جدلية العلاقة بين القومية والدين في التاريخ والتطور الاجتماعي
(العروبة والإسلام) نموذجاً
مصطفى إنشاصي
فكرت في تقديم ورقة كدراسة تحليلية ونقدية لجدلية العلاقة بين القومية والدين في التاريخ والتطور الاجتماعي (العروبة والإسلام) نموذجاً؛ أجمع فيها بين ظروف نشأة القوميات الأوروبية الحديثة والمخططات الغربية لضرب القومية بالإسلام لتفتيت وتمزيق وحدة الأمة والوطن، ليسهل لهم الهيمنة على مقدراتنا ونهبها، ولكن بعد اطلاعي على الورقة الرئيسة التي قدمها الأستاذ (...)وكنت أتوقع أن أجد فيها إعادة قراءة وتقييم للتجربة القومية العربية ولكني وجدتها إعادة طرح للفكرة دون أي تحليل أو نقد لتجربة عمرها أكثر من مئة عام! لذلك أبدأ بطرح نفس السؤال الذي طرحه الأستاذ الدكتور أحمد محمد الدغشي الأسبوع الماضي: لماذا اليوم؟!
نعم لماذا اليوم؟! يتم طرح الموضوع بهذا الشكل في وقت بدأ فيه بعض القوميين مراجعة وتقويم تجربتهم، وبعضهم أصبح يعترف بالإسلام أنه المكون الثقافي للقومية العربية، وبعضهم بدءوا يعترفوا بخطأ إفراغ القومية العربية من هويتها الإسلامية وتبنيها مفهوم القومية الغربية العلمانية! لذلك سأحاول تقديم قراءتي التحليلية والنقدية من خلال مناقشة أهم ما جاء في الورقة لضيق الوقت لأن مناقشتها كاملة يحتاج لوقت أطول من المتاح في هذه الأمسية.
ولنبدأ الحديث عن مقومات القومية العربية التي غالباً تأثرت بمفهوم القومية الألمانية والفاشية الإيطالية، وقد ذكرني ذلك الطرح بما كتبته في الحلقة الأولى عن "الدولة الإسلامية والمدنية"، فقد كتبت:
مع احترامي لجميع الآراء القومية والوطنية المخلصة إلا أن الموقف السلبي للقوميين من الإسلام سببه إسقاطهم التجربة الغربية مع الدين على الإسلام، إضافة إلى أنها نسخة طبق الأصل لمفهوم القومية الغربية العلمانية دون إجراء أي رتوش عليها تأخذ في الاعتبار الفارق بين خصوصية التجربة الغربية والتجربة الإسلامية!
فبعض منظري القومية العربية وأقصد هنا القوميون الذين يعترفون بالإسلام مقوم ثقافي للقومية العربية؛ يزعم أن برامج الإسلاميين تخلو من أي محتوى ثقافي عروبي، ويعيد علينا أن الإسلام والعروبة صنوان وأنهما مترادفان، وأن اللغة العربية هي وعاء الإسلام ومادته ومحتواه ... وغيرها،! وكان الأولى بهم مراجعة منهجهم الانتقائي، لأن الثقافة الإسلامية هي نتاج ممارسة المسلمين للإسلام عقيدة وشريعة، وخطأهم أنهم فهموا الإسلام على الطريقة الغربية فقبلوا به محتوى ثقافي ورفضوه تشريع ونظام حكم ومنهج حياة!
كما أنهم يحتجون بحديث الرسول صلَ الله عليه وعلى آله وسلم بأن العروبة ليست جنسية ولكنها ثقافة ويعتبرون كل مَنْ كانت ثقافته عربية فهو عربي، ويأخذون على العربي المسلم تقديمه انتمائه الإسلامي على انتمائه القومي! وكان عليهم أن يتذكروا أن العقيدة الإسلامية وليس القومية العربية؛ هي التي صهرت كل مكونات الأمة على اختلاف انتماءاتها العرقية والدينية في كيان سياسي ثقافي حضاري واحد، تحقيقاً وتجسيداً لمعنى التعارف والشراكة والتنوع في القرآن الكريم، وهي التي جعلت معيار التفضيل في الإسلام التقوى وليس العرق، وأن نظرتهم العنصرية العرقية الاستعلائية ليست نتاج الثقافة الإسلامية ولكن نتاج التغريب والثقافة الغربية!
