طارق الحبيب : "زلة اللسان"وإبحار في علم النفس
لم يسعني إلا أن أترحم على مالك بن نبي .. وأنا أقرأ بعض ما كُتب عن الأستاذ الدكتور طارق الحبيب،تذكرت مقولة لابن نبي مفادها .. أننا لا نناقش .. نحن إما مع أو ضد!!!
هذه الأسطر ليست للهجوم على الدكتور،وليست للدفاع عنه كذلك .. ولكنني أتعجب من بعض الذين هاجموا الدكتور،وكيف سلبوه تميزه في تخصصه .. بعيدا عن سقطتي (استنقاص) الحبيب صلى الله عليه وسلم .. وحديثه عن ولاء الجنوب و الشمال ... فوجود (سقطة) لإنسان – أي إنسان – لا يجعل المسلم ينسى (العدل) الذي أُمر بالتعامل به مع الجميع .. (اعدلوا هو أقرب للتقوى).
أعتقد أنني أستطيع الحديث عن (موضوع الساعة) هذا عبر أكثر من زاوية :
الزاوية الأولى : وضاح من اعتذار الدكتور طارق الحبيب .. أو اعتذاريه أنه من النوع الذي يصعب عليه أن يعتذر ... لذلك عند اعتذاره للجنوبيين والشماليين .. اعتذر بطريقة علق عليها أحد الإخوان بأنها : لم أخطأ ولكنني أعتذر لينتهي الموضوع .. أو شيء بهذا المعنى .. وفي الاعتذار الثاني قال أنه ليس أول من قال بوجود تلك الخصلة التي وصف بها الحبيب صلى الله عليه وسلم .. وذكر أن الشيخ (ابن سعدي) سبقه لذلك الوصف،وهو قول لم يسلم له به .. بل هناك من كتب بأن كلام الشيخ قصد العكس تماما!!
الزاوية الثانية : إن جزء من مشاكلنا أننا ننظر إلى (العرض) وننفعل ونغضب .. ولكننا لا نبحث عن (المرض) أو أصل المشكلة .. وهذا لا يعني أنني سوف أأتي بما لم تستطعه الأوائل – حسب تعبير المعري – ولكنني أمارس حقي في أن أطرح السؤال التالي : أين تكمن المشكلة؟ أو السبب الذي جعل الدكتور (الحبيب) يقع في ذلك الخطأ ،فيصف الحبيب صلى الله عليه وسلم بذلك الوصف الشنيع!!
والجواب .. باختصار .. تكمن المشكلة في استنساخ التجربة الغربية ... تلك الحضارة التي حبست الدين في (دور العبادة) وقلوب المتعبدين،ووضعت الأمور كلها تحت معيار (العقل) البشري المستغني عن خطاب علوي قادم من السماء ... خالعا رداء القدسية عن كل شيء .. وكلامي هذا لا يمتد بطبيعة الحال إلى الدكتور طارق ولا إلى غيره من المسلمين،ولكنني أتحدث عن طبيعة (الثقافة) التي يتم الاقتباس منها .. وفي أحيان كثيرة دون تمحيص .. وفي إطار الخطأ الذي وقع فيه الدكتور (الحبيب) استمعت أكثر من مرة من يتحدث عن قول الحبيب صلى الله عليه وسلم - وهو يكسر الصخرة التي استعصت على الصحابة رضي الله عنهم يوم الخندق – عند كل ضربة معول بأنه أعطي مفاتيح جهة معينة ((الله أكبر أعطيت مفتاح الشام(..) الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس (..) الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن )) .. فجعل (المتحدث) – سمعتها أكثر من مرة ومن أكثر من شخص لذلك تجنبت تحديد اسم معين – ذلك القول من باب رفع المعنويات .. متجنبا دور (الوحي) في المسألة ...
