هذا الذي تعيشه اليوم. لكن عليك أن تعمل وتجتهد حتى تحقق الكثير إن شاء الله" كان يوما ربيعيا مشمسا قضاه عمر إلى جانب صهره المرتقب وهو يتوجس خيفة بين الفينة والأخرى أن يلاحظ والد بهية أي ملاحظة تشككه في صدق سريرته، خاصة ما يتعلق بالأنشطة السياسية، حيث كان عمر قد وعد والد بهية في وقت سابق بأن يحجم عن ممارسة أي نشاط سياسي إرضاء له.. لكن عمرلم يستطيع أن يلتزم بهذا الوعد بالرغم من أنه خير في المدينة الجنوبية بين خيارين(بين بهية والسياسة) فكان وعده لوالد بهية أن يحجم عن السياسة مقابل ظفره بمحبوبته، لكن ارتباطه بالآفة الأولى كان أقوى من أن يلتزم بأي وعد بالتخلي عنها خاصة وقد إرتبط بها منذ كان صبيا وسكن هواها فؤاده قبل أن يعلم بوجود بهية.. وعلى هذا الأساس فإنه كان من الصعب عليه أن يتخلى على آفته أو بالأحرى محبوبته الأكثر قداسة وهي :الحرية (أو بتعبير آخر محبوبته السيئة).
من الأشياء التي أخافته وهو برفقة والد بهية أن يعترضه حادث زيارة "أهل البلد" حيث لم يكن يخلو يوما دون أن يقوم رجال الليل والنهار، ورجال البلاد كلها ـ بزيارته واستنطاقه.. ومساءلته وربما اقتياده للمخفر أومركز الأمن لاستضافته بضعة أيام على الأقل، ومن حسن حظ عمر، أن شيئا من هذا لم يحدث طيلة يوم بالتمام والكمال.
توادع ـ الصهران ـ المرتقبان وهما جد مرتاحان لبعضهما.
قبل أن يصل والد بهية مقصده بالجنوب، كان عمر قد حرر كتابا إلى محبوبته يشرح لها فيه تفاصيل لقائه بوالدها ويبشرها بأن كل شيء في طريقه العادي، ولم تعد هناك عقبات أو أشواك في الطريق.
كان البريد هو وسيلتهما الوحيدة للاتصال و "الالتقاء" إذ لم تكن هناك هواتف نقالة ولا انترنيت ولا شيء. حتى الهواتف الثابتة لم تكن متوفرة عند العامة من الناس، وكان من يملك خطا هاتفيا يعتبر محظوظا وكانت هذه الحالة تنطبق على عمر وبهية، فلا هو يملك خط هاتفي ولا هي، وفي أحسن الأحوال كانت تخاطبه عبر هاتف أحد أصدقائه بالعاصمة من حين لآخر وفي حالات الاستعجال القصوى، وكان هذا الصديق يحفظ كافة أسرار عمر، إذ كانت بهية تستطيع أن تحدثه عن علاقتهما الخاصة بنوع من الارتياح.
وهو بالمناسبة صديق أزمات، ولا شك أنه سينال حظه من الذكر في هذه الأشواك.
عاصفة جديدة
خلال زيارة والد بهية لعمر كانا قد تواعدا بأن الربيع المقبل من نفس العام 1984 هو موعد الخطوبة الرسمية، لكن "أهالي البلد" لم يمنحوا عمر هذه الفرصة الربيعية الجميلة... ففي الثالث والعشرين من شهر كانون الأول (ديسمبر) 1983 استعجل أهل البلد اعتقال عمر من جديد وسيق به ضيفا كريما إلى مفوضية الشرطة الرئيسية بالرباط، وكانت التهمة هذه المرة تحرير منشورات سياسية تسيء إلى النظام القائم في البلاد.
في كافة اعتقالاته ومضايقاته المتعددة كان أهل البلد يعاملون ـ عمر ـ معاملة خاصة جدا، إذ كانوا يودعونه زنزانته ويتركونه.. بلا أسئلة، وبلا تعذيب... ردحا طويلا من الزمن، لأن الساعة الواحدة في مخفر الشرطة أو داخل جدران الزنزانة = عاما كاملا، خاصة حينما يعمد الجلادون إلى استخدام العنف النفسي، فهو أقوى وأقسى من العنف الجسدي.