أما أولئك القوميون الذين يعتبرون الدين متغير ثانوي وليس متغير ثابت ضمن مقومات القومية العربية؛ ويزعمون وجود ثقافة عربية قبل الإسلام كانت ومازالت تميز الوجود العربي على أرضه الممتدة جغرافياً وتاريخياً من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي وغير ذلك .. للأسف أنهم إلى اليوم لم يجيبوا على سؤال:
ما هو المحتوى الفكري والثقافي الذي كان للقومية العربية قبل الإسلام؟
ترى؛ هل هو المعلقات والشعر الجاهلي؟ أم الصراعات القبلية التي كانت تستمر لعقود طويلة من السنين وتقتل أجيالاً عدة لأتفه الأسباب؟ أم هو تلك التبعية التي كانت تَدين بها كثير من القبائل في شمال الجزيرة العربية وجنوبها للفرس والروم؟ أم هي تلك الوحدة المؤقتة التي حدثت بين بعض القبائل العربية في عهد الملكة زنوبيا ومعركة ذي قار ضد الفرس؟!
كما أنهم لم يقولوا لنا: ما هو المحتوى الفكري والثقافي العروبي للقومية العربية بعد الإسلام؟
هل هو اللغة العربية فقط كلغة؟ أم هو القرآن الكريم؟ أم هو ما أنتجه المسلمون عرب وعجم من حضارة، وما مارسوه من نظم حكم سمح لأتباع الديانات الأخرى أن تشارك مشاركة فعالة ومشهودة في صنع تلك الحضارة؟
إن كانت اللغة العربية والشعر الجاهلي ومعلقاته؛ فاللغة العربية موجودة قبل نزول القرآن الكريم بمئات إن لم يكن آلاف السنين، ولم تَجمع القبائل العربية حول قيادة واحدة أو في دولة ذات كيان سياسي واحد مثل غيرهم من الشعوب الأخرى! وإن كان القرآن الكريم فالقرآن هو كتاب الله الذي أنزله على رسوله محمد صلَ الله عليه وعلى آله وسلم ليكون منهجاً هادياً للمسلمين والعالم إلى الله ومنهج الحق والاستخلاف في الأرض، أي رسالة عالمية وليس رسالة قومية عربية عنصرية استعلائية!
أما زعمهم أن قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ). المقصود به العرب؛ ذلك قول غير صحيح، لأن الآية تؤكد على الربط بين العقيدة والشريعة ذلك الربط الذي يرفضونه، وأن شرط الإيمان بالله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي بهما يكون المسلمون خير أمة أخرجت للناس، الأمر والنهي تشريع وليس عقيدة فقط!
لا وجود في التاريخ لكيان سياسي عربي
أما الزعم بأنه: مما لا يحتاج إثباته كثابت ولا تأكيده كمؤكد هو وجود هوية قومية لأمة عربية متكاملة العناصر والمقومات الجغرافية والتاريخية والثقافية والدينية والموضوعية على مدى ما يزيد على ألفي سنه مضت وحتى اليوم وإلى ما شاء الله، حيث يعيش ما يقارب الثلاثمائة مليون عربي على امتداد أكثر من أثناء عشر مليون كيلو متر مربع من حدود بلاد ما وراء النهر شرقا وحتى سواحل المحيط الأطلسي غرباً، ومن أقاصي جنوب الجزيرة العربية ووادي النيل والقرن الإفريقي جنوباً حتى مجموع امتداد الشواطئ الجنوبية والشرقية للبحر الأبيض المتوسط شمالاً، وفي قلب العالم القديم الجديد!
كلام جميل جداً بالنسبة لي لأني من أنصار هذا الرأي ولدي أبحاث موثقة ومنشورة تؤكد ذكر لفظ عربي وعرب وأعراب كصفة وليس كشعب وقومية لبعض القبائل التي سكنت جزيرة العرب بدءً من حوالي 1000 ق.م، لأنه لو كانت مقومات تلك الهوية العربية التي يجزم القوميون بوجودها كانت موجودة فعلاً كما يشخصونها الآن لما ذكرتهم الوثائق الكلدانية والآشورية كصفة! الثابت الذي لا يحتاج لإثبات أو تأكيد أنه عبر التاريخ لا وجود للعرب كأمة واحدة يجمعها كيان سياسي جغرافي لا في تلك الحدود ولا في جزء منها! ولكني من أنصار وجود قبلي عربي ودول قبلية وليست قومية يغلب بعضها بعضاً.
