طُلُوع المِصْدَار
مقالات ملفقة (4 \ 3 )
بقلم: محمد فتحي المقداد
يُقال: بأن أهل عمّان يتذكرون، وينسون بنفس الوقت، و بنفس المقدار. أثناء مطالعتي لكتاب (سيرة مدينة - عمّان في الأربعينات)، للروائي عبدالرحمن منيف، لفت انتباهي، بأن أهل عمّان كانوا يعتقدون عند حصول خسوف القمر، بأن الحوت قد ابتلعه، ومن أجل استعادة القمر، يُروى: بأن الشيخ صالح، كان يشير إلى دوره حين خسوف القمر، حيث يخرج، وبعض الفتية معه، إلى تلّة المصدار، وبالقرب من المقابر، هناك يتولى تهديد الحوت، بأن يترك القمر، ولا يزدرده، إذ يُخرج من جيبه ساعة قديمة متوقفة، وينظر إليها في الظلمة، ثم يقربّها من أذنه، لكنه لا يسمع شيئاً، فيقول في غضب:
- اسمع.. معك من الواحد للميّة (المئة)، فإذا تركته عفوْنا عنك، وسامحناك، أما إذا ..، ويبدأ بالعدّ.
يقول الفتيان الذين كانوا يتابعون "معجزات" الشيخ صالح، إنه يبدأ يطيل الفترة بين رقم وآخر حين بلغ الثمانين، وكان يزداد غياب القمر؛ حتى إذا انتهى من العدّ، ولم يزدد القمر إلا غياباً، التقط بعض الأحجار، وتَفَلَ في يده، ثم بداً يقذفها نحو الحوت، وطلب من الصغار أن يفعلوا مثله، ولم يعُد من المقابر حتى يكون هزم الحوت؛ وأخرج القمر.
قديماً كان طلوع المصدار، أو شارع المصدار فيما بعد يعتبر نهاية مدينة عمان من الجهة الجنوبية.. واطلقت عليه عدة تسميات منها مصدار المئذنة، و مصدار عيشة.. لكن الان اسمه شارع الامير الحسن.. اما كلمة عيشة فيعتقد انه اسم امرأة مسكينة كانت تسكن منزوية في هذا المكان.
وتذكر بعض المراجع أن المصدار سُمِّيَ بهذا الاسم؛ بسبب أنه كانت إبلٌ (جمال) لبني صخر ترد إلى نبع ماء رأس العين عن طريق ناعور، ثم بعد ذلك، وعند الرجوع تصدر عائدة عن طريق طلوع طريق المصدار.
من فوري تذكرت قصة سيدنا موسى عليه السلام، لأنها تنطبق على معنى صدور الإبل والحيوانات، فحينما وصل ديار قوم مدين، جلس عند نبع الماء، ورأى فتاتين جالستين (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ)، أي أنهام لا يستطيعان أن يزاحما الرجال الأشداء، فينتظرن حتى يخرجوا عن الماء. ( القصص -23)
ولم أجدْ الطمأنينة في حياتي منذ أن غادرتُ صَدْرَ أمي، ومن اشتكى من ألم أو وجع في صدره فهو المصدور، و كثيرة هي أدبيات العرب في حُسْن، و جمال صَدْرِ النساء، وقيل في ذلك: (خُذوا البنات من صُدور العمّات)، يضرب هذا لمن أراد البحث عن شريكة لحياته، فالعمّة أخت الأب حريٌّ أن تكون ابنة أخيها بأدبها و أخلاقها، أيضا جمالها.
وصَدْرُ كل شيء يعتبر أوله، و إذا وَفَدَ ضيفٌ على أحد ما، فإن صدر المضافة هو مكانه الطبيعي، من باب إكرامه واحترامه بشكل يليق به، ويقال: في هذا المقام، إذا تمنّع الضيف عن الجلوس في المكان ( لك الصدرُ، ولنا العتبة)، فيكون المعزّب قد صدّره، أي جعله يجلس في صدر المجلس.
في هذا المقام يطيب لي التوقف مع أبي فراس الحمداني، وهو يقول، في مقام الفخر، والريادة في الحياة بلا منازع:
ونحن أناس لا توسّط بيننا ** لنا الصّدْرُ دون العالمين أو القبر
ومنذ عام 1978 لا يزال مصير الإمام موسى الصدر غامضاً، وقد اختفى أثناء زيارته إلى ليبيا مع شخصين آخريْن، رغم أن ليبيا أعلنت أنه غادرها إلى إيطاليا، ووجدت حقائبه في فندق "هوليدي إن" ولكن الحكومة الإيطالية بعد قيامها بالتحقيقات اللازمة، أعلنت رسمياً، أن موسى الصدر لم يدخل أراضيها أبداً، وإلى هذه اللحظة هناك من يؤكد أنه لا يزال على قيد الحياة.
ومن صدّر لكتاب ما، يكون قد كتب له صدراً أي بداية وهي المقدمة، و في أنظمة الدولة الحديثة، هناك سلطة المصادر الطبيعية، وسلطات الجمارك لمصادرة المواد المهربة من خارج الحدود، وأجهزة الرقابة ف مصادرة الفكر، وحرية الكلمة والمعتقد، وفي كل دائرة لا بد من وجود دفتر الوارد و الصادر لتوثيق الأوراق جميعاً، أما وزارة التجارة و الاقتصاد فهي المعنية في إعطاء تراخيص الاستيراد و التصدير للتجار و الشركات.
ومما يزيد في التأكيد على موقف يطرب قلبي له كلما أتذكره، حينما قالها لي أبو محمد خير ذات لقاء تراثي (علّ لي منسفاً يصدر كلّ المناسف)، كرم بلا حدود، وأمنية رائعة تحرك مكان النفس، و أمنية أن يكون منسفه دائماً متقدماً على الجميع، يقدمه لضيوفه.
وكثيراً ما أخاف من أفعال ربما تصدر بلا وعيٍ مني، ستجرّ ويلاتها لتنسحب على مستقبل أيامي، وأكون مضطراً لممارسة فعل الندامة الذي لا أحبه من أن قرأت في صغري قصة ذلك الأعرابي " الكُسَعَيّ"، ولكي لا ينطبق عليّ ذلك المثل: (ندم، كندامة الكُسَعيّ).
عمّان – الأردن
6 \ 4 \ 2016