الحياة عندما تصبح وهماً لياسين رفاعية: رواية حب يؤججه الموت
--------------------------------------------------------------------------------
هذه الرواية للروائي والقاص السوري الكبير ياسين رفاعية هي رواية حب، ولكنه ليس حباً كحب قيس وليلي، أو جميل بثينة، أو كثير عزة...
هي رواية حب وموت، موت يؤجج حباً زوجياً، حباً نما بعد زواج مر ببعض العوائق وانتصر عليها. في رحلة الزواج المديدة، تعلق الزوجان واحدهما بالآخر، وأمضيا معاً مشواراً فيه حلاوة، وفيه مرارة، والمرارة تسبب بها مرض القلب الذي عصف بهناءة العيش، فأوهن جسد الزوجة الصبية بعد ولادتها لطفلها الأول (بسام) واصرارها علي الحمل ثانية لعلها تنجب بنتاً، رغم تحذيرات طبيب القلب لها، فتحمل وتنجب بنتاً (لينا). تسافر الزوجة الشابة الي ألمانيا الشرقية لاجراء عملية لمعالجة عطب القلب، تجري لها العملية فتعود مستبشرة، ولكن الأوجاع تعود لتدهم القلب، فيكتشف الأطباء أن العملية التي أجريت للزوجة الشابة (أمل) كانت خاطئة. ولأن الزوجة صارت شاعرة معروفة، فقد تعاطف معها فنانون، وكتاب، وشعراء، وصحيفة النهار البيروتية، وجمعوا لها تبرعات لتغطي تكلفة المائة ألف دولار المطلوبة لاجراء عملية جديدة كبيرة سيجريها الطبيب العالمي اللبناني الأصل (دبغي) والذي يتبرع بجهده، وفقط يطلب تغطية تكلفة المستشفي. هنا يتقدم ثري خليجي محب للأدب والشعر ويتبرع بتغطية تكاليف العملية.
يكتشف الدكتور دبغي أن العملية التي أجريت سابقاً لقلب (أمل) كان يمكن تفاديها بثلاثين ابرة بنسلين تزيل التكلسات في الشريان التاجي، فترتاح مدي الحياة.
الزوج والزوجة سوريان دمشقيان من حارة شعبية عريقة، انتقلا للعيش في بيروت التي غادراها أثناء الحرب الأهلية الي (لندن) بعد أن ضاقت سبل العيش، ولكنهما لم يطيقا العيش هناك فعادا الي شقتهما في (رأس بيروت) ليستأنفا حياتهما علي مقربة ممن يحبون، في بيئتهما التي في غيرها تقتلهما الغربة والحنين.
من المقاطع الأولي في الرواية، سيتعرف القارئ علي الشخصيتين، فالراوي لا يخفي أن (أمل) هي أمل جراح الشاعرة السورية زوجة الكاتب ياسين رفاعية، وأن الابن والابنة هما ابناهما بسام ولينا.
ياسين رفاعية لا يكتب سيرة شخصية له، أو لزوجته، وان كان يمتح من التجربة متجاوزاً جوانب كثيرة فيها لا تهم القارئ، وينأي عن (الميلودراما) بطرح أسئلة الحب، ولغز الموت الذي ينتزع منا من نحب، ويهدم استقرار واستمرار الحياة.
كابدت (أمل) كثيراً في مرضها، ولكنها بالحب استقوت عليه، بالتعلق بالزوج الحبيب، والابن والابنة، واستنبات الزهور في أصص تجمل (الشقة) العش، والشرفة التي تطل علي بيوت جيران بيروتيين في منطقة (راس بيروت) المتداخلة مع شارع الحمراء.
لحظة موت (أمل) تبدأ (حياتها) من جديد في روح الزوج (العاشق)، الذي كان يعيش (حياته) باقتناص لحظات (خروج) علي الحياة الزوجية مبيحاً لنفسه اقامة علاقات نسائية عابرة، ظاناً أنه يستغفل الزوجة المحبة التي كانت تتسامح معه أحياناً، وتكظم حنقها وغيرتها، لأنها تعرف أنه سيعود اليها، ولن يفرط بحبه لها، وحبها له.
تشبه هذه الرواية في فصولها أن تكون (قصيدة) طويلة، تتكون من مقاطع، تنطلق من لحظة الموت، يتأمل فيها كاتبها ـ قل شاعرها ـ الحياة، والحب، والموت، والنفس الانسانية، وخصوصيات زوجين عاشقين.