كما أنه لم يثبت في التاريخ أن وُجِد زعيم عربي واحد دعا تلك الأمة الخيالية قبل الإسلام إلى الوحدة السياسية على أساس اللغة والعرق والجغرافية والثقافة والتاريخ المشترك وغيرها في دولة واحدة من المحيط إلى الخليج. ولا حتى للتحيرها من الاحتلالات الأجنبية أو التبعية للفرس والروم! ولكن الثابت أنه قبل 2000 عام كانت تلك الجغرافية تحت سيادة الإمبراطورية الرومانية، وقبلها بـ 300 عام كانت تحت سيادة اليونان، وقبلها بـ 500 سنة كانت تحتل سيادة الإمبراطورية الفارسية!
والواقع اليوم أكبر إدانة دامغة لخطأ الدعوة القومية العربية بصيغتها الغربية العلمانية؛ ونحن نرى أن السكان المقيمون على الجغرافية العربية مثل الأشوريين والكلدان والسريان والبربر وغيرهم في عصر القومية العربية لا يعترفون بأصولهم العربية، ويطالبون بدول طائفية ومذهبية كأقليات دينية أو عرقية!
أضف إلى ذلك أن تلك الجغرافية العربية تضم قوميات عرقية أخرى، مثل: الأكراد والتركمان والشركس والآرمن والموارنة والزنوج النيليين وغيرهم، الذين صهرتهم العقيدة الإسلامية في وحدة سياسية وحضارية واحدة طوال 1400 سنة، على الرغم من لسانهم العربي إلا أن كل منهم يريد دول قومية له ويرفض أن يكون أقلية في ظل دولة قطرية عربية!
وليتخيل لنا دعاة القومية كيف سيكون شكل الجغرافية العربية في حال مُنِحت كل جماعة من تلك الجماعات حقها في الاستقلال في دولة قومية أو طائفية أو مذهبية خاصة بها؟ وإن رُفض طلبها كيف سيصبح لون الجغرافية العربية؟ أظن أنه بدأت يكسوها اللون الأحمر، لون الدم، الذي بدأ يُسفح في صراعات طائفية ومذهبية وعرقية نعيش ويلاتها الآن!
وكان على القوميون العرب أن يدركوا أن الشخصية العربية موجودة قبل الإسلام في الجزيرة العربية وامتداداتها الجغرافية، ولكن ليس كوجود سياسي جغرافي، ولم يربط بين سكانها أي شعور بالانتماء القومي الواحد. وبعد الإسلام لم يحدث تعارض بين الشخصية العربية والشخصية الإسلامية طوال 1400 عام، وأن التعارض نتج عن القومية العربية كحركة سياسية دعت لإقامة كيان عربي على نهج القوميات الأوروبية، ما جعلها كلمة بلا مضمون ولا معنى ولا جغرافية، ولكنهم مزقوا الأمة وفتتوها بعد أن وحدها الإسلام هي وشعوب أخرى في كيان سياسي فوق قومي واحد طوال 1400 سنة!والواقع كما خير شاهد على ذلك!.
الإسلام عقيدة وشريعة وعبادة وأخلاق
ويزيد القوميون من تعميق الفجوة بين العروبة الإسلام بإصرارهم على فهم الإسلام كدين بمنهجية تاريخية علمانية عقلانية غربية، وأسقاطهم التجربة الغربية على الإسلام كدين، واستخدام المناهج الغربية التاريخية والاجتماعية وأدواتها في دراسة الإسلام وتجربته التاريخية على الرغم من الاختلاف بين الدينين والتجربتين! فالقوميون وغيرهم طبعاً يعتبرون تمسك المسلم بالإسلام عقيدة وشريعة خلط بين العقيدة كدين والشريعة كعقل! ودعوني أوضح لهم خطأ فهمهم هنا:
كتب يوماً الفيلسوف الفرنسي الاشتراكي بول رينكو يقول: "الدين هو استلاب الإيمان". فعلق عليها روجيه جارودي شارحاً: ذلك أن كل دين هو الإيمان المُعَبر عنه في لغة ثقافة ما. وأن ما نُطلق عليه أزمة الدين، هو في الواقع أزمة الثقافة التي يُعبِر الدين عن ذاته من خلالها. وانتهى إلى: "أن العقيدة هي طريقة في التفكير، وأن الإيمان هو طريقة في العمل". أما مالك بن نبي فقال: أن أزمة أي مجتمع هي أزمة ثقافة، وقد عرفت المنظمة الإسلامية للعلوم والثقافة؛ الثقافة: "أنها الإسلام حين يصبح الحياة"!
