الواقعيّة العقلانيّة
في رواية (سمراويت) للروائي الأرتيريّ (حجي جابر)
بقلم الروائي- محمد فتحي المقداد
بطاقة حجي جابر الأدبية:
بداية لا بدّ من التوقّف عند الكاتب العربيّ الأرتيريّ (حجّي جابر)، هذه القامة الأدبيّة المُميّزة بفعلها الثقافيّ من خلال أعماله الروائيّة العديدة.
يعمل حجي جابر ضمن مشروع روائي يهتم بتسليط الضوء على أرتيريا الماضي والحاضر، الإنسان والأشجار وحجارة الطريق، ويحاول مع بقيّة أدباء أرتيريا إخراج هذا البلد من عُزلته الحضاريّة والثقافيّة وإعادة الاعتبار له في على الخارطة، وهو من مواليد مدينة (مصوّع) الساحلية 1976.
إصدراته الروائيّة:
- "سمراويت" 2012، حازت جائزة الشارقة للإبداع العربي.
- "مرسى فاطمة" 2013، تُرجمت إلى الإيطاليّة.
- "لعبة المغزل" 2015، بلغت القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب.
- "رغوة سوداء" 2018، حصلت على جائزة كتارا للرواية العربية 2019، وبلغت القائمة الطويلة للجائزة العالميّة للرواية العربيّة.
- رامبو الحبشيّ 2021
هويّة الرواية (سمراويت):
لا يزال الواقع هو المنجم الأساسي للأدباء ليجتهدوا في استخراج موادّهم، وتشييدها بتقنيّات السّرد الروائيّ، ورواية سمراويت هي من وليدة المدرسة الواقعيّة بكلّ تفاصيلها وجُزئيّاتها، وكانت خير عمل أدبيّ صادق للتعبير عن الوطن الحلم (أرتيريا) في ذهن الروائيّ (حجّي جابر)، وهي وثيقة تأريخيّة شاهدة على مرحلة هامّة من حياة الأرتيريّين، ما بين الاحتلال الإيطاليّ والأثيوبيّ، ونشوء (جبهة التحرير الأرتيريّة) التي اجتمع تحت رايتها المقاتلون، ووقف خلفها الشّعب الأرتيريّ بفئاته المُختفة خلفها بكافّة إمكاناته الماديّة والمعنويّة.
الصّراع الحضاريّ بين عرب وأحباش، وهو ما عبرت عنه الرواية:
-(إنّ الثقافة العربيّة والإسلاميّة في أرتيريا، والقرن الأفريقيّ، هي ثقافة مؤسّسة منذ أكثر من ألف عام في هذه المنطقة، وليست جديدة، بل عميقة الجذور) ص١٧٢.
-(أنّ الدول الكبرى لا تريدنا، لأنّ الصّراع يدور حول مسألة العروبة، وخاصّة عروبة البحر الأحمر) ص١٧٢.
-(عروبتنا في أرتيريا هي مصيبتنا، ولكنّنا قابلون بها، ولا نرضى عنها بديلًا، نعتقد أنّ مسألة العروبة في أرتيريا هي الأساس، لأنّه لولاها، لمل كانت حاجة للثورة أصلًا) ص١٧٠.
-(أنّ أرتيريا المُستقلّة في ذلك الموقع الاستراتيجيّ الهامّ، وهي مع العرب اليوم، وغدًا وبعد غد، وسوف يكون لها دورها في الشدّ على عنق العدوّ الصهيونيّ) ص١٧٢.