في مقطع وصف معاناة (أمل) في المستشفي، وعذابها من نوبة ألم ممض، لا يصف لنا ما يجري لنشفق عليها، ولكن لنري الي أي مدي تتحمل الألم تعلقاً بالحياة، فالطبيب المعالج، يجري لها عملية (بزل) في السرة بالبنج الموضعي، لتفريغ الاحتقان واخراج الماء من البطن، وهي تربط من رسغيها، وقدميها، تصلب ـ كما تعلق بعد تلك العملية الرهيبة الألم ـ كالمسيح!
المرأة التي أجريت لها ثلاث عمليات كبري في القلب، تعود الي البيت بعد آخر عملية اسعافية في البطن، تعود وقد جابهت الموت بالتغلب علي الألم، بحيث يشهد لها الطبيب بأنه يجري عمليات جراحية علي مدي عشرين عاماً ولكنه لم يشهد انساناً يتحمل العذاب الذي تحملته أمل، ويتشبث بالحياة بطاقة عجيبة، وهو ما فسره الطبيب بأنه نابع من طاقة حب مختزنة في داخلها.
ما أن وصلت البيت حتي أخذت تقبل كل شيء: الهاتف في المدخل، الأبواب، ضلفات النوافذ، أوراق الزهور، الثلاجة، غلاية القهوة، مرددةً عبارة واحدة: آه ما أحلي البيت...
تموت (أمل) بعد أن أخذت كامل زينتها. تتردد في مغادرة البيت لزيارة بعض جاراتها، تموت في لحظة (كشف)، كالصوفيين...
نقرأ عن لحظة الفراق : ذلك اليوم المشؤوم، في السادس من شباط (فبراير) 2004 كنا جميعاً في احسن حالاتنا، كانت عندنا جارتاها صباح وزينب. في صباح ذلك اليوم تحممت، وذهبت الي الحلاق، وصبغت بضع خصل من الشيب في شعرها، واختارت خصلة جعلتها بنية الألوان علي شعر أسود فاحم، وتغندرت، ورسمت الأحمر علي شفتيها، فازدادت جمالاً وبدت أصغر من عمرها بعشرين سنة. كانت تحب أن تكون بأحسن حالاتها، والذي لا يعرفها عن قرب لا ينتبه أنه أمام امرأة بقلب معطوب (51)...
رغم أن رحيل (أمل) كان متوقعاً في أي لحظة، فان الزوج وقد اعتاد صمودها، وخروجها سالمةً من الأزمات الصحية العاتية، طمأن نفسه أنها ستكون دائماً بخير، وأنه يكتفي بحضورها ـ الطبيب طلب منه أن لا يناما معاً في سرير واحد، حتي لا تنفعل مما يؤثر علي قلبها الضعيف ـ بتنفسها في أرجاء شقة الزهور، والشرفة المطلة علي الحياة، وصخب بيروت، وحيوية شارع الحمراء...
تحضر امرأتان لتغسلا جسد (أمل)، ولكن الزوج يرفض، فهو زوجها وحبيبها يريد أن يغسل جسدها، وهو يعرف أن هذا جائز شرعاً.
(نظرت اليها طويلاً، هذه المرة الأولي في حياتي أراها عاريةً بهذا الوضوح. لم تتعر أمامي بهذا الوضوح قط. كانت خجولةً الي حد كبير، ولم تسمح لي بتاتاً أن أراها عارية تماماً. كانت تستر عريها بيديها تارةً وبالشرشف تارةً أخري، وتنطوي علي نفسها مسدلةً شعرها علي صدرها. الآن، الآن، ها هي أمامي كما خلقها الله، بكل جمالها الآسر، وبكل بياضها. كنت أظنها سمراء. كان وجهها جذاباً، راحتاها سمراوين، ساعداها سمراوين. لم أظن أن جسدها أبيض كالثلج، كأنها جوهرة بيضاء ممددة أمامي الآن. بيضاء كالزنبق، بيضاء كالورق الذي كتبت عليه قصائدها. بيضاء كالزنبق الذي كانت تحبه، بيضاء كالياسمين، بيضاء كالقرنفل... (ص 60).
