القدس مركز الهجمة والأقصى قلبها (1-2)
تقبل الله طاعتكم وكل عام وأنتم بخير، نسأل الله النصر لأهلنا في بيت المقدس، والسلامة لأهلنا في غزة وبقية الوطن، رأيت أن أنشر المقالة الأخيرة على جزئين، وأعنونها بذلك العنوان، للارتباط الوثيق بين أحداث الأقصى اليوم ومخططات الغرب والصهيونية قبل أكثر من مائة سنة!مصطفى إنشاصيإدراد الغرب والصهاينة لمكانة وأهمية القدس والأقصى في عقيدة ونفوس المسلمين، وأن الأمة لا تختلف عليهما وتتجاوز كل خلافاتها وتتوحد لأجلهما، سعيا منذ زمن مبكر لتحقيق اختراق في الجبهة الإسلامية لإحداث تأثير عليها لصالح المشروع الغربي - الصهيوني، ويتضح ذلك من خلال بعض المساعي اليهودية لإقامة علاقات مبكرة مع الاتجاهات الإسلامية ذات التأثير السياسي والشعبي في الهند وباكستان، حيث العمق والثقل الإسلامي، والعاطفة والحمية الإسلامية الجياشة، والحراك والتفاعل والتضامن الشعبي القوي مع فلسطين، والعمل من أجل وحدة الأمة سياسياً، ونصرة قضاياها المصيرية. وفي محاولة من الصهيونية الحصول على موافقة القوى الإسلامية على مشروعها في فلسطين، أو إبداء التعاطف والتسامح معه، "بإيحاء من بريطانيا مثلاً (أرسل حاييم وايزمان) الزعيم الصهيوني إلى مولانا (شوكت علي) في الهند عام 1924، يعرض عليه سكوت مسلمي الهند على السيطرة اليهودية في فلسطين، مقابل أن تكون القدس للمسلمين، مع ممر يصلها بيافا على المتوسط، وهو أمر رفضه شوكت علي بشدة"[10]. من المعروف أن شوكت على كلن صاحب فكرة المؤتمر الإسلامي العام سابق الذكر، وقد فكر في ذلك منذ عام 1924 هو والحاج أمين الحسيني عندما التقيا في مكة في موسم الحج ذلك العام. لقد كانت العيون الصهيونية ساهرة على التصدي لأي نزعة إسلامية متضامنة مع فلسطين والقدس منذ زمن مبكر، فقد قامت القوى الصهيونية بتوظيف القوى الدولية المتحالفة معها للتصدي للنزعات الإسلامية التي تحرك مواقف الشعوب الإسلامية في آسيا وإفريقيا، وتبلور رؤيتها لما يجري في فلسطين، وتدفعها للتضامن معها. "ففي الثلاثينيات - القرن الماضي - تدخلت السلطات البريطانية في الهند بإيعاز صهيوني لمنع بعثة فلسطينية جمعت أموالاً لبناء جامعة إسلامية في القدس من تحويل هذه الأموال إلى فلسطين"[11]. الجامعة الإسلامية التي كان مزمعاً إنشائها في القدس هي أحد مقررات المؤتمر الإسلامي العام. ولا يسعنا إلا أن نختم بقول الشيخ "البشير الإبراهيمي": "وهل يلام العرب بعد هذا – والمسلمون من ورائهم – إذا اعتقدوا أنها حرب صليبية بعض أسلحتها اليهود وأنها ممالأة مكشوفة من الدينين الصالب والمصلوب على الإسلام. وكلمة أللنبي في القدس رنينها مجلجلاً في الآذان وصداها متجاوباً في الأذهان"[12].اليوم انتهت الحروب الصليبية!