العنوان:
من الرّائع لمن يطالع أيّ عملٍ أدبيٍّ، أن تتطابق دلالات العنوان وفلسفته البعيدة والقريبة بالتعبير عن المحتوى، وهذا ما لمستُه في رواية (سمراويت). وهو اسم للبنت سمراويت التي التقاها بطل الرواية (عمر)، وهو السّارد والبطل المُوازي للكاتب (حجي جابر)، في أوّل زيارة إلى بلده قادمًا من مدينة (جدّة) في المملكة العربيّة السّعوديّة، وهي بلد اللّجوء عند فرار أسرته من الحرب الطّاحنة أثناء حرب التحرير، في بداية هذا الفصل اقتباس من الشاعر السّعوديّ (محمد الثّبيتي): (يا وارد الماء علِّ المطايا.. وصبّ لنا وطنًا في عيون الصّبايا؛ فما زال في الغيب مُنتجع للشّقاء، وفي الرّيح من تعب الرّاحلين بقايا) ص15.
-(لا يصحّ أن أقطعَ مُتعة الاكتشاف من الموقف الأوّل) ص18.
-الكرسي الثالث تجلس عليه فتاة في منتصف العشرين تقريبًا، وبيدها كتاب، بينما ضاعت بعض ملامحها خلف خصلات شعرها المُنسدلة، وتسريحة شعرها يقولان إنّها زائرة.. مثلي) ص19.
-(رفعت رأسها قليلًا والتفتت إليّ، ثمّ عادت لكتابها من جديد، كان ذلك كافيًا كي ألمح العنوان، يا للصدفة، للتوّ انتهيتُ منها، طعمها في فمي، وأحداثها طازجة في رأسي) ص20.
-(الغيرة وحدها تثير فُضول هذه الفتاة التي بدت آسرة حين اكتملت ملامحها أمامي؛ فزادت رغبتي في إزالة ما تبقّى من الغربة التي تفصل بيننا. فقلتُ: "عفوًا هل هذه رواية رحلة الشّتاء للعظيم ناود؟ أنت محظوظة بكمّ المُتعة التي تنتظركِ بيْن دفّتيْها. قبل هذا أنا عمر. -: "أهلًا بكَ تشرّفنا.. أنا سمراويت، أرتيريّة مُقيمة في باريس) ص21. جاء ردّها بلكنةٍ لُبنانيّة، عاد بي وجهها من جديد إلى طراز الآرت ديكو.
-(نصف النّساء يعشقن الرّجل الحالم، بينما النّصف الآخر يُقدّرنه، وإن لم يُعلنّ ذلك بصراحة) ص22.
-(صحيح أّني أعيشُ في باريس، لكنّي نشأتُ في بيتٍ يتنّفسُ العربيّة؛ فأبي هو الروائي الأرتيريّ إبراهام ولدا ماريام، وأمّي هي الشّاعرة اللّبنانيّة كاتيا حدّاد، لكن جينات الأدب لم تنتقل إليّ؛ فأنا للأسف لستُ روائيّة ولا شاعرة.. أنا فقط سمراويت) ص23.
يبدو لي من الاسم أنّه يتكوّن من مقطعيْن (سمرا) الأول عربيّ، والثاني (وايتْ) من الإنجليزيّة بمعنى البيضاء؛ فتكوينها مزيج ما بين الأفريقي والأسيوي؛ فأنتج هذا الوجه المختلف بجماله الباهر.
-(ناشدتُ قلبي أن يستريح.. هل يعودُ الصّبا مُشرعًا للغناء المُعطّر .. أو للبكاء الفصيح؟\ م. الثّبيتي) ص173.
وصف الرّواية:
أ*- قامت الرّواية بنقل الواقع بعين خبيرة استجمعت الوصف ما بين الحنين إلى كلّ ما بين في الوطن القائم على محمل الذّاكرة على الدّوام عند من هاجر منه، وأصبح لاجِئًا في بلد آخر.
ب*- في الحقيقة أن فصولها جاءت متناوبة السّرد بوضوح تامّ، بانتقالات لطيفة، ما إن تنتهي من فصل حتّى يُسلّمك إلى الآخر بسلاسة وسهولة بلا تشتّت للذهن.