يبدأ بتغسيل زوجته كأنما هو محموم، يهذي، غير مصدق أنها رحلت، وأن جسدها ميت لا حياة فيه، فمها لا يتكلم، عيناها لا تنظران، شفتاها لا تبتسمان:
وضأتها وأنا أقول : نويت الوضوء المسنون لزوجتي أمل، ثم غسلت رأسها ووجهها، وسرحت شعرها بمشط جلبوه لي منفرج الأسنان. سرحته برفق شديد وأنا اردد : ليرحمك الله يا حبيبتي، رحمك الله، ألله اكبر، لا اله الا الله، لا اله الا الله. كان قليل من الشعر يتساقط فأرده اليه، ثم غسلت شقها الأيمن ثم الأيسر، ثم حرفتها الي شقها الأيسر وغسلت شقها الأيمن مما يلي قفاها وظهرها الي قدميها.. توقفت وأنا ألهث. نظرت اليها ملياً ملياً، كأن عيني تحجرتا وأنا أنظر اليها، فلم تحيدا عنها.. دخلت علي المرأتان وبأياديهما كفن أبيض كبير. ابتعدت قليلاً عنهما، فلفتاه به ثلاث لفات، وربطتا قدميها.. وتركتا وجهها ظاهراً. طلبتا مني تقبيلها فقبلتها من كل وجهها وأنا أرتجف وأبكي (ص 61 و62).
لم اقرأ من قبل في الرواية العربية مشهداً عميق الانسانية للعلاقة بين رجل وامرأة كما في هذا المشهد، قوة تأثيره نابعة من لوعة الفراق والرحيل الي المجهول، وانكسار انسان فقد طمأنينة حياته بموت الحبيب، فتفجرت أسئلة الحياة والموت والحب لتزعزع روحه، وتدفع به بعد رحيلها، وتردده الي قبرها يومياً ناثراً عليه الزهور البيضاء التي كانت رفيقة نفسها دائماً.
الروائي بخبرته الفنية المديدة، يضع المتلقي، ومنذ الجملة الأولي في روايته، في جو (الحدث) الدرامي الفاجع: عندما اقتادوها الي غرفة الانعاش بدت مستسلمة، فطبيب التخدير كان في الليلة الماضية قد حذرها بان الخطر علي حياتها مئة بالمئة، ولكن لا بد من اجراء العملية..(ص7).
في الرواية شخصيتان رئيسيتان هما (أمل) الزوجة، و(الراوي)، والابن والابنة حضورهما طيفي، وبعض الشخصيات كشقيقة أمل، أو الطبيب الجراح، وطبيبة القلب الجميلة، ليسوا سوي شخصيات عابرة...
أمل تعيش بعد موتها في روح زوجها، الذي لم يكن الا لها، رغم علاقاته النسائية العابرة...
تمضي الرواية متتابعة المقاطع. تبدأ من المشهد الأول في المستشفي وغرفة العمليات، وتنتهي بالزوج المحب المسكون بحبيبة رحلت ولا يصدق رحيلها، وهو يؤكد للطبيب انه نبش القبر، وأن (أمل) ليست موجودة فيه...
القارئ سيدرك بعد فروغه من قراءة هذا (النص) الروائي الشعري، أن أمل لم تعد مجرد جسد ميت، ووري الثري في قاع حفرة عميقة، انها تعيش في روح الزوج الذي ازداد تعلقاً بها بعد رحيلها وفقدانها، والذي يتشبث بتفاصيل حضورها وحياتهما معاًُ قرابة أربعة عقود...
بالحب يحاول الزوج العاشق أن يستعيد حبيبته من الموت، ولأنه يدرك أنها ماتت وأن الحياة انتهت، وأنه سيبقي وحيداً، وأن الموت حول الحياة وهم، فانه يصاب بحالة هذيان تجره في النهاية الي طبيب الأعصاب والأمراض النفسية، لتمضي حياته بطرح الأسئلة، والعيش في الفراغ وكأن الحياة لم تكن يوماً، ماتت مع موت الجسد، انطفأت فساد ظلام لا في البيت الفارغ، ولكن في النفس والعقل والروح، ظلام مفزع يفجر أسئلة لا أجوبة لها...
وبعد، فقد تمكن الروائي والقاص ياسين رفاعية من تحويل معاناة شخصية الي عمل فني متألق، لأن الموت وهو نهاية كل حي يتركنا نحن البشر أمام الأسئلة المحيرة والمقلقة، والتي لامسها أسلافنا (سردياً) منذ كتب ابن طفيل (حي بن يقظان)، وتأمل من قبله وبعده كثيرون سؤال الموت، بالفنون، والفلسفة، والأساطير، والشعر، ثم ها هو ياسين رفاعية يطرح من جديد الأسئلة التي تمض العقل والروح، وتدفع للابداع الفلسفي، والفني، والأدبي ...