هذه المرة استضيف عمر داخل مرحاض رفقة أكثر من (30) شخصية سياسية وازنة في البلاد لمدة 33 يوما كاملة وبعدها قدم عمر رفقة بعض الضحايا إلى المحكمة بمحضر مزيف منع عمر من الاطلاع على فحواه,, رغم تجرئه على الضابط الذي طلب منه التوقيع بالاطلاع على محضره لكن الضابط كان جريئا أكثر منه، إذ قال له بالحرف: "إما أن تمضي على ما كتب بمحض إرادتك، وإلا "فلقت" (ضربت) رأس أمك بهذا العصا (وأشار إلى عصا كان يداعبها بيده اليمنى) واسترسل الضابط: وسنوقع نيابة عنك ونرسلك إلى السجن رغما عنك، إن هذا المحضر لا يتضمن أقوالا أعددناها نيابة عنك فقط، بل يتضمن كذلك المدة التي سيحكم بها عليك بالسجن والغرامة. انتهى كلام الضابط .
خضع عمر للأمر الواقع فأمضى محضره متوكلا على الله.
إلى الجنة (..)
انتقل عمر من مرحاض المفوضية الرئيسية للأمن إلى السجن عبر بوابة المحكمة الابتدائية بالعاصمة رفقة أكثر من 120 معتقلا يساريا وشيوعيا، وكان الإسلامي الوحيد ضمن هذه المجموعة الضخمة من المعتقلين الذين وجهت لهم تهم مختلفة بمناسبة ما عرف في مصطلحات السياسة المغربية بأحداث يناير (كانون الثاني) 84، وتلك قصة أخرى، استقر عمر داخل السجن كغيره من السجناء. وبعد أن استرجع تفكيره باغته شبح محبوبته، خاصة وقد دخل والدها على الخط...ماذا سيقول لها، وكيف سيكون موقفها في ظل هذه المستجدات، وبالتالي ما موقف والدها؟ ظلت هذه الأسئلة تؤرق عمر، لم يفكر في مصير محاكمته والمدة التي حددها النظام سلفا لتغييبه عن الساحة، بل أضحى مشكله الوحيد هو هذا السؤال: ماذا سيقول لبهية؟ هل يبعث لها برسالة من داخل السجن أم يكلف أحد أصدقائه بمهمة إخبارها أم ماذا؟ خاصة وربيع الخطوبة على الأبواب، ولم يعد الزمن يحتمل أكثر من شهرين وكان عمر يدرك جيدا أن مدة "العقوبة" ستكون أطول من هذا التاريخ بكثير..
لم يعبأ عمر بالمحضر الذي طبخه البوليس وقدم بموجبه للمحاكمة غير العادلة... لأنه كان يعرف أن هناك حسابات تصفى بينه وبين أجهزة النظام القائم وتوقع أن تكون العقوبة قاسية جدا لذلك سارع إلى كتابة رسالة اعتبر أنها ستكون الأخيرة لبهية، إذ خاطبها بمثل هذه العبارات:
عزيزتي بهية: ها هو القدر مرة أخرى يقف حائلا بيني وبينك، لعلك تفاجئين بهذا الخطاب الذي يأتيك من داخل أسوار السجن... وقد ترددت في كتابته إليك، خاصة وأننا هناك ملزمون بكتابة الرسائل على أوراق ومغلفات رسمية، وأن هذه الرسائل معروفة للعيان بأنها صادره من السجن، لذلك فأنا مرغم على استخدامها لأبلغك اقتراحا طالما ترددت في عرضه عليك بدءا من دخولي مفوضية الشرطة التي قضيت بأحد دهاليزها 33 يوما بالتمام والكمال، وقد أرغمت على ذلك متألما... أقترح عليك أن ننهي ما بيننا، لأنني إذا كنت قد اخترت هذا الطريق الشائك عن طواعية فأنت غير ملزمة باتباعه وسأكون سعيدا جدا إذا وفقك الله في اختيار الشريك المناسب.
كان ردها مختلفا تماما عما تصوره عمر وهذه مقتطفات من رسالتها إليه:
عزيزي عمر: قال الله تعالى:"قل لن يصيبنا إلا ما كتبه الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المتوكلون" صدق الله العظيم أنت لم ترتكب جرما ولم تقم بحماقة، أنت صاحب دعوة وفكر، ولا بد من مثل هذه الابتلاءات "ونبلوكم بالشر والخير فتنة.."
إنني حتما سأضطر لتبرير غيابك عن موعدك لأبي بكذبة بيضاء أسأل الله ألا يسجلها في دفتر أعمالي... سأقول له أنك سافرت مضطرا إلى خارج الوطن وسأنتظرك حتى تخرج من معتقلك سالما معافى إنشاء الله.
لن أبحث عن شريك، فأنت الشريك الذي اخترت ولن أسمح لأي امرأة في هذا العالم أن تحبك فقط أنا التي من حقي أن أحبك.."
