إذا تعلَّمتَ يوماً الانسحاب فسوفَ يُصبِح عادة


فينس لومباردي



أولى فصول رواية يوميات تحت الطاولة


- 1 -


السقوط إلى أعلى


**********

تسمعُ شذراتِ حديثِها ... فتأخُذُكَ كلماتُها بعيداً ... تُمسِكُ بروحِكَ وتَتسلَّلُ بها عبرَ سراديبِ النَّفسِ البشريَّة لتُطلِعَكَ على تراكماتِ الخريفِ في حَناياها .
هكذا تظنُّها وأنتَ تتسلَّلُ عبرَ مَمرّاتِ روحِها النقيَّة .
ولكنْ ما إنْ تهُمُّ بالخروجِ ممّا حسبتَهُ الخريف ... حتى تُدرِكَ أنَّكَ كُنتَ في واحةٍ خضراءَ مِن ربيعِ الذَّاتِ المُقدّسة ... الذَّاتِ التي أوْدعَها اللهُ أوَّلَ بذورِ الخير .
تُدرِكُ لحظةَ العودَةِ أنْ لا فرقَ بينَ فصولِ الطَّبيعةِ وفصولِ النَّفسِ البشريَّة سِوى أنَّ أوراقَ الخريفِ في هذِهِ الأخيرَةِ ليسَتْ سِوى رموزٍ للتمرُّد ... لذلكَ فهيَ تسقُطُ إلى أعلى .
هيَ ذي حبيبتُهُ التي دخلتْ قلبَهُ ومكتبَهُ في آنٍ معاً .
طلبَتْ التمَرُّنَ في مكتبِهِ لمُزاولةِ مهنَةِ المُحاماة ، وذلكَ وفقاً لشروطِ نقابةِ المُحامين .
لم يكُنْ لديهِ خَيارٌ بالرَّفض ، فقراراتُهُ أضْحَتْ وليدةَ قلبِهِ ... وكيفَ لهذا القلبِ أنْ يرفُض!
وجهُها الدائرِيُّ يُوَشِّحُ القمحَ بلونِهِ ... عيناها ليلٌ يعومُ على بحرٍ من الثَّلجِ النَّقيّ ... تُحيطُ بِفَمِها الصَّغيرِ وَرْدَتا جورِيٍّ تَخالُهُما تفتَّحتا لِتَوِّهِما... تَغارُ منْ قوامِها المُتناسِقِ أغصانُ البَان .
لأوَّلِ مرَّةٍ يكتشِفُ أنَّهُ أخْطأَ حينَ قال : (( يُمكِنُ للرَجُلِ أنْ يجمَعَ أكثَرَ مِنْ امرأةٍ في حياتِه ، ولكِنْ لا يُمكِنُهُ أنْ يعشقَ إلاّ واحِدَة ))
وحينَ سُئِلَ : أما مِنْ استثناءٍ لهذِهِ القاعِدَة ؟
قال : (( إنَّها قاعدةٌ مُغلقَةٌ لا تَحْتملُ أيَّ استثناء )) .
الأخطلُ مُتزَوِّجٌ ويُحِبُّ زوجتَه ... يُحبُّها بِجنونٍ رُغمَ غَيْرَتِها التي لا زالتْ تُثخِِْنُ جراحَهُ وتُنَغِّصُ عيشَه .
لمْ يسألْها عنِ اسمِها أوْ رُبَّما قدَّمَتِ اسمَها وهيَ تمدُّ يدَها مُسلِّمةً ، لكنَّهُ لمْ يكُنُ يعنيهِ الاسم في شيء .
فَأيَّاً يكُنْ اسمُها فيكفي هذا الاسمَ شرفاً أنَّها صاحِبَتَه .
أمضَتْ يومَها الأوَّل في المكتب ... حديثُها ابتسامة ... ابتسامتُها صَمت ... نظراتُها براءَة ... تساؤلَُها إجابَة ... إنصاتُها وَداعَة ... جلوسُها وَقار ... مِشيتُها رَزانَة .
باحَ لها بالكثيرِ مِنْ خصوصيَّاتِهِ منذُ الجلسَةِ الأولى .
مرَّ الوقتُ بسرعة ، ودَّعَتْهُ على أملِ اللقاءِ في اليومِ التالي .
وما إنْ غادرَتْ حتّى أضحى الأخطلُ أخْطَليْن :
- الأخطلُ الزَّوج : ماذا دهاكَ يا عزيزي ، ماذا تريدُ منْها ؟!
- الأخطلُ العاشِق : لا شيء ... فليسَ للحُبِّ مَطالِب .
- ولكنَّكَ مُتزوِّجٌ ولديْكَ أولاد !
- لمْ أقُلْ إنّّي أسعى للزواجِ بها .
- ولكنَّ الحبُّ كالحَمْلِ يكشفُ نفسَهُ بِنفسِهِ !
- وما الضَيْرُ لو حَصل ؟!
- أنتَ مُحامٍ مشهور، وهذا يُضِرُّ بسمعتِكَ وبمكانتِكَ الاجتماعيَّة .
- ومتى كانَ الحبُّ عاراً ؟!
- تعقَّلْ يا أخطل واردعْ قلبَكَ اللّعينَ هذا .
- لكُلٍّ سلطانْ ، إلاّ القلبَ فلا سُلْطانَ عليهِ إلاّ طارقُ بابِهِ .
- إذاً ؟!
- لاخَيارَ لديّ فإنِّي مُبْحِرٌ لا مَحالَة .
- أراكَ وقدْ هِمتَ بها ولم تلمسْ منها حُبّاً !
- لا يهمّ .
- ولكنَّ ذلكَ سيوقِدُ نارَ عذاباتِك !
- وهلْ تُوجَدُ منطقةٌ وُسطى بينَ السَّادِيَّةِ والماسوشيَّة ؟!
- يبدو أنَّهُ لا فائِدةَ معَك !
- أنتَ اخرُجْ من رأسي وليَكُنِ الطُّوفان .

*****



المحامي منير العباس ( الأخطل الحمصي )