ہ صدرت الرواية عن منشورات (دار الساقي) في لندن هذا العام 2006.
11/10/2006 17:48
هذه الرواية للروائي والقاص السوري الكبير ياسين رفاعية هي رواية حب، ولكنه ليس حباً كحب قيس وليلي، أو جميل بثينة، أو كثير عزة...
هي رواية حب وموت، موت يؤجج حباً زوجياً، حباً نما بعد زواج مر ببعض العوائق وانتصر عليها. في رحلة الزواج المديدة، تعلق الزوجان واحدهما بالآخر، وأمضيا معاً مشواراً فيه حلاوة، وفيه مرارة، والمرارة تسبب بها مرض القلب الذي عصف بهناءة العيش، فأوهن جسد الزوجة الصبية بعد ولادتها لطفلها الأول (بسام) واصرارها علي الحمل ثانية لعلها تنجب بنتاً، رغم تحذيرات طبيب القلب لها، فتحمل وتنجب بنتاً (لينا). تسافر الزوجة الشابة الي ألمانيا الشرقية لاجراء عملية لمعالجة عطب القلب، تجري لها العملية فتعود مستبشرة، ولكن الأوجاع تعود لتدهم القلب، فيكتشف الأطباء أن العملية التي أجريت للزوجة الشابة (أمل) كانت خاطئة. ولأن الزوجة صارت شاعرة معروفة، فقد تعاطف معها فنانون، وكتاب، وشعراء، وصحيفة النهار البيروتية، وجمعوا لها تبرعات لتغطي تكلفة المائة ألف دولار المطلوبة لاجراء عملية جديدة كبيرة سيجريها الطبيب العالمي اللبناني الأصل (دبغي) والذي يتبرع بجهده، وفقط يطلب تغطية تكلفة المستشفي. هنا يتقدم ثري خليجي محب للأدب والشعر ويتبرع بتغطية تكاليف العملية.
يكتشف الدكتور دبغي أن العملية التي أجريت سابقاً لقلب (أمل) كان يمكن تفاديها بثلاثين ابرة بنسلين تزيل التكلسات في الشريان التاجي، فترتاح مدي الحياة.
الزوج والزوجة سوريان دمشقيان من حارة شعبية عريقة، انتقلا للعيش في بيروت التي غادراها أثناء الحرب الأهلية الي (لندن) بعد أن ضاقت سبل العيش، ولكنهما لم يطيقا العيش هناك فعادا الي شقتهما في (رأس بيروت) ليستأنفا حياتهما علي مقربة ممن يحبون، في بيئتهما التي في غيرها تقتلهما الغربة والحنين.
من المقاطع الأولي في الرواية، سيتعرف القارئ علي الشخصيتين، فالراوي لا يخفي أن (أمل) هي أمل جراح الشاعرة السورية زوجة الكاتب ياسين رفاعية، وأن الابن والابنة هما ابناهما بسام ولينا.
ياسين رفاعية لا يكتب سيرة شخصية له، أو لزوجته، وان كان يمتح من التجربة متجاوزاً جوانب كثيرة فيها لا تهم القارئ، وينأي عن (الميلودراما) بطرح أسئلة الحب، ولغز الموت الذي ينتزع منا من نحب، ويهدم استقرار واستمرار الحياة.
كابدت (أمل) كثيراً في مرضها، ولكنها بالحب استقوت عليه، بالتعلق بالزوج الحبيب، والابن والابنة، واستنبات الزهور في أصص تجمل (الشقة) العش، والشرفة التي تطل علي بيوت جيران بيروتيين في منطقة (راس بيروت) المتداخلة مع شارع الحمراء.
لحظة موت (أمل) تبدأ (حياتها) من جديد في روح الزوج (العاشق)، الذي كان يعيش (حياته) باقتناص لحظات (خروج) علي الحياة الزوجية مبيحاً لنفسه اقامة علاقات نسائية عابرة، ظاناً أنه يستغفل الزوجة المحبة التي كانت تتسامح معه أحياناً، وتكظم حنقها وغيرتها، لأنها تعرف أنه سيعود اليها، ولن يفرط بحبه لها، وحبها له.
تشبه هذه الرواية في فصولها أن تكون (قصيدة) طويلة، تتكون من مقاطع، تنطلق من لحظة الموت، يتأمل فيها كاتبها ـ قل شاعرها ـ الحياة، والحب، والموت، والنفس الانسانية، وخصوصيات زوجين عاشقين.
