الثورة العربية الثانية
سوسن البرغوتي
اشتعلت الثورة العربية الأولى من أجل التخلّص من الحكم التركي، والتطلّع لإنشاء دولة موحدة قوية في المشرق العربي، لكن تحالف الشريف حسين مع بريطانيا عام 1916، كان بمثابة الرصاصة الأولى التي اغتالت أهداف الثورة، واستطاعت بريطانيا الالتفاف عليها، باستقطاب قائدها، والانصهار في مخططات احتلال بلاد الشام والعراق، وتقسيمها لولايات لتسهل عملية تقاسم استعماري. ووسط مجريات الأحداث في كثير من البلاد العربية، يبدو المشهد الحاضر قريباً من ذلك المشهد الماضي.
ساهمت بريطانيا العظمى آنذاك بعمليات عديدة ضد الإمبراطورية العثمانية الآفلة، إلى جانب ما أُطلق عليهم صفة الثوار. وبعد الحربين العالمتين الأولى والثانية، وما تخللهما من وعد بلفور لليهود بمنح فلسطين (وطن قومي) لهم، تم استكمال احتلال الوطن العربي من محيطه إلى خليجه، لتبدأ حقبة جديدة، من النضال ضد الاستعمار القديم وتنابله وعملائه المحليين، حتى نالت البلاد العربية واحدة تلو الأخرى استقلالها، وبقيت فلسطين مكبلة بقيود وعد الحلفاء للصهاينة.
لم تكن تلك المرحلة هادئة، وإنما أشعلت غيظ أبناء الوطن ضد هؤلاء المستعمرين، وأيقنوا أن التحالف مع أعداء الأمة، لن يأتي بما تشتهيه سفن الحرية، وأبدعوا في تكبيد المحتلين، أفدح الخسائر.
التاريخ يعيد نفسه، والحلفاء يختطفون ثورة قامت أصلاً ضد نظام الولايات، الذي سبق خارطة سايكس- بيكو، ويرهنوها لمصالح ومطامع، ليست بخافية على أحد، إلا أن القوى الاستعمارية، وفي مقدمتها أمريكا، ستعيد إنتاج وتسويق شعار الحرية والديمقراطية، العدالة والمساواة، ليس من أجل استجلاب قوات غازية، تغرق في مستنقع مداه مساحة الوطن العربي، بل عبر اتفاقيات وقواعد تحمي مصالحهم، وأخرى إستراتيجية، لضمان أمن وبقاء الكيان الصهيوني، ضد الأعداء الحقيقيين، وهم المقاومون الثابتون في مواقعهم ومواقفهم، لا تسقطهم تحالفات مشبوهة، ولا تغير أصواتهم منابر الضخ الإعلامي "الثورجي- المعتدل"، الذي فاق ضخ النفط للحلفاء الدوليين، بكمية أخبار وتقارير وأحياناً أفلام ممنتجة وقد تكون معدة سلفاً، لتضخيم السارقين والمندسين والانتهازيين على أنهم هم الثوار، والحقيقة أن هؤلاء أعادوا مشهد السيرة الأولى وأحيوها وهي رميم، مع تطور في آليات وأدوات ووسائل العصر، وتوسيع رقعة تنشيط خلايا نائمة، لبث كم هائل من الأحقاد والفتن الطائفية والمذهبية، ناهيك عن التخوين والتكفير لمن ليس معهم، وبالضرورة هو عدوهم. وهؤلاء بالذات لم يطلقوا رصاصاتهم ضد الاحتلال في العراق وفلسطين، ولكن التفجيرات العشوائية والذبح والشنق شاهدة على أفاعيلهم لإثارة رعب وإرهاب المدنيين الأبرياء.
وقد اتخذت أدوات الحلفاء الدوليين و"أشراف المهالك"، أشكالاً كثيرة، وأذرع استخباراتية، معاول تهدم عمق المجتمعات العربية وثقافاتها.الأرض العربية مستباحة من قبل الاستخبارات الغربية و"الموساد"، ومن التفَّ على الثورة وسرقها لأجندات هذا الجهاز الضخم، لم يصدر عنه صوت واحد يطالب بتحرير الأرض بشكل مباشر أو غير مباشر عبر شركات نفطية وقواعد عسكرية هنا وهناك، ومنظمات تمرر ثقافة العولمة "التأمرك".. أليس غريباً، أن "الأحرار" لا تعنيهم حرية الأرض التي يعيشون عليها؟!.