الزاوية الثالثة : أعترف أنني لم أعد أتابع البرامج التي يقدمها الدكتور (الحبيب) .. لأكثر من سبب،منها الانشغال،وتعارض وقت البث مع أوقات فراغي .. وهذا لا ينقص من قيمة الدكتور،ولكنه ينقص قدرتي على الحديث عنه ... ولكنني كنت شديد الإعجاب بطريقته في التحليل،وذلك قبل ما يدنو من العقدين من الزمن،وكنت حينها أستمع إليه عبر البرنامج العام في الإذاعة السعودية ... ومع إعجابي ذلك،إلا أنني لاحظت أنه يسرف – من وجهة نظري الخاصة – في الحديث عن العقاقير الطبية (النفسية)،فكنت أتعجب من ذلك،في إطار قراءتي لما يوجه إلى تلك العقاقير من نقد عبر مجلة متخصصة هي (مجلة الثقافة النفسية)،وغيرها مثل النقد الذي وجهه إيرك برن – مؤسس الطب النفسي التفاعلي – والذي (اتهم أطباء النفس بأنهم ينظرون إلى المريض كشيء يتم فحصه ثم إلصاق اسم معين على مجموعة الأعراض التي يشكو منها المريض،وكلما كان الاسم لاتينيا كلما كان ذلك مثيرا حتى يتلقفه زملاء المهنة الذين يحشرون مرضاهم في صناديق ضخمة،وعلى كل صندوق اسم لمرض نفسي،وتتلقفه شركات الأدوية لتقدم صنفا من الدواء يزيل مجموعة الأعراض تلك،ويهلل العالم عند اكتشاف دواء حديث مثلما هللوا منذ سنوات لدواء مضاد للاكتئاب اسمه(بروزاك) ثم ثبت أن بعض من يتناولونه يندفعون إلى القتل أو الانتحار){ مجلة روز اليوسف العدد 3402 في 5/3/1414هـ = 23/8/1993م}. أتذكر هنا إنني حين قرأت هذا الكلام،وغيره،سالت عن (البروزاك) – تحديدا – فوجدته يباع في صيدلياتنا،دون الحاجة إلى وصفة!!! وألفت النظر هنا،إلى أن الكلام المنقول من المجلة المصرية،وجهه الأستاذ منير عامر إلى الدكتورة (بالما باتلر) الأخصائية في فن إدارة حوار الإنسان مع نفسه،وإذا لم تخني الذاكرة فقد قالها لها (أستاذي وأستاذك إرك بيرن ..) أي أن الحوار يدور بين متخصصين.
يبدو لي – والله أعلم – وهذا مجرد تحليل أو قراءة .. أن الإنسان كلما تعمق في الثقافة التي يستلهم منها علومه .. استغرق فيها أكثر حتى يقع في (زلة) يعتذر عنها حين يتم تنبيهه إليها .. فذلك الاستغراق سوف يجعل الباحث أو الدكتور يكاد – كي لا أقول يصبح – أن يصبح جزء من تلك الثقافة ويصدر أحكامه انطلاقا منها .. والله أعلم.
الزاوية الرابعة : من هذه الزاوية سوف نلقي نظرة على ما يمكن أن نسميه (الصراع) بين الأوربيين والأمريكيين في مجال علم النفس .. في الوقت الذي نستورد نحن علومهم وكأنها (مسلمات) أو (وحيا) .. سنقف مع مجموعة من النصوص،تلقي الضوء على ما أسميناه(صراعا) .. إن أول ما يلفت النظر أننا نجد من يشبه الأمر بـ(حصان طروادة)!! ويفرق بين المجتمع الأمريكي والمجتمع الأوربي!!.. (إن لا أدرية المجتمع الأميركي تطرح إشكاليات عديدة على صعيد العلاج النفسي وتنظيمه. وهذه الإشكاليات دفعت الاختصاصيين الأوربيين إلى اتخذا المواقف الحاسمة من الإيديولوجية النفسية في أميركا. ومن هذه المواقف: موقف البروفيسور الفرنسي (بورجوا) الذي يعتبر أن الأمريكيين يستخدمون تصنيفهم للأمراض ويحاولون فرضه على الشعوب الأخرى وكأنه حصان طروادة الذي يدخل من خلاله الفكر الأميركي إلى عقول الأطباء النفسيين حول العالم (..) رفض العديد من أساليب العلاج النفسي الأميركي. وهذا الرفض يصل أحيانا إلى حد الرفض المطلق مع الإدانة وأحيانا الاتهام بالاستباحة (..) هذه الأسباب وغيرها كثير (منها سياسية) هي التي أدت إلى قيام المدرسة المعادية للطب النفسي في أميركا. وفي تعليقها على هذه المدرسة تقول البروفيسورة موسون :"قد يكون ذلك صحيحا في مجتمعهم أما في مجتمعنا الأوربي فإن ذلك غير صحيح. وما يصح في أميركا وفي ظروفها لا يصح في ظروفنا وفي المجتمعات الأخرى.){ ص 95 "مجلة الثقافة النفسية" العدد الخامس،المجلد الثاني،كانون الثاني 1991م}.
