أزمة قراءة أم أزمة كتاب؟
بقلم: سري سمّور

هل لدينا مشكلة أو أزمة قراءة حقاً؟ هذه مشكلة يؤكد وجودها خبراء ومتابعون وأساتذة جامعيون؛ بل إن بعضهم يُقدّر معدل الوقت الذي يُخصصه الإنسان العربي للقراءة بعشر دقائق سنوياً فقط..!!
وانتشرت مقولة: أمة إقرأ لا تقرأ، في مختلف الأوساط الثقافية والتعليمية وصولاً إلى أحاديث الناس فيما بينهم، وقدم بعضهم أسباباً مختلفة لتراجع أو شحّ القراءة والاطلاع لدى الفرد العربي، منها، على سبيل المثال لا الحصر، ثورة تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، لا سيما انتشار القنوات الفضائية، وشبكة (الإنترنت)، خاصة مواقع التواصل الاجتماعي مثل (فيسبوك) و(تويتر)، وميل الفرد إلى متابعة هذه الوسائل والتعامل معها، وتـفضيلها على الكتاب، بل لربما خلقت عنده نوعاً من الفتور أو حتى النفور من الكتاب..!!
ومع أن الكتاب "الإلكتروني" هو من مخرجات تكنولوجيا المعلومات الحديثة، وارتباطه بـ (الإنترنت) شبه عضوي، إلا أن وجوده لم يُحسّن حركة القراءة كثيراً، حتى مع وجود بيئة صديقة للقارئ والقراءة وفرها الـ (كمبيوتر) اللوحي (الآيباد).
من وجهة نظري فإن الأزمة هي أزمة كتاب، أكثر منها أزمة قراءة، وأحد أهم أسباب الأزمة وأبرزها هو الميل نحو قراءة الجمل المختصرة والقصيرة، وهو ما توفره مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة (تويتر) ـــــ 140 حرفاً كحدٍ أقصى للتغريدة الواحدة ـــــ، وحتى في (فيسبوك) الذي يُتيح للمستخدم كتابة منشور (بوست) طويل، إذا أراد، فإن القارئ ربما يشعر بالملل والعجز عن التركيز بعد السطر الثالث، أو الخامس، وحين تلجأ لوضع رابط لمقال معين في مواقع التواصل فإن المتابع قد يفتح الرابط لكنه قد لا يقرأ المقال كاملاً... هناك من يرى أن النزوع إلى الاختصار، سواءً إجبارياً مثلما هي بيئة (تويتر)، أو إختياريا مثلما هي بيئة (فيسبوك) ـــــ لمعرفة من يكتب أن القارئ سيمل سريعاً ـــــ تُحفز العقل، على عصر الأفكار وتـقديمها بكلمات قليلة، بدل الإسهاب والإطناب، وقول ما يلزم، وما لا يلزم، وتُساعد على تـثـبيت المعلومة في الذهن؛ وبالنسبة لي أرى أن الفكرة ليست جديدة تماماً، فمثلاً أوراق التقويم اليومي (الروزنامة) يوجد على كل ورقة منها معلومة دينية أو علمية أو سيرة ذاتية مختصرة لأحد المشاهير، أو حِكمة أو أبيات شعر مختارة أو حديث عن مناسبة تتوافق مع تاريخ معين...إلخ وهي ورقة صغيرة مساحتها حوالي 30 سم2 ومعدل ما يُكتب عليها حوالي 100 كلمة؛ ففكرة التغريدات ليسـت جديدة، لكن التقنيـة تطورت!
ولكن هذه الاختصارات لا تُغني عن القراءة المفصلة، والرجوع إلى الكتب والمراجع؛ فحتى القرآن الكريم فيه سور قصيرة، وأخرى طويلة، وفيه آية الدَّين وهي أطول آية في الكتاب العزيز، وهي في أطول سور القرآن الكريم، سورة البقرة/ آية 282 فهذا حال كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فكيف مع كلام البشر الموسوم بالنقص، مثلما يقول العماد الأصفهاني؟
ولكن لو جمعنا ما يقرأه "المفسبكون" و"المغرّدون"، خلال ساعتين من نشرات وتعليقات، نرى أنه لا يقل عن عشر صفحات كحد أدنى، وهم أنفسهم من يشعرون بالملل الشديد عند قراءة صفحتين من كتاب، هذا عوضاً عما يقرؤونه على الشريط الإخباري المتحرك على شاشات الفضائيات المختلفة، والرسائل التي تصل إلى أجهزة هواتفهم المحمولة، ناهيك عن تصفحهم السريع لمواقع (إنترنت) معينة حسب ميول الشخص... فالشـخص يقرأ كثيراً، من حيث عدد الكلمات والسـطور، ولكن ليـس من كتاب، سـواءً أكان الكتاب ورقياً أم "إلكترونياً"، مما يضع علامة استفهام كبيرة حول ما يُطرح عن أزمة القراءة، بالمعنى المجرّد، وما يقوم به البعض بنفي صفة القراءة عن الفرد العربي عموماً؛ فالعربي يقرأ كثيراً، ولكن ليس من الكُتب؛ وهنا قد يقول قائل إن القراءة هنا سطحية، ولا يقرأ الفرد أفكاراً مفيدة، أو معلومات ذات قيمة تُذكر؛ وهذا أيضاً حكم يفتقر إلى الدقة؛ فمثلاً أنا عادة عند كتابة مقال أقوم بتقطيعه إلى فقرات وجمل قصيرة أنشرها على صفحتي في موقع (فيسبوك)، ولست متفرّداً بهذه الطريقة، وهناك من يقرأ، وهناك من يقتطعون جملاً وعبارات من كتب قيّمة وينشرونها بذات الطريقة، فكثير مما يُنشر على (فيسبوك) و(تويتر) مقتطع من كتب ومقالات، وليس مجرد عبارات وجمل سطحية، ولا ننفي أن البعض يميل للأمور السـطحيـة والفكاهات أكثر من الأفكار العميقـة، والحِكم والمعلومات المفيدة، والعبارات الرصينـة، لكن نسـبتهم ليسـت فوق الحد الطبيعي، وميولهم لا تمنعهم من مطالعـة وقراءة ما يُخالف هذه الميول.
