البعد الديني لمسألة جنوب السودان
مع إشارة الى الفترة بين 1989 ـ 2005
واضع المقالة: عبده مختار موسى ـ أستاذ مشارك في العلوم السياسية بجامعة أم درمان الإسلامية
تقديم: كل يوم تخرج علينا في بلداننا العربية مشكلة يعرضها محركوها وكأنها ذات منشأ ديني أو عرقي، وكأن بلداننا هي الوحيدة في العالم التي تنفرد بوجود خليط من الأجناس والطوائف والديانات، ويحاول محركو تلك المشاكل أن يركزوا عليها باعتبارها مشاكل محورية، لينفذوا من خلالها الى تأزيم الأوضاع في كل بلد عربي من أقصى مغربه الى أقصى مشرقه.
وفي هذه المقالة التي هي أشبه بالدراسة يضع الدكتور عبده موسى مختار المثقف العربي أمام شرح مبسط لتلك الظاهرة في السودان، وددنا تقديمها كما نشرها في المجلة العربية للعلوم السياسية في عددها الأخير.
المقالة:
لم يكن الدين في يوم من الأيام مشكلة في العلاقات بين الجماعات السودانية المختلفة. ففي الواقع السوداني تسود روح التسامح، ولم يشكل الدين عقبة في طريق التعايش السلمي إلا بعد أن تدخلت السياسة. لذلك ينطلق هذا البحث من فرضية أن عملية تسييس الدين هي المسئولة عن تفاقم التوترات بين الشمال والجنوب، وأن النخبة هي المسئولة في ـ التحليل النهائي ـ عن ذلك.
يركز المقال بصفة خاصة على فترة الحرب بين حكومة الإنقاذ الوطني (التي جاءت بانقلاب عسكري في حزيران/يونيو 1989) وحركة التمرد (الجيش الشعبي لتحرير السودان)، وذلك حتى توقيع اتفاقية السلام في كانون الثاني/ يناير 2005.
يعني تناول البعد الديني لمشكلة جنوب السودان ضمناً الوجود المسيحي في السودان، لأن المسيحية هي الأكثر انتشاراً بين قبائل تلك المنطقة من إفريقيا بعد أن كانت تلك القبائل وثنية. صحيح أن الإسلام بدأ ينتشر لاحقاً في الجنوب، غير أن انتشاره ظل محدوداً لأسباب عدة، كان أهمها الاستعمار البريطاني.
أولاً: الوجود المسيحي في السودان:
(1)
بدأ اهتمام الإرساليات المسيحية بجنوب السودان في فترة الحكم التركي ـ المصري للسودان، حيث كان التبشير المسيحي يتطلع الى نشر المسيحية، ليس في السودان فحسب، بل من خلاله الى مختلف أجزاء القارة الإفريقية. لقد كان في نظرهم أن السودان مهم في هذه العملية بسبب موقعه في الطرق الى غرب وجنوب وشرق إفريقيا. كانت الجمعيات التبشيرية ترى في السودان بوابة للدخول الى مملكة إثيوبيا المسيحية، حيث كانت تخطط للسيطرة على الكنيسة القبطية هناك.
أما بالنسبة للحكم الثنائي البريطاني ـ المصري، فقد كان واضحاً منذ البداية دعم الإدارة البريطانية لنشر الدين المسيحي، حيث رحبت بالبعثات التبشيرية المسيحية والإرساليات وشجعت عملها في الجنوب. غير أن الإدارة البريطانية حاولت أن تخفي هذا الدور بالزعم أن الجمعيات التبشيرية في بريطانيا هي التي تقدمت بطلب الى السلطات البريطانية للسماح لها بالعمل في كل أنحاء السودان ـ الشمال والجنوب، بل أن الباحثين الغربيين، وكذلك النخبة الجنوبية يقولون إن الوجود المسيحي في السودان الشمالي كان سابقاً له في الجنوب، حيث دخلت المسيحية في القرن السادس الميلادي.
وعندما ظهرت بعض الأصوات داخل الإدارة البريطانية تنادي بإبعاد المسيحية من جنوب السودان، رد عليهم البعض بأن المسيحية في الجنوب هي الأصل. وأن الإسلام غير ملائم لتطور ورفاهية الشعب، وأن المسيحية هي الأهل لذلك، وأنها قادرة على تأسيس المدارس ونشر التعليم. من خلال المدخل الديني عمل البريطانيون على غرس فكرة أنه دون المسيحية لا يمكن تحقيق التقدم.