يبدو أن الشعب العربي مقبل على مرحلة تتبع ما هو مشهود، فلم يجنِ بعد ثمار ثورته، وليس متوقعاً أن يقطفها سريعاً، ومن غير المسموح له أن يتنسّم الحرية على أرض مستقلة، لذلك فالمتشائمون لهم وجهة نظر، أنها ما قبل إعادة تمزيق الولايات العربية، من أجل "شرق أوسط جديد"، والمتفائلون، يرون أن من طرَد الاستعمار سابقاً، قادر على إعادة تنظيم صفوفه وإسقاط عملاء وخونة، وتتسع الرؤيا وتتعمق إستراتيجية التحرير، بحيث تصبح المعركة شاملة ومفتوحة، وبطرق ووسائل أيضاً تختلف عن النضال إبان الاستعمار القديم، فثورة بلا أرض محررة، كزبد البحر، سرعان ما تتلاشى، والمقاومة بحارها أبعد من حدود المكان، والحقبة القادمة، هي التأهل والتأهب لتحرير الوطن العربي، كما حدث سابقاً.
وهذا لا يعني أن الكثير من الأوراق ستسقط، أو كثير من الشخصيات والقيادات ستغير مواقعها وتنهار صروحها، من المقاومة إلى التحالف، ومن يوالي ويحابي أي من الحلفاء و"أشرافه" ومؤسساته، لن يجد خاتمة له، إلا الإبعاد إلى خارج الوطن في أحسن الأحوال، وإخراجه من المعادلة الوطنية، آجلاً أو عاجلاً.
وأما من توحدوا على مبادئ لا تهادن ولا تساوم ولا تميل حيث مالت الريح العاتية، سيُولد من ثورتهم الأصيلة، رجال الميدان والمنازلة، ويكون النضال السياسي الثابت غير المتغير حسب الأجواء، عوناً وداعماً لهم، وهذا لا يعني، أنه سيتخلل ذلك سقوط وانحراف، ارتفاع بوتيرة المواجهة والتماسك، بين الفينة والأخرى.
إن عنوان المعركة الكبرى المرتبط بالأحرار المحررين، إنْ متَّ، متَّ شهيداً، وإن عشت عشّ كريماً، لا مذلولاً وأضحوكة كبار موظفي حلفاء الشر الدولي، ومحكوماً بالمال وبيع الذمة والضمير، فالصمود وعزة النفس والثبات، أيضاً مقاومة، والأعمال المنجزة سيدة الأحكام والمواقف. وما بعد انتصار التحرير الثاني، سيعود الوطن العربي حراً مستقلاً، لا وجود للكيان الصهيوني والغزاة الاستعماريين فيه.. فهل هناك من يستعد إلى معركة طويلة وشائكة قد تمتد لعقود، وليس أحد ولا قطر بمنأى عنها؟.
من يقاتل من أجل قضايا ناجزة، لا كمن يصطف مع هذا أو ضد ذاك، أو يعمل في إطار ولايات منتهية صلاحياتها، لدى حلفائها الاستعماريين قبل شعبها، أو من منظور ضيق، فالتحرير والحرية رديفان، وغياب أو تغييب أي منهما، سيدخلنا في دائرة الشبهات، فادرؤوها، سلمتم وسلم الوطن من مائه إلى مائه، ومن دماء أبنائه يحيا الوطن عظيماً من جديد، فهل القيم العليا تُؤخذ بالتمني، أم بالتضحيات والثبات؟..
فلا أجمل ولا أروع مما نظمه الشاعر القروي في قصيدة (وثبات العقول):
لم يعد ينفعُ الأسودَ ثوبٌ=بعد أن طارَ بالجناحِ الثعالبْ
وثباتُ الأقدام في التُربِ لكن=وثبات العقول فوق الكواكبْ
فاضرب البازَ بالعُقاب وحارب=بسلاحِ العقول أو لا تحاربْ
--