مع قولنا بأن الغرب – بشكل عام – خلع رداء الدين،إلا أن النظر إلى الدين بعين الاعتبار من قبل بعض المجموعات متوفر،بل يوجد من وضع (لغته القومية) في الاعتبار وهو يصوغ نظريته ... (ولدى مراجعتنا لأعمال (لاكان) نلاحظ أنه تقولب هو ونظريته في قالب جاهز. مفاده إبعاد التحليل عن الجنسية إرضاء للطابع الكاثوليكي للقالب(المجتمع الفرنسي) ..(..) كما أن (لاكان) حاول عن عمد قولبة التحليل في قالب اللغة الفرنسية إذا أن تلامذته اليوم يفخرون بأن لاكان أجبر بضعة مئات من الأجانب،الراغبين بدراسة نظريته،على تعلم اللغة الفرنسية!!){ ملف"التحليل النفسي ومدارسه" : ص 109(مجلة الثقافة النفسية) العدد السابع،المجلد الثاني،تموز 1991م}.
ويصل الأمر حد الشطط عند (مورر) فيلغي التحليل النفسي :
(إن التحليل النفسي ليس عملا ملائكيا،بل أسلوبا من أساليب الشيطان،إنه ليس طريقا للخلاص،بقدر ما هو وسيلة للعبودية والاسترقاق.){ ص 9 (الصحة النفسية .. دراسة في سيكلوجية التكيف) / الدكتور مصطفى فهمي / القاهرة / مكتبة الخانجي}.
ويحدثنا الدكتور مصطفى فهمي عن .. (الفرق الكبير بين المذهب الفرويدي والمذهب الديني في العلاج،ففي حين أن المذهب الثاني يهدف إلى تقوية الضمير،نرى أن المذهب لأول يحاول عن طريق التحليل النفسي،إلى التقليل أو إضعاف قوة "الأنا الأعلى"ذلك الجزء من الجهاز النفسي – حسب تصوير فرويد – والذي يمكن تشبيهه بالرقيب الداخلي،يقف حائلا دون اندفاع تلك الرغبات والنزعات غير المهذبة،المكبوتة في اللاشعور،حتى تأخذ مجراها في حياة الفرد الشعورية (..) كان فرويد من أوائل الذين نادوا باللاشعور (العقل الباطن) وأثره في إحداث الاضطرابات الانفعالية. وتعتبر الدراسات الخاصة باللاشعور من الأمور التي أحاطت التحليل النفسي الفرويدي بجو من الغموض،كما أحاطت المحللين النفسيين بهالة من القداسة الكهنوتية،وبنوع من المعرفة الخفية،المقصورة على فئة قليلة.){ص 354 - 355}.
غني عن التذكير انتشار بعض العبارات،المستقاة من علم النفس الفرويدي، على ألسنة الناس – حتى العامة – مثل (عقدت الولد) أو (عقدتني) أو (الكبت)!!
تجنبا للإطالة نلتفت لـ (نبكي على الأطلال) قليلا!! أو على تفويت فرصة أن تكون لنا – كمسلمين – مدرستنا الخاصة،بدلا من استقبال (حصان طروادة) ... (يذكر جيمس كولمان أن الإنصاف العلمي يقتضي الإشارة إلى أنه من بين جميع حضارات العصور الوسطى لم يكن هناك غير العرب يستطيع تطوير بعض الأفكار العلمية عن الأمراض العقلية،فقد نشأت أول مصحة عقلية في بغداد سنة 792 هجرية وتبعها بعد ذلك إنشاء مصحات نفسية في دمشق وبعض المناطق والبلدان العربية والإسلامية،وفي هذه المستشفيات كان المرضى النفسيون يتلقون معاملة إنسانية في وقت كان نظراؤهم في الدول الغربية يُحرقون أو يوثقون بالسلاسل في الأقبية المهجورة المظلمة حتى الموت أو ينهالون عليهم بالضرب لطرد الأرواح الشريرة .){ص 110 : عن مقالة :الميتا بسيكولوجي عند ابن سينا"للدكتور عبد الرحمن مرحبا : (مجلة الثقافة النفسية) العدد السادس،المجلد الثاني،نيسان 1991م}.
