فضاءات السخرية ومدارات الفنتازيا
فى مجموعة ( انحراف ) القصصية
للقاص/ مصطفى إبراهيم آدم
_________________________________________________
حسن غريب أحمد
__________________________________________
يعتبر الأديب مصطفى إبراهيم آدم واحداً من الأسماء الأدبية اللامعة فى سماء المشهد الثقافى السيناوى خاصة والمصرى عامة, وتجئ أهميته الثقافية والأدبية من مسائل عديدة أهمها اشتغاله بكل صنوف الكتابة الإبداعية
كالقصة والشعر والدراسة الأدبية واللغوية والمقالة والتراث الشعبى, وأخيراً وليس آخراً فن الزجل, وهو أيضاً على وشيجة بالناس وقريب من همومهم, لكونه يعمل محامياً, وإن لم ينشر له حتى الآن أى كتابٍ مطبوع, فعند حسن ظنى انه يتعاطى ذلك الإبداع الجميل بمزاجية عالية من حينٍ إلى آخر, ولعله يؤثر أن يترك نفسه وروحه وليس أدل على ذلك من مجموعته القصصية الغير منشورة, " المخطوطة الأولى" "انحراف" والتى سنتناولها فى هذه الدراسة.
وما يلفت الانتباه أنه على عكس ما درج عليه الكُتَّاب فى تصدير كتبهم, فإن مصطفى آدم يقدم لمجموعته بتوطئة بعنوان "الأوضة الفاضية", ولعله العنوان السابق لمجموعة"انحراف", وهكذا يجمع مصطفى آدم بين الأمل والغد ليرسم عالماً جديداً تسوده كل القيم الإنسانية النبيلة من بساطةٍ وحب وعطاء, يتصدى لكل أشكال الزيف والتشوه الأخلاقى والاستغلال والخيانة, وما أصدق تعبيره " وما أشبه الأقفاص الصدرية بالغرف الجرداء الفارغة المحتوى", ولعل ما يزيد الطين بلة أن الفقر والمرض والجهل فى عصر تعدت فيه الحضارة العالمية حدود الاستحالة يولد الكثير من صنوف الصدمات والنوبات العصبية, وتبقى البيئة الشرقية هى المستودع الأول لهذه الشخصيات الغريبة رغم اختلاف مشاربهم وثقافاتهم" المقدمة "
السخرية
محاور كثيرة جداً وغنية يطرحها القاص مصطفى آدم فى هذه المجموعة القصصية أهمها السخرية من الواقع المعاش, والمرأة والحلم والأغنية, والشعر والشعرية والواقع البيئى, وتناغم القصصى بالشعرى, وتحتل الفنتازيا والسخرية مرتبة الصدارة فى مجموعة "انحراف" القصصية, التى يخصصها الكاتب للقصة القصيرة, ونؤكد أنه من النادر أن يقدم قاص على تخصيص مجموعة لهذا الشكل الفنى وهى نقطة إبداعية جريئة تسجل لصالح القاص, وذلك فى تقديمه أطر فنية جديدة بشكل عام.
وفى هذه المجموعة القصصية"انحراف" تأتى السخرية من داخل العمل وليس من خارجه...... إنها تنبع من الحدث والموقف, تجئ بسيطة كالماء..... واضحة كطلقة مسدس, لذلك فإنها تدهشنا, وتسعى لإعادة الكثير من التوازنات المفقودة داخلنا كما أنها تذكرنا بشكل أو بآخر بسخرية الكبار فى ميدان القصة القصيرة أمثال عزيز نسين ويوسف ادريس ومحمد مستجاب ومحمد الراوى وغيرهم.
