بكاء الفلسفة
هكذا وجدت "عنوانا"سطرته قبل أشهر .. فما الذي يبكيها!!
على كل حال .. لعل الأمر كان يتعلق باهتمام مبالغ فيه بالفلسفة لدى البعض .. وهي "متاهة" لا تؤدي إلا إلى"متاهة"أخرى!! لأن الوصول إلى "حقيقة"يحتاج إلى أرض صلبة .. هي"النص" .. ..
كتب المفكر علي عزت بيجوفيتش ..
(وصف أرسطو مهمة الفلسفة "ما تمّ البحث عنه منذ أمد بعيد،وما سيستمر البحث عنه وسيبقى خلافا" . أي ما هو الكائن وبالأحرى ما هو الكون ؟ بلور أرسطو السؤال في كتاب الميتافيزيقيا،والذي يعتبره البعض حجر الأساس لمجمل الفلسفة. ويعتقد"هايدجر"أن ما توصل إليه "أفلاطون"و"أرسطو"تم تبنيه في كل أنواع محاولات الفلسفة بعمومها. والبعض يسمي ميتافيزيقيا أرسطو"أم الكتب"ويعتب حجر الأساس لكل التاريخ الأوربي الغربي"توماس لادن"){ ص 261 "هروبي إلى الحرية"}
إذا .. قرر الفيلسوف الألماني "هايدجر"- 1889 – 1976 أن كل أنواع "الفلسفة" بُنيت على ذلك الصرح الذي بناه "أفلاطون" - 427 ق.م / 347 ق.م – و "أرسطو" : 384 ق.م – 322 ق.م .. "أرسطو"الذي وصف الفلسفة بأنها "ما تمّ البحث عنه منذ أمد بعيد،وما سيستمر البحث عنه وسيبقى خلافا"!!
وهذا ينقلنا إلى مقولة أحمد السرهندي – 1526 / 1624م – أعني قوله :
(ولو كان العقل كافيا وحده،لما بعث الله الأنبياء) : أحمد السرهندي
أكرر دائما ملاحظتي على بعض "الداروينيين" – خصوصا عبر وسائل التواصل – أو بعض من "يدعون الإلحاد" أننا لا نجد لديهم"حرقة الشك" ...!!
مما يشي أن الأمر كله يدور في فلك"القلق" من تضييق"الدين"على انفلات"الشهوات" .
وهنا نذهب إلى مفكرنا "بيجوفيتش" – رحم الله والديّ ورحمه – في تحليله"العميق" لـ"سارتر"و"كامو"وجعله "العدمية" تبكي ضياعها عن"الله" .. أو "تحتج" على عدم وجوده حسب تعبيره .. يقول :
(لنعد إلى النقاط المشتركة بين العدمية والدين،وهي حقيقة تُبرز العدمية الحديثة كشكل من أشكال الدين في الحضارة.
إن العدمية ليست إنكارا للألوهية ولكنها احتجاج على غيابها،وكما هي عند"بِكِت"احتجاج على غياب الإنسان،أو احتجاج على حقيقة أن الإنسان غير ممكن أو غير متحقق.وهذا الموقف ينطوي على فكرة دينية لا فكرة علمية عن الإنسان وعن العالم. فالإنسان كما يتصوره العلم ممكن ومتحقق،ولكننا نجد التحليل النهائي أن كل ما تحقق هو شيء غير إنساني. إن عبارة "سارتر"الشهيرة التي يصف فيها الإنسان بأنه عاطفة تافهة لا جدوى منها،هي عبارة دينية بمنطقها وبروحها معا. في المادية لا توجد عاطفة أو تفاهة،فلا يمكن أن يكون في العلم تفاهة لأنه لا توجد فيه عاطفة.
لأن المادية ترفض الغائية في العالم"أي أن للعالم غاية عليا"،فإنها تتخلص بذلك من مخاطر العبثية والتفاهة. عالم المادية وإنسانها هما غايات عملية ولهما وظيفة .. لتكن وظيفة حيوانية .. لا يهم. إن عبارة"الإنسان عاطفة لا جدوى منها أو عاطفة تافهة"تتضمن فكرة أن الإنسان والعالم،ليس بينهما تناغم أو تطابق،(..) إن التفاهة عند"سارتر"والعدمية عند"كامو"تفترض البحث عن هدف ومعنى.. وهو بحث يختلف عن البحث الديني في أنه ينتهي عندهما بالفشل . ولكنه يُعتبر بحثا دينيا من حيث إنه يعني رفض الهدف الدنيوي للحياة الإنسانية،أو رفض الوظيفة الدنيوية.