فهل بات القارئ يُحبذ "الوجبات السريعة" أو تناول "الطبق على دفعات"، تماماً مثل تناول المريض جرعات الدواء؟ وإذا كانت الإجابة نعم، فما السبب؟ أرى أنه للإجابة على السؤال لا بد من النظر إلى الكتب، والتدقيق في أسباب عزوف ونـفور الفرد عن قراءتها والانتفاع بها وبمحتوياتها، مثلما يُقبل على قراءة ما يُنشر على (فيسبوك) و(تويتر)، وشاشات الفضائيات؛ والأسباب كثيرة ومتنوعة، ولا شـك أن التربيـة والتشـجيع على القراءة عامل مهم؛ وأنا شخصياً أحرص على ابتياع مجلة مطبوعة شهرياً لطفلتيّ (10 و 8 أعوام) تحوي قصصاً قصيرة ملونة ومعلومات مختلفة ومسابقة ثـقافية، وأقوم بأخذهما إلى مكتبة البلدية العامة وتحديداً إلى الجناح المخصص للصغار، مرة في الأسبوع، فتقومان بالقراءة لمدة ساعة، وتستعير كل منهما بعض القصص المصورة، والنتائج جيدة ولله الحمد، وطبعا طفلتيّ مثل باقي الأطفال تتابعان قنوات الأطفال المتلفزة، وتلعبان ألعابا إلكترونية على (الإنترنت)، وتلهوان وتلعبان مع بقية الأطفال، فليـس بالضرورة أن تُلغي عادة القراءة ما بات من يوميات الطفل ونشـاطاتـه المعتادة الأخرى، وأنا أطرح تجربتي الشخصية لأنني رأيت أنها نجحت، وقدمتها لغيري فنجح أيضاً.
ولكن مع أهمية الاهتمام المنزلي بحض الطفل على القراءة، فهناك واجبات في ذات السياق تقع على عاتق المدارس وسائر المؤسسات التربوية والتعليمية، فمثلاً لماذا لا يُعلن عن جائزة مالية، ومالية بالذات، لمن يقرأ أكبر عدد من الكتب ويُلخصها من الطلبة، من ضمن قائمة مختارة من الكتب..!؟ ولماذا لا يكون هناك نشاطات لمناقشة كتب معينة..!؟ أعرف أن هناك نشاطات ومنتديات تقوم بذلك، ولكنها ليست ضمن المنهج الرسمي غالباً، ونجاحها متواضع، ومن يتفاعلون معها عددهم لا زال قليلاً جداً.
والأمر المهم، وربما أهم من كل ما سـبق، هو الكتاب نفسـه، وطريقـة إخراجـه وتـقديمـه إلى القارئ؛ في الدول الغربية التي فيها نسبة قراءة مرتـفعة، هناك شركات مختصة بإخراج الكتب وترتيبها وطباعتها بطريقة تجذب القارئ وتشدّه وتحضه على الاستزادة، ولا تُشعره بالملل؛ ولعلنا نلاحظ أن كتاباً في الغرب من تأليف مسؤول عسكري أو أمني سابق، أو موظف أو طبيب أو حتى بائع بسيط يكون مكتوباً بلغة رشيقة جاذبة للقارئ، وكأن من خطّه صحافي متمرس، أو أديب عتيد، ومن المؤكد أن النص الذي نـقرؤه ليس هو النص الأصلي، من حيث ترتيب الأفكار، وعرض العناوين لكل فصل، والتعبير عن الفكرة بجمل معينة...إلخ.
فهناك كتب تفرغ منها رفوف المكتبات، ليـس بسـبب محتواها فقط، بل لطريقـة عرض وتنسـيق الفصول، وانسـيابيـة الأفكار، ورشـاقة اللغـة، والدعاية هنا ليست حاسمة تماماً، فكثير من الكتب، حظيت بدعاية وترويج، ولكن القارئ فوجئ أن الدعاية كانت أكبر من قيمة الكتاب الحقيقية، وما أضافه من أفكار ومعلومات، والقارئ ليس غبياً... ولكن الأفضل هو دعاية موزونة للكتاب مع ترتيبه وإخراجه وطباعته بأسلوب جاذب للقارئ، حريصاً على تشويقه وتجنب ضجره وملله... والساحة العربية لا تزال تفتقر إلى هذا الأمر، والحجة الجاهزة لتبرير هذا الافتقار باتت مكرورة ومستهلكة: العرب لا يقرؤون!
هناك انجذاب عربي في السنوات القليلة الماضية للروايات، قراءة ومناقشة، وحتى تأليفاً من قبل الشيوخ والشباب، وشراء واقتناء، أو إستعارة، وهو أمر جيد، ويجب ألا يُنظر له على أنه سطحي، أو مجرد (برستيج ثقافي) وفعلاً هناك روايات عربية أو أجنبية مترجمة إلى اللغة العربية تستحق عدد القرّاء الذي حازته، وهذا ينم على أن هجران الكتب نسبي، ويمكن علاجه، والإقبال على الروايات يزيد من تأكيد فكرتي: لدينا أزمة كتاب أكثر منها أزمة قراءة وقُرّاء!
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
31/07/2013
من قلم: سري سمور (أبو نصر الدين) ـــــ جنين ـــــ أم الشوف / حيفا ـــــ فلسطين