والله تعالى جعل العمل قرين الإيمان بقوله: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات). والرسول صلَ الله عليه وآله وسلم قال: (ليس الإيمان بالتمني ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل).
تلك هي حقيقة العلاقة بين الدين كعقيدة والإيمان كعمل وشريعة! ذلك معناه أنه لا يصح الفصل بين العقيدة والشريعة لا في الإسلام ولا في أي دين أو أيديولوجية لأن الأيديولوجيات تحل محل الدين لدى أتباعها –كما سيأتي- ويُعبر عن نفس المعنى فيها بمصطلح "العلاقة بين النظرية والتطبيق"!
وللعلم فقط: أن اليهودية هي التي لا تشترط العمل لصحة الإيمان، لذلك اليهودية لا تُعتبر لا دين ولا أيديولوجيا، وقد عرفتها "دائرة المعارف العبرية": "اليهودية ليست عقيدة أو نظاماً من العقائد يتوقف مع قَبولها الفداء أو الخلاص في المستقبل ولكنها نظام للسلوك البشري"! أي أنها كما قالت الكاتبة اليهودية روبرتا ستراوس: مجموعة من الأخلاقيات لا يمكن اعتبارها دين بالمعنى الصحيح للكلمة! وقد كانت هذه النقطة هي جوهر الاختلاف بين مارتن لوثر وكالفن اليهودي الأصل وكلاهما من مؤسسي المذهب البروتستانتي، حيث أن لوثر اشترط العمل لصحة الإيمان ودخول الجنة، أما كالفن فقد اسقط العمل واكتفَ من الإيمان النطق باللسان فقط!
وعليه فإن القول: أن العقيدة علاقة بين الإنسان وربه وليعبد الإنسان ما يشاء شجرة حجر بقرة أي شيء! وأن الشريعة مجالها العقل لأن وضع القوانين من اختصاص العقل وحده! ذلك فهم خطأ للإسلام! ثم: كيف تكون الشريعة مجالها العقل المطلق المتحرر من ضوابط العقيدة في الوقت الذي حِفظ العقل وسلامته من أي انحراف يخالف الفطرة السوية هو أحد مقاصد الشريعة؟ إن مدح القرآن الكريم للعقل لا يَعني رفع العقل فوق مستوى الشريعة والتشريع الإلهي ولكن حث العقل على وعدم تكرار أخطاء السابقين، والاجتهاد في فهم مقاصد الشريعة بحسب الزمان والمكان والحال وليس منح العقل السلطة المطلقة ليشرع ما يشاء!
فالمشكلة ليست مع العقل ولكن مع الفكر الذي يعمل العقل في مجاله، لأن العقل أداة والفكر مضمون يحتوي المعتقدات والآراء ورؤية الإنسان لذاته ومحيطه وكونه، ولا يتعدّى عمل العقل حدود ذلك المضمون!
وإن أردنا دليل على الارتباط بين العقيدة والشريعة والعمل والعبادة والأخلاق في الإسلام وعدم الفصل بينها جميعاً يطول الحديث، ولكن نُذكر بسورة صغيرة في القرآن الكريم تجمل لنا تلك العلاقة، وهي سورة الماعون، قال الله تعالى:
(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ. فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ. وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ. فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ. الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ. وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ).
تعريف الدين في المجتمعات الغربية
كما أن القوميون يُعرفون الإسلام بحسب تعاريف مدارس العلوم الاجتماعية وتاريخ الأديان في الغرب، التي تُركز على وظيفة الدين دوره الوظيفي في التطور الاجتماعي في المجتمعات الغربية أكثر من التركيز على حقيقة الدين ذاته. ذلك جعلهم يفرقوا بين العقيدة والشريعة ويضخموا دور العقل!