وتبديدا لتخوفاته من الرسالة التي بعثها إليها على ورق السجن الأزرق، ومن أن يكون أحد من العائلة قد وقعت بين يديه، قالت له: اطمئن، فقد ساقني القدر من المدرسة إلى باب البيت لألتقي مع ساعي البريد قبل أن يضع رسالتك في صندوق بريد البيت فسلمني إياها رأسا. وطلبت إلى عمر أن يغير اتجاه المراسلة إلى بيت عمتها التي تحافظ على أسرارها.
حكم على عمر ابتدائيا بسنة سجنا نافذة مع غرامة، وتم تأييد الحكم استئنافيا بعد ستة أشهر من المراوغات "القضائية" و"البوليسية" وفوض عمر أمره لرب العباد، ولم يكن قد وجد أية صعوبة في التأقلم مع محيط السجن، إذ ليست المرة الأولى التي يتم اعتقاله فيها، ومن ناحية ثانية كان كل يوم يتوقع ذلك، فقد غدت الاعتقالات جزء أساسيا من حياته، ومن الطريف في هذا أنه قبل اعتقاله الأخيربساعات معدودة كان قد تناول وجبة الغذاء مع أحد أصدقائه الموثوق بصداقتهم بأحد المطاعم الشعبية بالرباط وتم اتفاق بين الصديقين على خطة تقضي بأن يغادرا الرباط في اتجاه مدينة أخرى لم يكن صديقه هذا مسيسا بالمعنى الحقيقي للكلمة، لكنه كان متعاطفا مع قضيته، وأسر عمر إلى صديقه بأنه يشعر بشيء ما وأن قلبه ينبئه بحدوث مكروه، لكن الصديق قلل من توجسات عمر، لكن توقعات عمر كانت حقيقة واقعة قد سجلها القدر في سجلات حياته،فبمجرد عودته من صلاة العصر إلى مقر عمله، فوجئ بأربعة أشخاص لا يعرفهم في انتظاره، بدأهم بالتحية وسأل أحدهم إلى أين نذهب هذه المرة؟ ابتسموا جميعا لسؤال عمر المفاجئ بالنسبة لهم، ورد أحدهم:
ـ هل عرفتنا؟
ـ أجاب عمر: نعم، أنتم بوليس أليس كذلك؟
ـ أجاب أحد الأربعة: لا تقلق فقط يريدك رئيسنا لطرح بعض الأسئلة وتعود بسرعة.. فعلا.. عدت بسرعة.
ـ بعد 13 شهرا وثلاثة أيام فقط.
رسائل من و إلى السجن
أمام إصرار بهية على مواصلة الطريق مع عمر ترسخ لدى هذا الأخير بأن كل نساء الدنيا لا قيمة لهن أمام هذه الشابة اليافعة التي لم تكن قد أتمت ربيعها الثاني بعد، كانت صغيرة السن، رقيقة القلب، لكنها كانت حقا كبيرة العقل راشدة الفكر.
كانت رسائلها من المدينة الجنوبية الرائعة إلى سجنه البئيس بالعاصمة التي أنشأها الاستعمار مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي (بعد نقلها من فاس) تنسيه قساوة الجدران الأسمنتية التي كان يقضي فيها عمر أيام وشهور سجنه، وكانت هذه الرسائل ربما تزين له أيام السجن المريرة، كان يكتب لها رسالة واحدة ويتلقى منها إثنتان وثلاثة في الشهر، كانت خطاباتها تشجعه على الصبر وتحمل البلاء، كانت تفتتحها بالآيات القرآنية الكريمة وتتوسطها بأحاديث النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وتختتمها بالدعاء "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، واصبر وما صبرك إلا بالله، ولا تحزن... واصبروا إن الله مع الصابرين..إلخ من الآيات الكريمة التي تحث على الصبر وتحمل البلاء".
لم يكن عمر ينتظر زيارات كثيرة.. فوالده رحمه الله جاء إلى الرباط مرة واحدة بهدف زيارته فلم يتمكن... ووالدته وشقيقه ما بعد الأكبر (رحمه الله) زاراه مرة واحدة، حيث كانت المسافة تفصل بين مقر سجن عمر ومقر إقامة عائلته (حوالي 400 كلم)، والأصدقاء أحجموا عن زيارته إلا قليل منهم (.) لذلك لم يكن عمر ينتظر زيارات، بل كان ينتظر رسائل محبوبته فقط التي كانت مصدر تحمله على البلاء.