(2)
كانت الاستجابة فورية من الحكومة البريطانية لنداء البعثات المسيحية. ففي شباط/فبراير 1899 أجاز البرلمان البريطاني قراراً يلزم إنجلترا المسيحية بواجب (نشر المسيحية في السودان ودعم النشاط التبشيري). وأرسلت الحكومة البريطانية مذكرة توبيخ الى الإدارة البريطانية في السودان بأنها تعمل ضد الحريات الدينية السائدة في بلدٍ تحكمه المبادئ المسيحية.
شكل هذا الموقف البريطاني الرسمي تشجيعاً كبيراً ودعماً للبعثات التبشيرية لتعمل بحرية وبنشاط كثيف لنشر المسيحية في الجنوب، بل تعزز هذا المناخ الداعم للحملات التبشيرية بموقف مشترك بين الجمعيات التبشيرية والحكومة البريطانية، حيث (اتفق الجانبان على ضرورة إبعاد النفوذ الإسلامي من جنوب السودان بأسرع ما يمكن)*1
تنفيذاً لذلك، تم تقسيم جنوب السودان الى مناطق عمل للحملات التبشيرية بين البعثات المسيحية الكاثوليكية المختلفة، البريطانية والإيطالية والنمساوية وغيرها. وتنافست فيما بينها لتقديم الخدمات ونشر التعليم لتحظى بأكبر عدد من الجنوبيين في مظلتها. كما تمتعت بامتيازات كثيرة منها تخفيض 50% من قيمة تذاكر الركاب للعاملين في الجمعيات التبشيرية، وكذلك 20% من قيمة ترحيل أغراضهم وأمتعتهم على السكك الحديدية والبواخر النيلية.
غير أن الأخطر في هذا المشروع البريطاني لزراعة المسيحية في الجنوب وإبعاد الإسلام هو حملات التشويه التي انطلقت من مقولات خاطئة تدعي أن الإسلام خطر حيث يستند (أي الإسلام) الى معرفة عميقة بالمجتمع السوداني وينتشر ببطء، لكن بقوة، ممهداً الطريق لحملات دموية محمدية، ليكتسح كل القارة الإفريقية مهدداً أية مواقع مسيحية، وأن خطر الإسلام بالانتشار يكمن في أنه دين يتسم بالانحلال الخلقي (Loose Morality)، وتعدد الزوجات (Polygamy)، وسهولة وبساطة الطلاق، وفوق ذلك إباحته للنهب، وبالتالي يجد طريقه الى مشاعر السود، كما هو الحال في إغرائه لكل الشعوب غير المتحضرة.
هذا بلا شك منتهى الاستخفاف بالإسلام، وسوء فهم متعمد وتشويه مقصود. وبإمكانياتهم الكبيرة استطاع البريطانيون، ليس نشر المسيحية فحسب، بل وتأليب الجنوبيين ضد الإسلام وضد الشماليين المسلمين، وهكذا تحول الجنوب الى ساحة حرب ضد العرب والإسلام والسودانيين الشماليين.
(3)
لذلك كان من الطبيعي أن يكون رد الفعل عنيفاً على هذا التشويه والتعسف ضد المسلمين، خاصة في ظل الحكومات الوطنية. ففي عام 1961 منعت حكومة (إبراهيم عبود) منعت الصلوات المسيحية خارج مباني الكنائس. وفي 27 شباط/ فبراير 1962، أعلنت وزارة الداخلية طرد كل البعثات التبشيرية من جنوب السودان، وكان عددها آنذاك 617 بعثة وإرسالية مسيحية تعمل في السودان. وكان الأغلب منها كاثوليكية. وقد برر وزير الداخلية الإجراء بأن عمل تلك البعثات يهدد وحدة السودان واستقراره
ألقت هذه الإجراءات بظلالها على العلاقات الشمالية ـ الجنوبية. وقد وصل الأمر الى قمته بإعلان جبهة الميثاق الإسلامي تطبيق الدستور الإسلامي، مما زاد من مخاوف الجنوبيين بأن الشماليين يسعون الى أسلمة الجنوب. كما تعززت هذه الكراهية بعد أحداث أخرى عدة، مثل أحداث (جوبا) في 8 تموز/يوليو 1965، و (واو) في 11 آب/أغسطس 1965، عندما فقد عددٌ من الجنوب أرواحهم نتيجة عمليات قام بها الجيش والشرطة ضد المتمردين والمتعاطفين معهم.