ويمكننا إجمال المفهوم الغربي للدين: بأنه "وحدة الربط الميتافيزيقية بين الإنسان والعالم". أما الدور الوظيفي للدين فإنه "يؤدي وظيفة نظرية وعملية لأنه يحتوي نظرة كونية وأُخرى إنثروبولوجية، فهو يجيب على السؤال عن أصل العالم وعن أصل المجتمع الإنساني".
لذلك يجد دارسي تاريخ الأديان في الغرب صعوبة في الفصل بين مفهوم الدين ودوره الاجتماعي، فالدين يقوم بدور الربط بين أفراد المجتمع حول فكرة معينة، أو أفكار، أو اتجاهات، أو أي عقيدة أيديولوجية تجمع بين أفراد أمة من الأمم. وفي العصر الحديث أصبحت الأفكار اللادينية هي التي تقوم بدور الدين الوظيفي في الغرب.
ويعتبر أرنولد توينبي أن انتصار العلم على الدين انتصاراً ساحقاً يشكل كارثة على العلم والدين معاً، وأن أخطر كارثة يواجهها العالم اليوم هي أن الجماهير - وخصوصاً الغربية- قد استعاضت عن الفراغ الديني بأيديولوجيات لا تفترق عن الأديان البدائية من حيث وثنيتها حيث عبادة الذات وإن تسترت تحت ستار القومية أو الاشتراكية ـ متمثلة في تأليه الدولة أو الحاكم.
لذلك اعتبر يوسف الحوراني: أن الأفكار العلمية المعاصرة هي نوع من معطيات شبه دينية لعقائد جديدة في فهم العالم. معتبراً أن العقائد القومية والاجتماعية والسياسية، التي لا تزال تعيش في عصرنا وتخضع لعلاقات وروابط مثالية أو ميتافيزيقية لا تخرج عن كونها مظهراً جديداً من مظاهر الدين رافق تطور المجتمع من بدئه حتى الآن، والذي لا يخرج عن كونه حساً إنسانياً يتخذ أشكالاً مختلفة تختلف بين زمن وآخر، وبين أمة وأُخرى.
ذلك ما جعل مالك بن نبي يعتبر الأفكار اللادينية التي سادت الغرب بعد ضعف واضمحلال سيطرة وهيمنة الكنيسة والفكر الديني النصراني "مفهومية دينية" في حقيقتها، حيث "أن الفكرة الدينية لا تقوم بدورها الاجتماعي إلا بقدر ما تكون متمسكة بقيمتها الغيبية ... أي بقدر ما تكون معبرة عن نظرتنا إلى ما بعد الأشياء الأرضية"، وعندما تَفقد هذه القيمة الغيبية، فإنها تترك مكانها، أو تعمل بواسطة بديلاتها اللادينية نفسها، وعلى ذلك فأي مفهومية تطرح نفسها بديلاً عن المفهومية الدينية، هي دين، وهذا ما يحدث في الغرب فالمادية مفهومية دينية في حقيقتها حينما تطرح نفسها بديلاً للدين.
ذلك هو معنى ومفهوم الدين ودوره الوظيفي في التطور الاجتماعي حسب المفاهيم الغربية، وهو دور كل الأديان منذ فجر التاريخ كما جاء في ورقة (..)، وعليه: فإن فكرة القومية العربية بمفهومها الغربي العلماني هي مفهومية دينية بديلة عن الإسلام.
الخلاصة
وإن أردنا تقديم دراسة تحليلية ونقدية لجدلية العلاقة بين القومية الدين (العروبة والإسلام)؛ علينا أن ندرك أن المناهج الغربية التاريخية والعقلية وأدواتهما لا تصلح لفهم الإسلام كدين، ولا لدراسة وفهم التطور الاجتماعي للمجتمع الإسلامي، والأخذ بها يجب أن يكون بحذر وتحفظ، لأن القومية الغربية الحديثة نشأت متلازمة مع العلمانية والنظام الاقتصادي الرأسمالي والمنهج العقلي الغربي، وتلك المتلازمات هي التي شكلت المجتمعات الغربية الحديثة. لذلك يقول عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبير: إن مفهوم العقلانية لازم لتحليل المجتمعات الرّأسماليّة لأن الأخذ بالعقلانيّة يصل إلى ذروته في هذه المجتمعات عبر السّيطرة على كلّ شيء بالحساب والتّكميم وعبر وضع أسلوب حياة منتظم يتحكّم في شتّى مجالات النّشاط الإنساني حتى حياته اليومّية!
