انحراف براءة .. !

***

بين عهد الصبا.. و ذاك الذي يشعر فيه المرء أنه قد بلغ فيه نضجه.. باب واحدة : هي باب الشجاعة !
أن تلمس سقف الرجولة برؤوس أصابعك.. ليس شيئا صعبا..
عليك فقط أن تستجمع في لحظة انتفاضة باطنية.. قوتك الكامنة التي هي في الأصل قابعة في كل شخص فينا.. و تستحضر و أنت في ثورة رقيك.. شيئا من الوصال مع غدك الذي ينتظرك.. حتى و أنت لا تعرف عنه شيئا.. و حتى و علم " الإحتمالات " .. لن يرتقي يوما.. ليصبح علما بالغيب.
أنت تدعوه للحضور.. و هو يستجيب لك مادمت في عز الإرادة..
هذه نواميس الكون.. يتكلم بها المنطق، و تتلفظ بها البداهة في كل شبر.
هكذا كان أيمن دائما يفكر.. أو هكذا أقنعوه و هو المراهق القادم إلى وجودٍ طالما وضعه بين قوسين ضيقتين و رمى به بين عرائش " الكرتـون " الوسخة، و بيوت القصدير المتدافعة المتداخل بعضها في بعض.. وسط أكوام القاذورات التي تراكمت حتى كان كثيرها كمستحاثات عتيقة نتنة.
حي " الأمل" المعزول عن المدينة.. لم يكن يحمل من اسمه غير حروفه الثلاثة.. و بينه و بين المعنى، مثل الذي بين الليل و النهار.. و هو مسخ من الأحياء التي لم ترتق لتصبح برتبة شارع، ولا تجمعا سكنيا يشبه قرية، فقد كان نسخة طبق الأصل للجحيم.. و نموذجا فريدا لمن يريد أن يدرس علم الإجتماع.. و عينة مثالية تعثر لك فيها عن كل مارق " مُهَلْوَس ".. و كل قاصر متزعم وكل امرأة مسترجلة .. و كل جمل مستنوق.. و هلم جرا و جرجرة.. مما تظن و مما لا يخطر ببالك.. أن تظنه.
كل يوم صباحا يذهب أيمن و فارس إلى قمة " المزبلة العظيمة " المجاورة لحيهم.. حيث الغربان و الكلاب و القطط و " دجاج الماء " الأبيض التائه الباحث عن رزقه وسط الوسخ.
.. و من على الذروة يستمتعان بمشاهدة المطار الذي يظهر من بعيد.. فتبدو منه الطائرات المختلفة الأحجام ..كأنها عصافير .
كان المطار دائما حلم الأطفال الذين لا يفتأون يتخيلون أنفسهم و هم جالسون مكان قائد الطائرة الذي يضع سماعات عريضة تأخذ ثلاثة أرباع حجم رأسه و يتحدث إلى مركز القيادة عن بعد.. فيبدو لمن يروه و هو يبتسم..كأنه يتحدث مع نفسه.
حلم تراه العين المجردة.. لكن عين القلب كانت دائما تغض الطرف عنه في استحياء و كبت.. و يقين دائم أنه ضرب .... من المستحيل..!
كل شيء كان نسبيا.. و كل شيء كان يسير في فلك المجهول ..
وحده الشقـاء ..كان يقينا مطلقًـا..!!
و هكذا هي الحياة في حي " الأمل ".. تشرق فيها الشمس على أطفال يحلمون و هم حفاة الأرجل ممزقو الثياب، على " المزبلة العظيمة " التي ليس لهم غيرها.. و تغرب فيها على أطفال يحملون أحلامهم تلك، من نتن " المزبلة العظيمة " إلى بيوتهم " القصديرية " التي تقاسمهم فيها الفئران و الصراصير موائدَ العشاء الزهيد.. ليكملوا ما تبقى من فرح الحلم المشقوق، على أَسِرَّة القـش البالية.. و "بَطّانِيَّات" الصوف الموروثة من عهد الثورة.. بعد أن تشبع خدودهم - حتى من غير سبب - .. أكفَّ الوالد السكران.. و تحمرَّ مؤخراتهم من عصا الوالدة .. التي ليس بينها و بين الجنون.. إلا قيد أنملة.