في مقطع وصف معاناة (أمل) في المستشفي، وعذابها من نوبة ألم ممض، لا يصف لنا ما يجري لنشفق عليها، ولكن لنري الي أي مدي تتحمل الألم تعلقاً بالحياة، فالطبيب المعالج، يجري لها عملية (بزل) في السرة بالبنج الموضعي، لتفريغ الاحتقان واخراج الماء من البطن، وهي تربط من رسغيها، وقدميها، تصلب ـ كما تعلق بعد تلك العملية الرهيبة الألم ـ كالمسيح!
المرأة التي أجريت لها ثلاث عمليات كبري في القلب، تعود الي البيت بعد آخر عملية اسعافية في البطن، تعود وقد جابهت الموت بالتغلب علي الألم، بحيث يشهد لها الطبيب بأنه يجري عمليات جراحية علي مدي عشرين عاماً ولكنه لم يشهد انساناً يتحمل العذاب الذي تحملته أمل، ويتشبث بالحياة بطاقة عجيبة، وهو ما فسره الطبيب بأنه نابع من طاقة حب مختزنة في داخلها.
ما أن وصلت البيت حتي أخذت تقبل كل شيء: الهاتف في المدخل، الأبواب، ضلفات النوافذ، أوراق الزهور، الثلاجة، غلاية القهوة، مرددةً عبارة واحدة: آه ما أحلي البيت...
تموت (أمل) بعد أن أخذت كامل زينتها. تتردد في مغادرة البيت لزيارة بعض جاراتها، تموت في لحظة (كشف)، كالصوفيين...
نقرأ عن لحظة الفراق : ذلك اليوم المشؤوم، في السادس من شباط (فبراير) 2004 كنا جميعاً في احسن حالاتنا، كانت عندنا جارتاها صباح وزينب. في صباح ذلك اليوم تحممت، وذهبت الي الحلاق، وصبغت بضع خصل من الشيب في شعرها، واختارت خصلة جعلتها بنية الألوان علي شعر أسود فاحم، وتغندرت، ورسمت الأحمر علي شفتيها، فازدادت جمالاً وبدت أصغر من عمرها بعشرين سنة. كانت تحب أن تكون بأحسن حالاتها، والذي لا يعرفها عن قرب لا ينتبه أنه أمام امرأة بقلب معطوب (51)...
رغم أن رحيل (أمل) كان متوقعاً في أي لحظة، فان الزوج وقد اعتاد صمودها، وخروجها سالمةً من الأزمات الصحية العاتية، طمأن نفسه أنها ستكون دائماً بخير، وأنه يكتفي بحضورها ـ الطبيب طلب منه أن لا يناما معاً في سرير واحد، حتي لا تنفعل مما يؤثر علي قلبها الضعيف ـ بتنفسها في أرجاء شقة الزهور، والشرفة المطلة علي الحياة، وصخب بيروت، وحيوية شارع الحمراء...
تحضر امرأتان لتغسلا جسد (أمل)، ولكن الزوج يرفض، فهو زوجها وحبيبها يريد أن يغسل جسدها، وهو يعرف أن هذا جائز شرعاً.
(نظرت اليها طويلاً، هذه المرة الأولي في حياتي أراها عاريةً بهذا الوضوح. لم تتعر أمامي بهذا الوضوح قط. كانت خجولةً الي حد كبير، ولم تسمح لي بتاتاً أن أراها عارية تماماً. كانت تستر عريها بيديها تارةً وبالشرشف تارةً أخري، وتنطوي علي نفسها مسدلةً شعرها علي صدرها. الآن، الآن، ها هي أمامي كما خلقها الله، بكل جمالها الآسر، وبكل بياضها. كنت أظنها سمراء. كان وجهها جذاباً، راحتاها سمراوين، ساعداها سمراوين. لم أظن أن جسدها أبيض كالثلج، كأنها جوهرة بيضاء ممددة أمامي الآن. بيضاء كالزنبق، بيضاء كالورق الذي كتبت عليه قصائدها. بيضاء كالزنبق الذي كانت تحبه، بيضاء كالياسمين، بيضاء كالقرنفل... (ص 60).