تتصدر قصة"الغرفة الفارغة" قائمة السخرية بلا منازع ........ تحفر عميقاً فى الوجدان والقلب, وتفجر كثيراً من الطاقات والآلام المخبوءة فينا, بفعل مغالطات صارت سائدة, وتنذر بسحب بساط الحياة الجميل من تحت أقدامنا ولنتابع مشهد من قصة"الغرفة الفارغة":-
" ما زال خاطره مفعماً بالأسئلة , ترك لسيارته العنان, راح فى سباته المعتاد, ألصق المقعد بجسده المفعم بالوشم الجهنمى على كتفه اليسرى, هكذا أطلق كبيرهم بالحجز عليه لقب "الشخِّير" حال سماعه أولى دفقات النغم الرجَّاج الذى يتميز به فى سيمفونية المنام, طلب منه نفسين أقوى كمان وكمان, يصطدم بإشارة مرور قاتلة تبعده عن رفيقه المسجل خطر أمن عام, المسافات الضوئية تبتلع الذكريات".
وفى قصة "صراع" سخرية مريرة من الاتكالية والإهمال واللامبالاة والتخلف الفنى والثقافى....... إنها لوحة سريالية لفن من فنون الرسم المتعارف عليه عالمياً, ورغم ذلك يرى الشيخ أن لوحة الفتى هى مجرد لوحة مستهلكة وسيئة وشخابيط ابتلعتها كل المساحيق والألوان ولا يأبه إلا برائحة الكفتة والكباب.
ولكن عند كاتبنا وعالمه الساخر جداً نرى أن الكاميرا "الخفية" للقاص سوف ترصد سلوكاً آخر متغايراً جداً فى قوله" رصيف الإبداعات المتنوعة داخل إتيليه الفتى الشغوف بفنون الصراعات الجنونية لمختلف التيارات التشكيلية المتدفقة فى الفضاء, يسبح كلاهما فى دخان الكثافة السكانية المترامية الأطراف", ليثبت بقوله على لسان الفتى" لم تلد السريالية مثلى, تعال يا شيخ أرنى بضاعتك كى تشهد لى بوسام المقارنة".
وهكذا يسخر القاص من انقلاب مفاهيم الجمال فى الحياة المعاصرة, وحفاوة الناس بالأكل والشرب وملئ البطون, وينسون غذاء العقل والروح ... حتى فى عالم الرسم والفن يعنى الناس بالقبح بدلاً من لمسات الجمال.
الفنتازيا والإدهاش
تأتى أهمية مجموعة "انحراف" من ذلك الكم الهائل من الفانتازيا التى تحفل بها قصص مصطفى إبراهيم آدم, وهذه الفانتازية ليست كمية فحسب بل هى نوعية أيضاً, ولا تأتى من خلال معطيات تجريبية غريبة, وإنما تنبع من رؤية إبداعية أصيلة عند الكاتب الذى يستفيد بوضوح من خلال خبراته المعرفية والثقافية, ومن خلال فهمه لطبيعة النص القصصى القائم على الإدهاش والمباغتة, ولا سيما فى نهاية قصصه التى تأتى على غير العادة وعكس ما هو منتظر و متوقع.
إن القفلة القصصية بقدر ما تحمله من تفجير فى اللغة والحدث, فإنها فى الوقت التي تغلق فيه القصة بقدر ما تفتح أمام القارئ والمتلقى عوالم مدهشة من التساؤلات والاحتمالات, وهنا ينتهى دور الكاتب ليبدأ دور المتلقى فى البحث والمعرفة فيما وراء السطور والكلمات, وبهذا الشكل يساهم الكاتب مصطفى آدم والمتلقى معاً فى صياغة المعرفى والجمالى فى فن القصص من جديد, وتتجلى الفانتازيا فى أبهر صورها فى قصة "الدوران" وهو رمز شفاف وموظف خير توظيف, يلقى علينا بظلاله الدلالية, ليفتح أمام القارئ عالماً آخر من الأسئلة والتداعيات المعرفية " هدأ السائق سرعته قائلاً :- دقيقة حداد , استهل مع الركاب قراءة الفاتحة على ضحايا دوران الكوارث, عندما عاد الأتوبيس فى الانطلاق بسرعته المعتادة, طلبت السيدة وعيناها على الدوران المشئوم أن تنزل, أو أن يهدأ من السرعة, للمرة الثانية استجاب لها وهو يلقى على عينيها نظرة تحقيق جلية, وودع مقلتيه واسترسل فى الصمت"( من قصة الدوران).