البحث عن الله"سبحانه وتعالى"بحث ديني،ولكن ليس كل بحث ينتهي بالاكتشاف.فالعدمية خيبة أمل ليس بسبب العالم والنظام،وإنما بسبب غياب الخير من العالم. فكل شيء تافه وعدم إذا كان الإنسان يموت إلى الأبد . إن الفلسفة العدمية لا تتحدث مباشرة عن الدين ،ولكنها تعبر بوضوح عن الاعتقاد بأن الإنسان والعالم ليسا مصنوعين بالمعيار نفسه. إنها تعبر عن القلق،والقلق بجميع درجاته – فيما عدا نتيجته – هو قلقل ديني. عند العدمية وعند الدين الإنسان غريب في هذا العالم،ففي العدمية هو غريب ضائع بلا أمل،وأما في الدين فهناك أمل في الخلاص.
إن أفكار"البير كامو"يمكن فهمها فقط إذا اعتبرناه مؤمنا مخيب الرجاء.
"في عالم خبا فيه الوهم فجأة وانطفأ الضياء يشعر الإنسان بالاغتراب إنه الطرد الذي لا فكاك منه ولا مهرب،فلا توجد ذكريات عن وطن مفقود ولا أمل في الوصول إلى أرض موعودة .. لو أنني شجرة بين الشجر،فقد يصبح لهذه الحياة معنى،ولعلها تصبح أفضل .. لم تكن هذه المشكلة لتنشأ لأنني سأكون حينذاك جزءا من هذا العالم الذي أقاومه بكل قوة في ضميري . كل شيء جائز طالما أن الله غير موجود وأن الإنسان يموت"
هذه العبارة الأخيرة ليس بينها شيء مشترك مع الإلحاد المصطنع عند المفكرين العقلانيين،وإنما على العكس،هي لعنة صامتة للروح التي أجهدها البحث عن الله دون أن تجده،إنها "إلحاد اليأس".).{ ص 139 - 140( الإسلام بين الشرق والغرب ) / علي عزت بيجوفيتش / ترجمة : محمد يوسف عدس / القاهرة / دار الشروق / الطبعة الخامسة 2014}.
ربما علينا أن نذكر أن قول "كامو" – 1913 / 1960 - .. كل شيء جائز طالما أن الله غير موجود وأن الإنسان يموت" .. هي نفسها مقولة "دستويفسكي" - 1821 / 1881 ..(إذا لم يوجد الله،فكل شيء مباح .. حتى الجريمة) "الإخوة كارامازوف" : نقلا عن"عشب الليل" للكوني.
بعيدا عن تطابق المقولين .. فإن "إلحاد اليأس" - حسب تعبير "بيجوفيتش" - و( حرقة"كامو") هي الوجه الآخر لطمأنينة أحد"الأسكيمو"،يقول صاحب"قصة الحضارة" :
(سال"بيري" أحد أدلائه من الإسكيمو قائلا" : "فيم تفكر؟" فكان جوابه" : "ليس لديّ ما يدعو للتفكير لأن لديّ مقدارا كافيا من اللحم"){ ص 11 جـ 1 / مجلد 1 (قصة الحضارة" / ول ديورانت / ترجمة : د.زكي نجيب محفوظ / طبعة جامعة الدول العربية}.
من وصل إلى"اليقين" الديني .. لديه طمأنينة "الإسكيموي" .. إلا أن لديه – في عقله وقلبه – ما هو أكثر من "اللحم"
وصرخة "كامو" هي نفسها صرخة "كازانتزاكي" على انحراف"الكنيسة" عن رسالة سيدنا:المسيح" – عليه وعلى نبينا السلام – وذلك حين يقول :
(المسيح لا يُرضي حاجتي بالحالة التي جعلوه عليها .. بملابس الذهب والقصور التي يقيمون فيها الحفلات في المساء مع سادة هذه الدنيا. أنا أتحرق شوقا إلى مسيح حافي القدمين،جائع مقهور. شبيه بهذا الذي لقيه الحواريون على أرض عمواس .. فرسالة المسيح قد هانت.وانمحت آثاره المقدسة من الأرض. نحن لا نتبع اليوم إلا آثار المنافقين ذوي اللحى .الآثار التي تركتها في الوحل حوافر الشيطان .لقد قلبوا كلمات المسيح فجعلوها : "طوبى للقساة بالروح لأن لهم ملكوت الأرض. طوبى للمتكبرين لأنهم يرثون الأرض. طوبى للجياع والعطشى إلى الظلم. طوبى لمن لا يرحمون .طوبى لمن لهم قلب دنس. طوبى لصانعي الحروب" .. هؤلاء هم الذين يسمونهم اليوم مسيحيين"){ ص 5 مقدمة مترجم رواية : (الإخوة الأعداء) : نيكوس كازانتزاكيس / ترجمة : إسماعيل المهدوي / القاهرة / دار آفاق للنشر والتوزيع / الطبعة الأولى 2015 ( مقدمة المترجم 1966 }.