يبدأ بتغسيل زوجته كأنما هو محموم، يهذي، غير مصدق أنها رحلت، وأن جسدها ميت لا حياة فيه، فمها لا يتكلم، عيناها لا تنظران، شفتاها لا تبتسمان:
وضأتها وأنا أقول : نويت الوضوء المسنون لزوجتي أمل، ثم غسلت رأسها ووجهها، وسرحت شعرها بمشط جلبوه لي منفرج الأسنان. سرحته برفق شديد وأنا اردد : ليرحمك الله يا حبيبتي، رحمك الله، ألله اكبر، لا اله الا الله، لا اله الا الله. كان قليل من الشعر يتساقط فأرده اليه، ثم غسلت شقها الأيمن ثم الأيسر، ثم حرفتها الي شقها الأيسر وغسلت شقها الأيمن مما يلي قفاها وظهرها الي قدميها.. توقفت وأنا ألهث. نظرت اليها ملياً ملياً، كأن عيني تحجرتا وأنا أنظر اليها، فلم تحيدا عنها.. دخلت علي المرأتان وبأياديهما كفن أبيض كبير. ابتعدت قليلاً عنهما، فلفتاه به ثلاث لفات، وربطتا قدميها.. وتركتا وجهها ظاهراً. طلبتا مني تقبيلها فقبلتها من كل وجهها وأنا أرتجف وأبكي (ص 61 و62).
لم اقرأ من قبل في الرواية العربية مشهداً عميق الانسانية للعلاقة بين رجل وامرأة كما في هذا المشهد، قوة تأثيره نابعة من لوعة الفراق والرحيل الي المجهول، وانكسار انسان فقد طمأنينة حياته بموت الحبيب، فتفجرت أسئلة الحياة والموت والحب لتزعزع روحه، وتدفع به بعد رحيلها، وتردده الي قبرها يومياً ناثراً عليه الزهور البيضاء التي كانت رفيقة نفسها دائماً.
الروائي بخبرته الفنية المديدة، يضع المتلقي، ومنذ الجملة الأولي في روايته، في جو (الحدث) الدرامي الفاجع: عندما اقتادوها الي غرفة الانعاش بدت مستسلمة، فطبيب التخدير كان في الليلة الماضية قد حذرها بان الخطر علي حياتها مئة بالمئة، ولكن لا بد من اجراء العملية..(ص7).
في الرواية شخصيتان رئيسيتان هما (أمل) الزوجة، و(الراوي)، والابن والابنة حضورهما طيفي، وبعض الشخصيات كشقيقة أمل، أو الطبيب الجراح، وطبيبة القلب الجميلة، ليسوا سوي شخصيات عابرة...
أمل تعيش بعد موتها في روح زوجها، الذي لم يكن الا لها، رغم علاقاته النسائية العابرة...
تمضي الرواية متتابعة المقاطع. تبدأ من المشهد الأول في المستشفي وغرفة العمليات، وتنتهي بالزوج المحب المسكون بحبيبة رحلت ولا يصدق رحيلها، وهو يؤكد للطبيب انه نبش القبر، وأن (أمل) ليست موجودة فيه...
القارئ سيدرك بعد فروغه من قراءة هذا (النص) الروائي الشعري، أن أمل لم تعد مجرد جسد ميت، ووري الثري في قاع حفرة عميقة، انها تعيش في روح الزوج الذي ازداد تعلقاً بها بعد رحيلها وفقدانها، والذي يتشبث بتفاصيل حضورها وحياتهما معاًُ قرابة أربعة عقود...
بالحب يحاول الزوج العاشق أن يستعيد حبيبته من الموت، ولأنه يدرك أنها ماتت وأن الحياة انتهت، وأنه سيبقي وحيداً، وأن الموت حول الحياة وهم، فانه يصاب بحالة هذيان تجره في النهاية الي طبيب الأعصاب والأمراض النفسية، لتمضي حياته بطرح الأسئلة، والعيش في الفراغ وكأن الحياة لم تكن يوماً، ماتت مع موت الجسد، انطفأت فساد ظلام لا في البيت الفارغ، ولكن في النفس والعقل والروح، ظلام مفزع يفجر أسئلة لا أجوبة لها...
وبعد، فقد تمكن الروائي والقاص ياسين رفاعية من تحويل معاناة شخصية الي عمل فني متألق، لأن الموت وهو نهاية كل حي يتركنا نحن البشر أمام الأسئلة المحيرة والمقلقة، والتي لامسها أسلافنا (سردياً) منذ كتب ابن طفيل (حي بن يقظان)، وتأمل من قبله وبعده كثيرون سؤال الموت، بالفنون، والفلسفة، والأساطير، والشعر، ثم ها هو ياسين رفاعية يطرح من جديد الأسئلة التي تمض العقل والروح، وتدفع للابداع الفلسفي، والفني، والأدبي ...
ہ صدرت الرواية عن منشورات (دار الساقي) في لندن هذا العام 2006.