وعلى الرغم من عدم توفر أية تفاصيل دقيقة عما حدث، إلا أن من المؤكد أنها تركت الكثير من مشاعر المرارة في وجدان الشعب الجنوبي. فكان رد الفعل أن زاد متمردو (الأنانيا) من غاراتهم على الشماليين أينما وجدوا في الجنوب، بينما توحدت الأحزاب الجنوبية في المنفى ـ بعد بطش حكومة عبود بها ـ خاصة الجبهة الإفريقية لتحرير السودان (SALF)، وحزب الاتحاد الوطني السوداني الإفريقي (سانو SANU) اللذين توحدا خارج السودان، وشكلا جبهة تحرير (أزانيا) بهدف تأسيس دولة إفريقية حرة ومستقلة في جنوب السودان.
(4)
منذ أن جاءت حكومة (جعفر النميري) بأطروحتها الشيوعية (أيار/مايو 1969)، سعت الى دمج الشمال والجنوب في مشروعها الداعي للإشتراكية، على الرغم من أنها اعترفت بوجود فوارق تاريخية بين الجنوب والشمال، وأنها هدفت الى تحقيق وحدة انطلاقاً من هذه الحقائق الموضوعية (إن من حق شعبنا في الجنوب أن يبني ويطور ثقافته وتقاليده في نطاق سودان اشتراكي موحد)*2
انطلاقاً من هذا التوجه، أوكلت حكومة 11/أيار ـ مايو وزارة شؤون الجنوب الى القطب الشيوعي الجنوبي (جوزيف غارنغ)، الذي قام بإنشاء عدة مراكز في مدن الجنوب لتدريس الشباب في عددٍ من الدول الشيوعية، لإعداد مؤهلين ينفذون الحل الاشتراكي المرتقب في الجنوب. وقد علق واحدٌ من النخب الجنوبية، وهو (بونا ملوال)، على تلك السياسات بأنها (تنطلق من افتراض أن الجنوب لم يتشكل بعد، وليس فيه ما يمنع من الانتقال من عصر ما قبل الرأسمالية الى الشيوعية).
غير أن تلك السياسات لم تحقق أي تغيير كبير في الجنوب، وبقي الدين المسيحي يشكل عنصراً مهما في الأيديولوجيا الجنوبية، كما اتضح ذلك لاحقاً في أطروحات الحركة الشعبية لتحرير السودان (SPLA) في تعاملها مع نظام الإنقاذ الإسلامي.
في عام 1984 أقيمت صلاة في كنيسة (كتور) في (جوبا) اشتركت فيها كل الفئات الكنسية هناك تحت ستار (السلام والغذاء)، بينما كان مغزى الصلاة سياسياً، إذ صاحبها وضع ملصقات وشعارات تنادي برفض الإسلام والتعريب في الجنوب. وهو التوجه ذاته الذي تبنته الحركة الشعبية في مفاوضاتها مع الحكومة، خاصة في ما عرف بإعلان المبادئ (DOP)، الذي تضمن علاقة الدين بالدولة، حيث دعت الحركة الشعبية الى قيام نظام علماني في السودان، وهي النقطة التي كانت الأكثر جدلية في المفاوضات بين الطرفين طيلة التسعينات من القرن العشرين، وحتى (مشاكوس ونيفاشا ـ كينيا) بين عامي 2002 و 2005، حينما قدمت الحكومة الكثير من التنازلات، وتم توقيع السلام بين الطرفين.
كان العامل الديني في علاقة الشمال بالجنوب في فترة حكم الإنقاذ ـ التي أعلنت تطبيق الشريعة عام 1991 ـ أكثر وضوحاً من فترة حكم النميري، حيث أعلنت الإنقاذ الجهاد ضد المتمردين الجنوبيين، فدخلت العلاقات الشمالية ـ الجنوبية مرحلة جديدة من الأزمة والتعقيد والتدويل.
يتبع
هوامش من تهميش الكاتب
*1ـ Lilian Passmore Sanderson and Nivelle Sanderson, Education, Religion, andPolitics in Southern Sudan, 1899-1964 (London: Ithaca Press,1981 in: Beshir, Ibid, p.17
*2ـ Sanderson and Sanderson, Ibid