إن لقاء شفرتى السائق بالسيدة هنا يغتال حلم الحياة الجميل, ينهيه بلحظة واحدة, وتجئ النهاية الفاجعة كابوساً ثقيلاً عصياً على الفهم والاستيعاب من خلال وداعه الصامت من مقلتيه للسيدة.
وقريباً من هذه الأجواء الانتقادية التى تمزج بين سخرية الواقع المعايش وفانتازيا الحقيقة, تجئ قصة "الفارس والضحية" لتدين نمطاً من العلاقات الشاذة القائمة على الانتهازية والنفعية وإشباع النزوات.
" أوجس فى نفسه خيفة, يحسبها فى سريرته فخاً منصوب له بإحكام, شاركت القتيلة فى حياكته, مع تقلب الفصول الأربعة صرخ بأعلى الأصوات, لم يعد عندى شيئاً أخفيه من الأسرار, لا أريدك, لا أريدك, سأنتقم منك لا محالة"( من قصة الفارس والضحية).
وفى قصة "العدوانى" تلعب الفانتازيا لعبتها فى القفلة القصصية التى تأتى على عكس ما هو متوقع, وتفتح أمام القارئ عوالم من الدهشة والتساؤل حول واقع السرقات الأدبية والثقافية, وأسباب تفشيها حولنا, ومصيرها فى عالم باتت تحكمه المصالح المادية, ويهدد ذلك بتدمير كل ما هو جمالى وأساسى فى حياتنا ........ من سرقة للفكر والعقل والقلم.
" يقفز مع المذيع فى القراءة, يعكف جاهداً على تحضير رسالة الماجستير المقتبسة من التراث الشعبى عن مدى تأثير الأحلام فى نفوس الناس البسطاء, تتغلغل الرؤى فى نخاع سلوكياتهم, لدرجة الخوف حتى الموت من تفسير مشاهد الضحك والرقص وأعراس الفرح مع المرأة المجهولة, فى أحلام المنام, عدد الأشياء الخطرة على سبيل المثال لا الحصر:- النحل - الديك – الإبريق – البحر- السجن – القبر ....... اختتم المذيع, سعدنا أعزائى المستمعين مع قصة أديبنا الراحل ...... انسحب منصعقاً إلى الباب يجر فلول الاضطهاد المتراكم, سرقونى أولاد ال ......., قتلوا ما تبقى فى كيانى من طموحات العبير, أمطرت عيناه وابلاً أسوداً من صخور الجرانيت المشتعل" (من قصة العدوانى).
والمتميز هنا أن الفانتازيا لا تأتى من خارج العمل, ولا من خارج الواقع المعيشى, بل هى تنبع أصلاً من مفارقات جادة باتت تحكمنا, وتسلط سيوفها القاطعة على رقابنا, والقاص هنا لا يتدخل, ولكنه يكتفى بالتلميح والإشارات, وجل همه أن يضعنا أمام مفارقات على غاية من الحدة, ويترك لأخيلتنا العنان لنفكر ونتساءل, نحاور النص ونتفاعل, وبعيداً عن الشعارات والاستعراضات اللغوية المزيفة, وكل التقنيات الممجوجة والمستوردة من الغرب فى أغلب الأحيان, تجئ قصص مصطفى إبراهيم آدم بلحمها ودمها النازف والمبعثر فى كل الاتجاهات, لتضعنا فى بؤرة الحدث المتأزم حياتياً ومعرفياً, إنه السهل الممتنع, تلك المعادلة التى لا يقدر على إنجازها إلا من امتلك ناصية الموهبة الحقة, وأخلص لها كل الإخلاص.
حديث القاص مصطفى إبراهيم آدم فى هذه المجموعة القصصية عن الذكريات والطفولة, معادل موضوعى للفرار من أزمة المدينة الحديثة, بكل عقوقها وإنكارها للجميل والأصيل فى الإنسان وعبر سلسلة من الذكريات والتداعيات, ينقلنا القاص إلى عالم غنى بقيم الحب والجمال والعشق, عالم نحن فى أمس الحاجة لنتعلم منه كيفية التصدى لكل التحديات التى تعصف بنا ....... وتسعى جاهدة لتنقلنا إلى عالم التشيؤ والتقزم والاضمحلال ونسيان المكان والتاريخ.
وقصة" عصفور الريسة" بكسر الراء وفتح السين مدهشة إلى أبعد الحدود فى بساطتها, موجعة أيضاً فى تفاصيلها, وهى تتأرجح بين الأبيض والأسود, تحكى ماضٍ زاهٍ جميل, وحاضر مفعم بالإثم والفجيعة!.
" اغرورقت عيناه بالدمع الهصور, جفف جفونه بالسباحة إلى منبع البحر الكبير, ناشده متوسلاً أن يخلى بينه وبين نخيل الريسة المتناثر الجذوع, أين منك أيها الشاطئ الأسطورى؟, لم يتحد الأعداء غيرك, ما بال أشجارك وأطيارك متهالكة, متأكلة, محروقة, مفتتة؟, ماذا حل بك؟ ينعى ما تبقى منها بنخر السوس"( من قصة عصفور الريسة).
تستهوى القاص مصطفى إبراهيم آدم التفاصيل القصصية الدقيقة, فنراه يكتب ويطيل, حتى تظن أنه قد نسى نفسه وروحه والقصص القصيرة التى عقد العزم على الاشتغال بها, ولكن الحقيقة غير ذلك, فعلى الرغم من إطالته بعض الأحيان, إلا أننا فى النهاية نرى أنفسنا أمام قصة قصيرة جيدة, ورغم الإطالة فى بعض النماذج مثل:- ( الشك القاتل, العدوانى,انحراف, كل شئ على ما يرام, طائر الدوح), فإن هذه الإطالة التسجيلية لا تعيب السرد فى شئ, لأنها تعتبر من قبيل توثيق الحدث, وتأكيداً لصدق المعاناة بوضع أكبر كمٍ من الأملاح علىالجرح المشتعل.
وعلى عكسها تأتى بعض القصص مضغوطة فى قالب فلاشات سريعة يكون الهدف من ورائها بث حكمة هنا أو موقف وجدانى هناك, ومن مثل ذلك القصص التالية:- (سواء السبيل, المئزر المنعش, لعم, المقبور, الغريق, شعور, طعم الحياة, الفارس والضحية, المدخنة), وقد يدهش المتلقى من الطابع الفلسفى الذى يستشفه من بين السطور.
إن مجموعة "انحراف" القصصية للكاتب مصطفى إبراهيم آدم بعدد واحد وعشرين قصة قصيرة, تصور دون أدنى مبالغة - وبلغة متجانسة بسيطة وغير مبتذلة- البُعْد الفلسفى الراقى والامكانات الإبداعية اللامتناهية, والمخزون الثقافى الذى لا ينضب عند الكاتب, أما عن توظيف بعض من التقنيات السردية فقد جاءت متوافقة ومتسقة مع خط السرد العام, ورصد الكثير من التفاصيل التى آثرت النص, وعملت على تكثيف اللحظات المرصودة برمتها, وجعلها مشبعة شكلاً ومضموناً, كما أن الضمائر المستخدمة جاءت تارة فى كثير من قصص النص بضمير المتكلم, وأخرى بضمير الغائب, والضمير الأخير قد جاء مناسباً لطبيعة السرد, فكان الكاتب موفقاً لحد بعيد فى اختياره .... أما قصة" الغرفة الفارغة" على وجه التحديد فلم يكن سوى ضمير الغائب صالحاً لطبيعة ومستوى النص.
فى النهاية نقول أن الكاتب مصطفى إبراهيم آدم أفلح واستطاع أن يقدم لنا فى هذه المجموعة القصصية"انحراف" نصاً ثرياً من خلال تراكيب لغوية هادفة إلى إبراز مستوى التداخل بين الذات والآخر, ومن خلال توظيفه لمستويات الشعور واللاشعور فى آن واحد, وتبقى بلاغة اللغة وجزالة اللفظ عند الكاتب وسيلة أخرى فعالة لاستشفاف طبقات الوعى الفردى والجمعى معاً.