***
بثغر باسم متفتح و شغف رؤية ملفت، يصرخ فارس و هو يشير بإصبعه الصغيرة دارئا سطوع الشمس في عينيه السوداوين بيده الأخرى : - أيمن.. أيمن ؟ أنظر.. أنظر.. طائرة ستقلع الأن...!!
و هناك.. أنظر هناك.. طائرة أخرى قد أقلعت..!
شغف رؤية متجدد .. يعيد نفسه مع كل صورة تلتقطها العين البريئة.. لتطاردها بلهف حتى تأخذ شكل النقطة.. قبل أن تختفي في الأفق.
و من غير كلمات.. يهز أيمن رأسه في إشارة منه إلى أنه يراها..
ثم يبتسم ابتسامة غامضة.. لا يفهم فارس منها سوى أن أيمن أكبر منه طموحا.. و أن حلم صديقه بركوب الطائرة يوما.. ساذج حد البله.
كان فارس يمارس الطفولة بعفوية ساذجة و براءة خام لم تختلط معها بعدُ عبراتُ الكبر.. و كانت الشلة الطائشة كثيرا ما تنقسم إلى نصفين، أحد هذين النصفين ليست له من مهمة غير مضايقة الفتيات العائدات منهكاتٍ من أقرب مدرسة .. تبعد مسافة عشرة كيلومترات عن بيوتهن.. مشيًا على الأقدام.. و هن يحلمن برغيف خبز ساخن مغموس في صحن زيت زيتون.. و يتهيأن في الوقت ذاته إلى أعمال منزلية.. أقلها سوءً .. غسل صحون الأولاد الأشقياء..!
لكن أيمن لم يكن طفلا..!
أيمن لا يحلم بركوب الطائرة .. و لا يهمه أن يكون مكان قائدها.. و لا تستهويه السماعات العريضة التي تأخذ من حجم الرأس ثلاثة أرباعه..!
أيمن كان يحلم بشيء آخر.. و كانت في رأسه المراهق مشاريع الرجولة القادمة.. التي بابها .. باب الشجاعة..!
لكنه ما فتئ يعتبر نفسه أيضا فيلسوفا .. يحب أن يرى الأشياء من الزوايا التي ... تخفى عن الآخرين..! و يمتثل العبقرية في استثمار أفكار الآخرين، من حيث هم لم يفكروا في ذلك..!
لذلك.. فهو لم يعد يقضي في " المزبلة العظيمة " وقتا طويلا.. ولم يعد يطارد القطط و الكلاب ليضايقها مثلما كان يفعل دائما.. و لم يعد يذهب إلى الضفة الأخرى لحي الأمل.. التي تطل على سكة الحديد.. ليستمتع مع الصبية الآخرين برشق الحجارة على كل قطار عابر و هم في أوج السعادة بممارسة القرصنة الطفولية البريئة.
و لم يعد يهمه أن يضايق " مروة " صباح كل جمعة عندما تكون عائدة من عين الماء، حاملة على كتفها قارورة مملوءة.
لم يعد يجتمع مع شلة الأصدقاء إلا نادرا.. و منذ أن نزل ابن عمه " مروان " ضيفا عليهم..بات أيمن منشغلا طول الوقت بأشيائه التي كلما وصل إليها فارس يريد أن يشبع فضوله فيها.. اكتفى بالسكوت و الصمت.. و بقي يسأل في شبه ذهول : - أيمن .. ما معنى " بطـارية " ؟

***
كانت مساءات حي " الأمل " كشواهد النحل.. تتساءل في كل مرة من أين يخرج هذا العدد الهائل من الأطفال و أية مساحة هذه التي تحويهم..؟! و أين يختبئون من شروق الشمس إلى غروبها.. ؟
أنت تنظر للواقع فيه بدهشة.. لكنك تكتفي في الأخير بإقناع نفسك.. أن بعض الحالات.. يكون فيها حب المعرفة ... وجعا للرأس.. فتؤثر الجهل.. كحل أولي.. و تقتنع آنيا أن عدم محاولة تفسير بعض الظواهر.. أفضل لراحة النفس.

***
- هل تريد أن أسبّ لك أمك و أنعتك بـ " ابن الحرام " ؟
بصوت وجل و ابتسامة صفراء يرد فارس و هو ينظر في وجه أيمن، و خلفه مروان صامتا بحقد :
- لا .. و لكن هل يزعجك أن أحضر معكم ؟ أنا أيضا تعبت من المزبلة.. أرجوك أريد أن ألعب بالبطارية.. أرجوك.
- ليس اليوم .. إذهب الآن .. و غدا سأتركك تحضر معنا .. هيا اذهب الآن ..
- دعني أراها فقط.. أرجوك يا أيمن.. و أعدك أن أذهب بعدها.
- هيا ألق نظرة سريعة و غادر فورا.
أخذ فارس البطارية الصغيرة المصفحة بين يديه و لامسها بهدوء خائف، ثم قال بصوت مبحوح :
- هذه البطارية، هل هي ......
و قبل أن يكمل فارس كلامه، كانت يد أيمن قد نزلت عليه بصفعة مباغتة، تلاها سرب من الشتائم اللاذعة..لم يذكر منها فارس غير أنه .... " ابـن حـرام " ..
ركض فارس بعيدا و يده في خدّه الصغيرة، لكنه كان سعيدا بكون اليوم آخرَ أيام المزبلة، و غدا يوم جديد، يكون اللعب فيه بالبطارية.
و على شجرة زيتون.. سأل فارس نفسه :
- ما هي البطارية يا ترى ؟ و لماذا يصر مروان على أن يظل كل شيء بينه و بين أيمن؟ أفي هذه اللعبة المجهولة، كل هذا القدر من المتعة، حتى يصبح أيمن أنانيا فجأة إلى هذا الحد ؟ ثم .. لماذا يصر أيمن على أن أبقى بعيدا عنه، و يغضب بمجرد أن أقترب منه .. ؟ و مروان هذا المتعجرف الغامض .. ما باله هكذا يتمتم من غير أن يفهمه أحد ؟ و إذا كان هو من جاء بـ " البطارية " فلماذا تظل البطارية عند أيمن طوال الوقت..؟

***
في المنازل العتيقة ببؤسها في حي "الأمل".. كانت الدنيا غير التي يحياها الأطفال خارج الحي أو عند المزبلة.. فكلهم يخضع لقانون " العصـا "..
في تلك الأمسية.. تجمع الأطفال كلهم بمن فيهم مروان بعيدا عنهم بأمتار قليلة أمام بيت أيمن، ليسمعوا صوت صديقهم " الزعيم " و هو يصرخ تحت رحمة العصا عقابا له على غيابه طول اليوم عن البيت دون أن يشارك في جلب الماء من العين.
كان أيمن يصرخ بشدة عند كل نزلة للعصا على مؤخرته.
و في البيت.. الجميع في قالب واحد.
وحدها " المزبلة العظيمة " و التلال المطلة على سكة الحديد.. تصنع قانون الشلة و تصمم هرم السلطات و توزع المهام على الأطفال بصورة آلية.

***
متكئا على جذع شجرة الصنوبر المقابلة للحي .. همس أيمن لفارس بصوت تعب و هو يحك بيده اليمنى أماكن الوجع التي كانت العصا قد تركتها على جسده :
- حسنا .. بما أنك تلح على البطارية .. سأعيرك إياها اليوم، و لكن إن عدت من دونها غدا صباحا.. أقسم بالله العظيم.. سأجعلك تندم يا فارس.. و سأفعل بك ما فعلته بي أمي بالأمس.
بابتسامة عريضة ملؤها الشغف الذي لا يقاوم.. قال فارس و هو يمسك البطارية عن أيمن:
- لا تقلق .. أعدك أن تكون عندك غدا صباحا.
- إن حرصت على أن لا يراها أحد.. و كنت عند حسن ظني.. سأزيدك على البطارية مفاجأة أخرى.
ابتسم فارس و في أذنيه الصغيرتين رنين أجراس من كلمة " مفاجأة ".. و اختفى فجأة بين الأشجار.
و مع أول خصلة شمس ترتفع عن سطح " المزبلة العظيمة " في اليوم الموالي.. انطلق فارس يشق الأثير المخنوق بالروائح الكريهة و دخان النار المنتشرة على طول المزبلة، راكضا نحو أيمن.
كان منسجرا بالفرح .. يزيده جهله بالبطارية فرحا.. و يقوده حدس غامض أن البطارية عهد جديد في الطفولة التعيسة، و موسم طويل يختلف عن مواسم البؤس السوداء.

***
- كيف وجدت البطارية ؟
- رائعة يا أيمن رائعة .. مع أنني لم أفهم فيها شيئا ؟ متى نبدأ اللعب ؟
- قريبا جدا..
- كيف سنلعب بها ؟
- سنريك أنا و مروان كيف تلعب بالبطارية.. ليست شيئا صعبا على كل حال، عليك فقط أن لا تكون خائفا..
- خائفا ؟
- نعم.. إن كنت خائفا.. لن تستطيع اللعب بها و لن تستطيع أيضا أن تشعر بمتعتها.
- حسنا.. لن أكون خائفا.. أنا رجل الآن.
- تعال معنا إذن .. سنذهب إلى المزبلة.
لم يكن فارس لحظتها غير ذلك الصبي اليافع المأخوذ بمعنى الرجولة الغامض.. المندفع خلف صديقه بجنون الذات العاشقة.. المسلوب من نفسه المقهورة إلى متعة " شـيء " قد ابتدأ يفعل فيه فعله و هو بالكاد يفهم معناه..
المتعة .. هي مسوغ الصداقة الوحيد.. الذي يبني معنى الحقيقة بين الطفولة و الوجود..
و مع احتجاب الشمس و تفرش الظلال منسحبةً عن أجسامها.. مغادرةً حي الأمل البائس.. كان الثلاثة واقفون يرسم الشفق شكل أجسامهم عند " المزبلة العظيمة ".. يتفرجون من جديد على مشهد طائرات يقلع بعضها.. و يسجل بعضها الآخر هبوطا.. في مطار اقتنع فارس أخيرا أن بقاءه بين ناظريه ليس إلا زيادة في الشقاء، و أنه في الحقيقة جزء لا يتجزأ من البؤس الذي ينخر عميقا في حياة الأطفال الفقراء.. و هم يحاولون عبثا لمس حلم زئبقي لن يتحقق.. و أن التعاسة تختصر معناها الكامل عندما تقنعك الظروف رغم أنفك.. أنك بجوار " رجـاء " يتمنَّعُ عنك.. لأنك ببساطة ... من طينة " الأشقياء ".. و معدن " من وُلد حظهم ولادةً قيصرية "..!!
التزم فارس الصمت عندها .. كما كان أيمن دائما يفعل..
و مع الشروق الجديد .. كان كل سكان حي " الأمل ".. عند " المزبلة العظيمة ".. يَرْهَقُ وجوهَهُم قَتَرٌ من فزع أيقظه دوي مرعب.. و عيون مُشرَّعةُ المُقَل.. تغشاها حيرة ممزوجة بدهشة لا تقاوم.. و هم يتفرجون على ألسنة نار متصاعدة، جعلت من المطار خربة محروقة..
و على بعد أمتار قليلة..كان أيمن يقف في الخلف مع مروان.. و قد ترسمت على وجهيهما ابتسامة تحدٍ.. تومـئ إلى أن باب الشجاعة قد انفتح من وجهه الآخر.. و أن الرجولة قد أعلنت ميلادها بشكل متفرد.. بوفاة صبي هناك..
صبي تنكرت له الآمال و أبى الحلم أن يطاوعه.. فمضى إليه مستمتعا.. تجره تهاويل خيال لا ينتهي.. و في خصره حزام مشدود بـ " بطارية ".


***

زهير يونس
*
*
**************
ردي بداية:

نعم ان تكون رمزا للشجاعة وبعمل بطولي لايقدر عليه احد افضل مليون مرة من ان تمضي عمرك بانتظار فرصة قد تاتي وقد تتبخر وانت قادم لها......
نص من ذهب حارق حتى اعمق الاعماق...
واعجبتني تلك الجملة على بساطتها:
اقتباس:
أنت تنظر للواقع فيه بدهشة.. لكنك تكتفي في الأخير بإقناع نفسك.. أن بعض الحالات.. يكون فيها حب المعرفة ... وجعا للرأس.. فتؤثر الجهل.. كحل أولي.. و تقتنع آنيا أن عدم محاولة تفسير بعض الظواهر.. أفضل لراحة النفس.
هكذا يعيش كثير من البشر.. والجهل نسبي....
ولكن هل كل شجاع يكون منبع تواجده من هناك؟ تساؤل مشروع ان كان هناك رمز في القصة.
مع تحيتي وتقديري /اسمح لي بدراسة نقدية او رؤية لها
***********
العنوان أوضح فحوى النص ورغم هذا لم يطفئ بريق الرغبة في اكتشاف ثناياه ومضمونه ...
انحراف البراءة هو ابسط مايقال عن تلك البيئة الغارقة في الوحل المادي البائس في انعدام ابسط معطيات الحضارة...في طموح لايملك من ادوات سوى الارادة فقط فهل ينجح؟
تلك النظرة التفاؤلية التي زرعها النص رغم النهاية البائسة تجعل من هؤلاء مبعثا لرؤية اجتماعية وقراءة جديدة تفتح الباب لدراسة طوايا نفوس شبعت من القهر وربما كان لديها ما لم يكن لدى هؤلاء الذي يملكون تقريبا كل شيئ...
هذا نص فريد من نوعه فرغم طوله النسبي إلا انك لاتمل من قراءته و
انت ترى امثال هؤلاء في مستنقع الجحيم يحيون وليسوا باحياء..يتسلقون جدر الوهم كي يجدون مايلتقمونه وليته يكفي...
هؤلاء يملكون حقد الارض لكنهم في ذات الوقت يملكون طموحا للوصول لسطح الحياة فان يكونوا او لايكونوا تلك هي المشكلة في مجتمع لايرحم ولايدع احدا يذوق طعم الراحة دون ثمن...
قد اجاد الاديب نثر فكرته بحصافة حيث جسد تلك البيئة بتفاصيلها الدقيقة حتى الحواريه تتمثل في عدة مقاطع منها:
****
لكن أيمن لم يكن طفلا..!
أيمن لا يحلم بركوب الطائرة .. و لا يهمه أن يكون مكان قائدها.. و لا تستهويه السماعات العريضة التي تأخذ من حجم الرأس ثلاثة أرباعه..!
أيمن كان يحلم بشيء آخر.. و كانت في رأسه المراهق مشاريع الرجولة القادمة.. التي بابها .. باب الشجاعة..!
لكنه ما فتئ يعتبر نفسه أيضا فيلسوفا .. يحب أن يرى الأشياء من الزوايا التي ... تخفى عن الآخرين..! و يمتثل العبقرية في استثمار أفكار الآخرين، من حيث هم لم يفكروا في ذلك..!
**********
- كيف وجدت البطارية ؟
- رائعة يا أيمن رائعة .. مع أنني لم أفهم فيها شيئا ؟ متى نبدأ اللعب ؟
- قريبا جدا..
- كيف سنلعب بها ؟
- سنريك أنا و مروان كيف تلعب بالبطارية.. ليست شيئا صعبا على كل حال، عليك فقط أن لا تكون خائفا..
- خائفا ؟
- نعم.. إن كنت خائفا.. لن تستطيع اللعب بها و لن تستطيع أيضا أن تشعر بمتعتها.
- حسنا.. لن أكون خائفا.. أنا رجل الآن.
- تعال معنا إذن .. سنذهب إلى المزبلة.
***************
و على بعد أمتار قليلة..كان أيمن يقف في الخلف مع مروان.. و قد ترسمت على وجهيهما ابتسامة تحدٍ.. تومـئ إلى أن باب الشجاعة قد انفتح من وجهه الآخر.. و أن الرجولة قد أعلنت ميلادها بشكل متفرد.. بوفاة صبي هناك..
صبي تنكرت له الآمال و أبى الحلم أن يطاوعه.. فمضى إليه مستمتعا.. تجره تهاويل خيال لا ينتهي.. و في خصره حزام مشدود بـ " بطارية ".
*********
تلك الايماءات القوية توحي لنا ان هناك من ينبض قلبه بإمان عميق أنه موجود رغم كل ماحوله رغم أنف كل من تسلق السطح على اكتاف من ماتوا جوعا....
***********
لغة القصة كانت بسيطة سلسة قريبة من المتلقي جداجدا وهي تروي تعاريج نفوس هؤلاء الذي يخرجون من القعر الى سلم الحياة بعصامية فريدة.
بقهر عميق المعالم (كان أيمن يصرخ بشدة عند كل نزلة للعصا على مؤخرته. )
هؤلاء وهؤلاء فقط هم الأحياء...
***********
يتفرد النص بكونه طرح قضية قل من كتب عنها بحرارة وقرب من نفوس القراء بحذق...فهي قضية هامة لا يكتب عنها الا من احس بها واستطاع نقلها باخلاص وحساسية عالية تظهر مدى اتقان الكاتب ليس لفنية القصة بقدر مهارة توصيل مانوى إيصاله للقارئ والجمهور...
هو بشر مثله مثل كل الناس إلا ان الحرمان هو من شق الرغبة كي يظهر رجولة مبكرة وتفكير عال رغم كل الادوات البسيطة التي لديه...امثال هؤلاء هم من يصنعون المجد الذي قد يتبلور وقد تقتله أيدي هؤلاء الجهلة.. من جديد...
**********
قصة حقيقة من القصص القلائل التي جمعت بين عناصر القصة الكاملة والقضية الساخنة والإيماءات الناجحة واللغة الصافية والهدف الواضح الجلي....
كان يمكن للنص ان يكون أكثر اقتضابا واختزالا لان الفكرة وصلت منذ البداية ...وما سرده الكاتب هو صورة لهذا العالم وماكان عليه امر الفتى.
ويبقى السؤال كيف ولماذا واين توفي الفتى؟
وهل فعلا هناك قراءة لمابين السطور في هذا النص عامة ؟ وايماءات لامور اعمق بكثير؟
نترقب من كاتبنا العزيز المزيد من الاعمال الناضجة كتلك
أرجو على تواضع رؤيتي أن اكون قد وفيت النص حقه
الإثنين 20-7-2009