لذلك فإن رأي قوميين العرب وغيرهم من الاتجاهات الفكرية العلمانية في العلاقة بين العقيدة والشريعة والعقل هو رأي المدرسة العقلانية الغربية، التي بدأ فيها العقلانيون متحفظون في موقفهم من الإله وبعد حوالي خمس قرون أعلن نيتشه عن "موت الله"، أي انتصار الإنسان في صراعه مع الإله على الإله نفسه، وأخيراً أعلن العقلانيون أنه لا حاجة للإنسان لإله، فالإنسان في عصر التكنولوجيا والأقمار الصناعية وسفن الفضاء قادر على أن يصنع الإله الذي يريد! ونحن لا نندهش من طغيان العقلانيين في زمن بلغ فيه طغيان الرأٍسمالية وإعلاء شأن المادة وقيمة التملك على أي عقيدة دينية أو قيمة إنسانية وسعيها لعولمة الرأسمالية وقيمها وثقافتها على العالم أجمع!
تلك العولمة التي بدأ الدكتور حمود ورقته بالحديث عنها، والتي جعلته يعتبر المشترك الإنساني في زمن أصبح فيه العالم قرية صغيرة متغير ثابت، والدين متغير ثانوي كما هو في القومية! في الوقت الذي يُجمع فيه أكثر الباحثين على أن العولمة بأبعادها المختلفة هي (دين) كونها في الواقع تتحكم في كل العلاقات الإنسانية سواء كانت اجتماعية -عالمية أو فردية-! وتحاول الدول الكبرى اقتصادياً وعلى رأسها الولايات المتحدة فرضها ديانة جديدة على العالم، وهي لن تكون فقط نهاية التاريخ بل موت للتاريخ ولفكرة الإله التي توجد فيه!
ولا أظن أن مسلماً يقبل أن يكون عقلانياً على الطريقة الغربية في زمن العولمة ويعلن موت الإله أو أن يعبد الإنسان ما يشاء، لأن المشترك الإنساني يستحيل أن يكون متغير ثابت مهما ازداد حجم تأثيره، ولا يعني إلغاء الخصوصية الدينية والتاريخية والتخلي عن المورث الحضاري والتراث الفكري وإلغاء الهوية الثقافية لأي أمة، والدليل على ذلك فشل الغرب وأمريكا خاصة في فرض العولمة كنظام حياتي على العالم، وذلك لأنها اصطدمت بالخصوصية الدينية والثقافية للمجتمعات غير الغربية. وذلك لا يلغي التأثير والتأثر بين الشعوب!
وأن العالم أصبح قرية صغيرة؛ نعم العالم أصبح قرية صغيرة من خلال ما حدث في ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات التي ألغت المسافات والحواجز الجغرافية، وأصبح الحدث في أي بقعة من الكرة الأرضية يصل إلى العالم أجمع في ثوانٍ، ذلك المقصود بالقرية الصغيرة وليس معناه أن العالم تعولم، وأنه علينا الأخذ بالقيم الغربية وكل ما هو غربي، ولا أن نفكر بالعقلية الغربية ونستجيب لكل ما يطلبه الغرب منا وإن كان فيه هلاكنا ودمار وجودنا.
العالم أصبح قرية صغيرة لا يعني ألا نحذر من الأفكار الغربية ونُفقد مجتمعنا حصانته بزعم أنه لم يعد هناك غزو فكري وأن الحرب الفكرية والثقافية انتهت! متغافلين أن رونالد رامسفيلد وزير الحرب الأمريكي الأسبق أعلن مع بدء التحضير لغزو العراق: علينا أن نبدأ حرب الأفكار. نفس ما أعلنه لويس التاسع عام 1250 بعد هزيمة الصليبيين: علينا أن نبدأ حرب الكلمة لهزيمة المسلمين!

هذا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته