انقلاب دور الجيش العربي
الانقلاب الكبير الذي يحدث الآن في المنطقة العربية لايكمن في الثورات الشعبية فقط، على أهميتها التاريخية الكبرى، بل أيضاً في بدء تغيّر دور الجيوش أو المؤسسات العسكرية النظامية في الحياة السياسية العربية .
وكما هو معروف، أيّ تغيير أو تطوير ديمقراطيين في الأنظمة العربية، خاصة “الجمهورية” منها، يجب أن يحظى بدعم الجيش، وإلا فإن أجهزة الأمن والاستخبارات التي أمسكت بزمام السلطة على مدى نصف قرن، ستواصل الاحتماء بهذا الأخير باعتباره العمود الفقري لسلطتها .
سنأتي إلى هذه المسألة الحيوية والحاسمة بعد قليل، بما في ذلك استعراض دور الجيوش في الانتقال إلى الديمقراطية في بلدان كتشيلي وإندونيسيا وتونس وغيرها . لكن قبل ذلك، وقفة أمام الأطوار التي مرّ ويمر فيها الدور السياسي للجيش في الحياة السياسية العربية .
بعد حقبة التحرر من الاستعمار، برز الدور الكبير للمؤسسة العسكرية، سواء كقوة تحديثية للدولة والمجتمع تعمل على تسهيل الاندماج الوطني والقومي العربي، أو بوصفها مجرد ديكتاتورية عسكرية تحكم باسم/أو بالمشاركة مع طبقات اجتماعية جديدة وقديمة، كما حدث في معظم أمريكا اللاتينية والمنطقة العربية .
التبرير الذي استند إليه القادة العسكريون في العالم الثالث للاستيلاء على السلطة السياسية، (وقع 200 انقلاب عسكري بين 1960 و1972) قام على دعامتين: الأولى، أن النظام السابق خان الأمانة الوطنية والاجتماعية، والثانية أن الجيش يخدم الشعب أو الأمة وليس الحكومة أو النظام، ضد الفساد والطغيان .
وإلى الفساد والطغيان، أضاف الضباط العرب إلى اللائحة نكبة فلسطين عام ،1948 التي احتلت المرتبة الأولى في سلسلة الانقلابات التي دشنتها سوريا ثم لحقت بها مصر والعديد من الدول العربية الأخرى .
بيد أن دور الجيش في الفضاء السياسي العربي شهد تحولاً بارزاً في العقود الثلاثة الأخيرة، بفعل التغيّر الذي طرأ على طبيعة التحديات الأمنية التي يواجهها كل بلد عربي . فالصراعات بين الدول انحسرت إلى حد كبير وأصبحت نادرة، فيما باتت الصراعات الأهلية شائعة، وهذا أدى إلى توسّع كبير في أجهزة الأمن العربية على حساب القوات المسلحة، ثم جاء دخول الإرهاب إلى المعادلة السياسية ليفاقم كثيراً من هذا التوسّع، وهكذا أصبحت السلطة السياسية في عهدة أجهزة المخابرات العربية أو بقيادتها، وهذه الأخيرة ما انفكت منذ ذلك الحين تلعب دوراً يشبه دور النخب التوتاليتارية في أنظمة الحزب الواحد، وهو الدور الذي يستند إلى السيطرة السياسية على الدولة والجيش من قِبَل نظام حزبي سلطوي واحد . الجيش هنا يدين بالولاء للنخبة التوتاليتارية (اقرأ هنا أجهزة المخابرات)، لأنها تضع موارد اقتصادية كبرى بتصرفه، فيما تكون السيطرة السياسية للشرطة السرية .
علاوة على ذلك، لم تعد الأجهزة تقصر نشاطاتها على السيطرة الأمنية، بل باتت تمدد “هيمنتها” من المجتمع السياسي إلى المجتمع المدني: إلى الإعلام والثقافة، والسينما والمسرح، والنقابات والاقتصاد، وتخلق ما يسميه أحد الباحثين “ثقافة الأمن اللاإنساني” .
ويقول أنصار الإصلاح الديمقراطي في الوطن العربي إن “الدور المركزي للشرطة السرية في كل بلد عربي، مع قدراته الخفية والأخطبوطية، أصبح العائق الأكبر أمام الإصلاح” .