دخل قائد الجيش البريطاني (أللنبي) بتاريخ 11/12/1917 القدس محتلاً لها، حيث ترجل ماشياً إلى قلب المدينة "كأنه يحاول التشبه بما فعله الخليفة العادل عمر بن الخطاب منذ أكثر من ألف سنة"! وعندما أشرف أللنبي على كنيسة القيامة (المسيحية) قال قولته المشهورة: "اليوم انتهت الحروب الصليبية"[1]! وأسوأ مما قال قاله القائد الفرنسي المتعجرف غورو عند دخوله دمشق محتلً، وقف على قبر صلاح الدين الأيوبي وهو واضعاً قدمه على قبره وقال: "ها نحن عدنا يا صلاح الدين"[2]! وأرسل لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا إلى أللنبي مهنئاً له إحراز النصر ومعلناً انتهاء: "الحرب الصليبية الثامنة"! وكتبت جريدة نيويورك هيلارد على صفحتها الأولى بتاريخ 11/12/1917 وهو يوم احتلال القدس بالخط العريض: بريطانيا تنقذ القدس بعد 673 عاما من المسلمين"! لم يكن أللنبي وحده الذي دخل القدس عام 1918م؛ لكن الذي دخل يومها هو (وعد بلفور المشئوم) مؤتزراً بتحالف الصليبية والصهيونية! وتجلي ذلك التحالف بإلغاء الخلافة عام 1924م، حتى يتمكن من استئصال قلب الأمة، فلسطين، وغرس خنجره المسموم (الدولة اليهودية) فيها. لقد أكد دخول اللنبي القدس وحدة الهدف والغاية عند الغرب على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم وعمق الحقد الصليبي على الإسلام، ويتجلى ذلك في موقف ألمانيا القيصرية الصديق الحميم للدولة العثمانية، زعيمة دول المحور وحليفتها في الحرب العالمية الأولى وعدوة بريطانيا زعيمة دول الحلفاء، التي لم تخف فرحتها بسقوط القدس في يد الجيش البريطاني وخروجها من يد حليفتها تركيا! ولقد "بلغ من تجلي معنى الصليبية أن أجراس الكنائس في برلين قد دقت فرحاً عشية دخول أللنبي القدس ويقول محمد كرد على: إن الكنائس جميعها في القدس بما فيها كنائس الألمان اشتركت في إعلان الابتهاج بذلك اليوم وكان البابا في روما قد دعا أتباعه في العالم بأسره وكثيرون من الألمان والنمساويون في الدول المحاربة مع تركيا أن يقوموا تقديم الشكر لله بمناسبة احتلال القدس وحثهم على ألا يسعى أحد منهم أبدا لإعادتهم إلى تركيا"[3]. كما يتجلى موقف ألمانيا المعادي للإسلام في موقف (أدولف هتلر)، فقد جاء في مذكرات أميل الغوري وهو نصراني غير مسلم كان سكرتير للهيئة العربية العليا لفلسطين التي كان يرأسها مفتي فلسطين الحاج محمد أمين الحسيني رحمه الله، أنه أثناء الحرب العالمية الثانية، عندما التقى الحاد أمين الحسيني هتلر، اقترح عليه تأليف جيش متطوع من مسلمي شمال أفريقيا للحرب إلى جانب ألمانيا، فقال هتلر: لا، أنا لا أخاف الحلفاء ولا أخاف الشيوعية ولكني أخاف من الإسلام لو انتصر وحكم[4]! ونعود لمواقف الفاتيكان المعادية للإسلام "وهي التي جعلت بابا الفاتيكان يلقي بثقله عام 1949م خلف الطلب الذي تقدمت به (دولة إسرائيل) لتصبح عضواً في هيئة الأمم المتحدة، وكيف أشار على الدول الكاثوليكية بأن تصورت بالموافقة على الطلب وقال: إنه مقتنع بأن (إسرائيل) ستكون وفيّة بوعدها وتعهدها بأن تكون القدس مدينة مصونة ومفتوحة لأصحاب الديانات الثلاث! وضمنت بذلك دولة العدو ثلثي الأصوات المطلوبة وأصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 11 مايو/آيار 1949م قرارها بانضمام إسرائيل إلى هيئة الأمم المتحدة وبأغلبية كبيرة..."