وختاما .. كتب الأستاذ الدكتور محمد أحمد النابلسي :
(نذكر الأستاذ الدكتور يحيى الرخاوي الذي طرح الشخصية العربية للنقاش مميزا بين حاجاتها وحاجات الآخرين وداعيا للاستجابة لهذه الحاجات وعدم الضياع في خضم عبثية دراسة مشاكل الآخرين وحاجاتهم.
وكذلك الأستاذ الدكتور محمد فخر الإسلام الذي يدعو لإدراك أثر البيئة في ترسيخ بعض المعتقدات،متعددة الأصعدة،على تكوين الشخصية العربية. فيعارض التقسيم الدولي العاشر للأمراض لكونه ينظر إلى هذه المعتقدات وكأنها علائم فصامية. وهذا الموقف يستحق الإكبار و الوقوف طويلا عند الفكر الكامن خلفه والذي يتطلب الترسيخ كمدرسة وليس مجرد تيار فكري.){ ص 6 (مجلة الثقافة النفسية ) :افتتاحية العدد الخامس عشر،المجلد الرابع،تموز 1993م}.
فهل ذهبت دعوة الأساتذة الدكاترة إدراج الرياح؟!
وبعد ... ألم يكن التحرر من سطوة الثقافة الغربية ... أقرب إلى جعل (الدكتور) ينظر إلى زواج الحبيب صلى الله عليه وسلم،من أمنا خديجة رضي الله عنها،والتي تكبره في العمر،بصفته (تدشينا) لمرحلة جديدة من التأريخ ؟ مرحلة تعامل فيها المرأة معاملة تختلف عن المراحل السابقة .. مراحل (احتقار) المرأة ... يقودها الحبيب صلى الله عليه وسلم الذي رباه ربه .. (ألم يجدك يتيما فآوى) ... ذلك الحبيب صلى الله عليه وسلم،الذي سيقول (النساء شقائق الرجال) ... انتهت الكلمة .. ولكن من أراد أن يتصور مكانة المرأة،فهذا مشهد ( من مسرحية ( ميديا) لــ يوربديز ( حوالي 438 ق . م) (..) وتفكر ميديا فيما ارتكبته من أخطاء، وتنطق بفقرة من أشهر فقرات يوربديز التي يدافع فيها عن النساء :
( لم أرى بين جميع الأشياء التي تنمو ويسيل منها الدم، شيئا تهشم كما تهشمت المرأة . إن علينا أن نقدم كل ما جمعناه من الذهب وادخرناه لهذا اليوم الوحيد، لنبتاع به حب رجل، ولكننا نبتاع به سيدا ليتصرف في أجسامنا! وهذا لعمري أشد ما يؤلمنا في هذا العمل المشين ولا نعرف بعد ذلك هل سيكون هذا السيد إنسانا خيرا أو شريرا، وذلك هو خطر يهددنا طول حيلتنا ... إن بيتها لم يعلمها أحسن وسيلة تهدي بها ذلك الشيء الذي ينام بجانبها سبل السلام . وإن التي تجد بعد جهودها المضنية الطويلة وسيلة تجعله يحسب لها حسابها فلا ينفض عن ظهره عبأها بعنف، تعد نفسها سعيدة . أما التي تعجز من النساء عن العثور على تلك الوسيلة فلتتمن الموت إن زوجها إذا مل رؤية وجهها في داخل المنزل غادره وذهب إلى مكان أروح من المنزل وأحب منه إلى قلبه أما هي فقد كتب عليها البقاء حيث هي، لا تقع عيناها إلا على نفس واحدة ثم يقولون بعد ئذ إنهم هم الذين يلبون نداء الحرب، على حين أننا نجلس في عقر دورنا في حمايتها بعيدا عن الخطر ! إن هذا لسخرية وبهتان ! ولأن أنزل ثلاث مرات إلى ميدان القتال، أخوض المعارك وترسي في يدي أحب إليّ من أن أحمل طفلا واحدا) {(قصة الحضارة ) ول ديورانت/ ص 268- 287 / جـ 2 مجلد 2/ ترجمة محمد بدران / طبعة جامعة الدول العربية}.