ماذا جرى؟
مرت الأيام والشهور وانتهت العقوبة (القضائية) وبدأ عمر مشوارا جديدا مع عقوبات الزمن.. هكذا ابتدأ حياته وهكذا مرت أيامه وسنوات عمره، مليئة بالأحزان... والعقبات والأشواك، من حادث إلى آخر ومن طامة إلى أخرى وبالموازاة مع عراقيل الزمن وأنانيته كان عمر يواجه كل هذه الإحباطات بالصبر ومحاولة التطلع إلى ما هو أفضل، كان يعلم أن القدر اختاره للأزمات ومسايرة الظروف الأليمة، سكنه العناد مع نفسه، إذ كان يمارس القسوة مع هذه النفس التي تسكنه حتى يتخلص من آثارها السلبية تحاشيا لأي دمار قد تحدثه الهزات الأمنية التي كانت تعصف به من حين لآخر، لدرجة أنه أصبح يملك قدرة كبيرة على التأقلم مع هزات الدهر وأزماته المتكررة.
هكذا كان... لقد عرف أن قدر الله الأعظم أقوى من كل شيء، لذلك كان يستجيب لمستجدات هذا القدر بقوة وتحمل شديدين لم يلين ولم يستكين يوما، كان الأصدقاء يحترمونه على قوة تحمله وصبره وكان غيرهم يحسدونه ويزرعون في طريقه الأشواك بسبب ما أوتي من خبرة في الحياة وقدرة على تحمل البلاء، كان يحترم أولئك ويصفح عن هؤلاء، آمن منذ نعومة أظافره بأن ما قدر له لن يكون من نصيب غيره، وأن ما قدر عليه لن يتحمله أحد سواه، ذات مرة سيق به إلى مكان مجهول معصوب العينين حتى وجد نفسه داخل مكتب علم فيما بعد أنه يقع بالطابق العلوي لأكبر مفوضية أمن بقلب العاصمة، وخضع هناك لاستنطاق دام من العاشرة صباحا حتى السادسة مساء بدون توقف، كان أربع ضباط من جهاز المخابرات يتناوبون على استنطاقه، كان الاستنطاق أقوى من التعذيب.. إنك لا تستطيع أن تتحدث طيلة ثمان ساعات بدون توقف، هذا صعب، كانت الأسئلة تدور حول موقف عمر من الملكية والملك تحديدا، وكان جهاز المخابرات يتوفر على أرشيف كامل بتحركات عمر وخطبه في المساجد ومحاضراته ودروسه، وكانت تلك المستندات ـ طبقا لمستنطقيه ـ ينتقد فيها النظام وموقفه من الشريعة الإسلامية، لم ينكر عمر أية تهمة وجهت إليه، كلن صريحا جدا حتى أن مستجوبيه احتاروا في صراحته، فسأله أحدهم .. ألا تدري ما هو مصيرك الآن؟
ـ أجاب عمر بهدوء: ما هو؟
قال أحدهم "الإعدام" قاطعه آخر مقللا من العقوبة قائلا.. لا يا سيدي "المؤبد فقط" قال ثالثهم "لا" لا تخيفوا الأستاذ.. لقد كان صريحا معنا ولم يتعبنا في شيء..
ـ أجاب عمر: هونوا على أنفسكم جميعا.. لماذا تتعبون أنفسكم أليس الله أقوى منكم جميعا؟ أنظروا (وأشار بيده إلى لوحة جميلة معلقة على الحائط) وقد كتب عليها بخط رائع حديث إبن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث القدسي عن رب العالمين: "عبدي.. أنت تريد وأنا أريد فإذا سلمت لي فيما أريد أعطيتك ما تريد وإذا لم تسلم لي فيما أريد منعتك ما تريد ولا يكون إلا ما أريد.. واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف" تأمل الضابط هذا الحديث القدسي الشريف، ثم التفت إلى عمر مسائلا: ماذا تعني؟
أجابه عمر مبتسما: رفعت أقلامكم وجفت صحفكم، وإرادة الله أقوى مما ستقررون ضربوا جميعا أكفهم على الطاولة وقالوا بلسان واحد "راسو قاصح".
هذه قصة واحدة فقط من عشرات القصص التي عاشها عمر في مخافر الشرطة ومكاتب المخابرات، وحتما ما قدره الله كان أقوى بكثير مما قرره هؤلاء المساكين، لم يساق عمر إلى المشنقة ولم يحكم عليه بالمؤبد، بل قدر الله أن يقضي 17 يوما في ضيافة "الديستي" بحي أكدال الراقي بالعاصمة وأفرج عنه بقرار شخصي لشخصية نافذة في نظام الملك السابق رحمه الله.
للقصة بقايا...
عبد النبي الشراط