نعود إلى"بيجوفيتش" ليحدثنا هذه عن "فلسفة" جماعية .. إن صح التعبير .. أو فلسفة "تطبيقية" .. إن صح التعبير أيضا..
(إن"الهبيز"هم بشكل ما استمرار للمذهب الوجودي،خصوصا من ناحية مظهره العملي وتطبيقه. واحتجاج"الهبيز"ضد التقدم بصرف النظر عن اتخاذه شكلا حادا أو عبثيا هو فضيلة كبرى لهذه الحركة،مما يجعلها ظاهرة ثقافية أصيلة في هذا العصر،فإنكار التقدم المادي يمكن أن يستند فحسب على فلسفة دينية،ولو في مقدماتها لأساسية على الأقل.
هذا النقد للحضارة ليس دعوة لرفضها،فالحضارة لا يمكن رفضها حتى لو رغبنا في ذلك. إنما الشيء الوحيد الضروري والممكن هو أن نحطم الأسطورة التي تحيط بها. فإن تحطيم هذه الأسطورة سيؤدي إلى مزيد من أنسنة هذا العالم،وهي مهمة تنتمي بطبيعتها إلى الثقافة){ ص 140 "الإٍسلام بين الشرق والغرب"},
الحديث عن"الهبيز" واحتجاجهم على"مادية الحضارة"يذكر بما ذكره "تشارلز كوريا" حين قال :
( في الستينات،عندما بدأ الشباب الأوربيون البوهيميون،يأتون إلى بومبي،اشتكى كثير من الأثرياء الهنود بمرارة منهم. في حفلات العشاء،كانوا يتحدثون عن ألئك الناس "السيئين" "القذرين"الذين يعشش القمل في شعورهم،وينامون على الأرصفة ويشحذون. وجوابا على ذلك،كنا نقول لهم : لماذا لا تستاؤون عندما ترون الهنود يعيشون هكذا؟ لماذا تنزعجون،فقط،عند رؤية الأوربيين؟ أخيرا،أعطاني أحد الأصدقاء الجواب : من الطبيعي أن يستاء الثري الهندي عندما يسوق سيارته المرسيدس ويرى أحد البوهيميين الأوربيين. إن لسان حال البوهيمي يقول للثري الهندي : إنني آت من حيث أنت ذاهب،وهو ليس المكان الجدير بالذهاب إليه. إن هذا يزعجه جدا. ويمكن للبوهيمي، أيضا،أن يدرك أن الثري الهندي في سيارته المرسيدس يبلغه رسالة،أيضا،الرسالة نفسها في الواقع : أنا آت من حيث أنت ذاهب.) {ص 118 – 119
(الشكل الجديد لمدن العالم الثالث) / تشارلز كوريا،وترجمة الدكتور محمد بن حسين الإبراهيم / منشورات جامعة الملك سعود،سنة 1420 هـ ( 1999م)}.
هذا الصراع بين "توحش الحضارة" .. وغياب"اليقين" .. وبينهما .. "قلق"إغلاق "الدين"لفوضى الشهوات .. وغلو .. " رهبنة النصرانية" .. يجد حله"الوسط"في إسلام .. يقول نبيه – صلى الله عليه وسلم – (" وَفِي بِضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ " . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ يَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ ؟ قَالَ : " أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي الْحَرَامِ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلالِ كَانَ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ " .)
ويقول عليه الصلاة السلام .. ( حبب إليّ من الدنيا النساء والطيب،وجعلت قرة عيني في الصلاة) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
أعمدة ثلاثة .. لذة ملموسة ... ولذة "الطيب" .. لا أدري .. تذكرني بـ"الفن" .. شيء لا تلمسه بيديك .. لكنه يتمدد في شرايينك .. ولذة مناجاة الخالق سبحانه وتعالى .. "الصلاة" .. بل هي قرة عينه عليه الصلاة والسلام
أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي المدني