[5]! وأظن أن فتوى الفاتيكان عام 1965 التي تبرئ اليهود من دم المسيح لم يجف حبرها بعد وإقامة علاقات دبلوماسية مع الدولة اليهودية لا تزال جديدة وساخنة وماثلة للعيان. أما بعد الاحتلال الصهيوني للقدس عام 1967، كتب راندوف تشرشل حفيد السياسي البريطاني تشرشل الذي دفع السياسة البريطانية لإرساء دعائم الكيان اليهودي في فلسطين: "لقد كان إخراج القدس من سيطرة الإسلام حلم (المسيحيين) واليهود على السواء، إن سرور (المسيحيين) لا يقل عن سرور اليهود، لأن القدس خرجت من أيدي المسلمين ولن تعود إلى أيدي المسلمين في أي مفاوضات مقبلة بين اليهود والمسلمين"[6]! أما جان بول سارتر الفيلسوف الوجودي الفرنسي الجنسية الذي لا يقيم وزناً للمعتقدات الدينية وقيمها يخرج مظاهرات في باريس قبل حرب عام 1967م لجمع التبرعات للصهاينة حاملاً لافتات كتب عليها (قاتلوا المسلمين) ورافعاً بذلك شعار اليهود في بناء حضارتهم العبرانية[7]! وفد تبرع الفرنسيون بألف مليون فرنك خلال أربعة أيام لتقوية الصهاينة الذين يواصلون رسالة الصليبية الغربية وهي محاربة الإسلام! وليس أدل على وحدة العداء النصراني للمسلمين مما حدث ما قام به بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية في القدس، التي لازالت تعتبر اليهود قتله المسيح عليه السلام، بحسب عقيدتهم من بيع أوقاف العرب والمسلمين في اكبر وأعرق شوارع القدس القديمة لليهود الصهاينة لاستكمال تهويد القدس وهذه الصفقة كشف عنها في مارس الماضي من هذا العام([8]). فالمشروع الاستعماري الصهيوني المركب وجد فرصة تحققه بعد سقوط الدولة العثمانية حيث بروز العديد من التناقضات الفعلية في المنطقة العربية. "الاستعمار يعزز الوضع الداخلي المتشرذم ويؤسسه ويمنحه فرصة التمرد والتنافر والصراع"[9]!
محاولات يهودية مبكرة لاختراق المسلمين
[1] صالح أبو يصير، جهاد شعب فلسطين، مرجع سابق، ص65.
[2] فروخ خالدي، التبشير والاستعمار، مرجع سابق، ص130.
[3] صالح أبو يصير، جهاد شعب فلسطين، مرجع سابق،، ص67..
[4] المرجع سابق، ص203.
[5] إسماعيل الكيلاني، الخلفية التوراتية للموقف الأمريكي، مرجع سابق، ص50.
[6] جلال العالم، دور الإسلام، مرجع سابق، ص29.
[7] لورانس، على خطى هرتزل، ص23.
[8]- وكالات الأنباء العالمية.
[9]- نصري الصايغ (منطقة الاقليات) ورقة قدمت إلى: الفرك المقاوم في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي ومخططاته: ندوة أقامها الحزب السوري القومي الاجتماعي بمناسبة مرور عامين على الإجتياح الإسرائيلي للبنان، بيروت – البوريفاج، 2/3 حزيران، 1984. ص151.
[10] محمد الأزعر "دكتور"، "مسارات الصهيونية و(إسرائيل) في آسيا تحولات الرؤى المتبادلة ومحدداتها"، أعمال ندوة الحركة الصهيونية والصراع العربي ـ الإسرائيلي في مائة عام دروس الماضي وآفاق المستقيل، مجموعة من الكتاب، (14-15 مايو/أيار 2000)، القاهرة، معهد البحوث والدراسات العربية،ص264.
[11] المرجع السابق نفسه.
[12] صالح مسعود أبو يصير: جهاد شعب فلسطين خلال نصف قرن، مرجع سابق، ص278.