ت*- من خلال إحصائيّة قمتُ بها بتعداد هذه الفصول؛ فكانت بلا الخاتمة ثلاثين فصلًا، وهي إن جاءت بقصد من الكاتب، أو غير ذلك؛ فلو عرفنا أنّ الثورة الأرتيريّة استمّرت على مساحة ثلاثين عامًا، فكانت دلالة الفصول ذات معنى عميق.
ث*- الفصول الثلاثون لم تكن تحمل أيّه عناوين أو أرقام تفصل بينها، بينما جاءت اقتباسات من أشعار الشّاعريْن السّعوديّيْن (محمد الثّبيتي) و (محمد الشّيخ)، بالتناوب في كلّ فصل لشاعر مختلف عن الذي يليه، توظيف جميل وموفّق باختيارات الكاتب الذكيّة، وهي كانت تُعبّر على روح الفصل المُتصدّرة له.
ج*- الرواية عرضت الكثير جزءًا وافرًا من أسماء قادة الفكر والفنّ والثّقافة والثورة ومؤسّسيها، وتسليط الضّوء على مُنجزاتهم باقتضاب شديد، لاتّسع الموقف للمزيد، بل هو دافع للقارئ للبحث والتنبيش عن المزيد من المعلومات للاستزادة معرفيًّا.
ح*- عرض توثيقي للأماكن في أرتيريا من خلال رحلة البطل (عمر)، فكان الوصف موفّقًا للأماكن العامّة في أسمرا والمُصوّع، أسماء الشوارع والفنادق والحدائق وحركة النّاس، وطرائق عيشهم.
خ*- سلّطت الرّواية الضّوء على كثير من التراث الماديّ والمعنويّ الأرتيريّ.
د*- من هنا تأتي أهميّة الرّواية (سمراويت) على أنّها وثيقة خاصّة أثناء العرض الشيّق المُتوازن لمرحلة ما بعد الثورة، وهي مرحلة الحكم جبهة التحرير الأرتيريّة، ما بين مُؤيّدي الحكم والمُعارضة، بحيث أنّ ديمقراطيّة الكاتب (حجي جابر)، عندما وقف على مسافة واحدة من الطّرفيْن؛ عندما أفسح المجال للرأي والرأي الآخر بالظّهور، وهو ما يعني حياديّة الكاتب، وخروجه من العمل كروائيّ مُسيّر للحدث، وترك الحديث والصّراع ما بين أبطاله، كلّ يُدلي برأيه دون خشية أو مُواربة في الدّاخل أو الخارج.
ذ*- الأمر المُهمّ تسليط الضوء على الفساد وترهّل الأنظمة الفاسدة في القيادات الحاكمة، وفي المُعارضة، بعين ناقدة ناصحة ترتجي الخير من هذا، ولم ذلك بقصد التّشهير بأيّ طرف على حساب الطّرف الآخر. وهناك مقولة في هذا المجال: (ثوريّو الأمس هم رجعيّوا اليوم)، وفي هذا المجال تتساوق الرّواية (سمراويت) مع رواية (ذاكرة الجّسد) للروائيّة الجزائريّة (أحلام مُستغانمي)، حينما انتقدت مُخرجات الثورة الجزائريّة، والنّخب التي حكمت مرحلة ما بعد انتهاء الثورة، والعودة إلى الحياة المدنيّة وبناء الدّولة المُفترضة بنهج العدالة وتكافؤ الفُرَص.
ر*- قضيّة تتشاركها جميع البلاد التي عانت من الحروب التحريريّة أو الأهليّة والطائفيّة، وهي قضيّة اللّجوء والفرار للنجاة، هؤلاء لم يندمجوا في الأماكن التي ذهبوا إليها؛ إلّا لأنّ الحنين والأشواق تتجاذب قلوبهم بالعودة إلى الوطن، ولكن الوطن بقي حُلمًا جميلًا في مخيالهم، وهو ما عبّر عنه الشّاعر (محمود درويش): (الطريق إلى الوطن.. أجمل من الوطن).
ز*- سمراويت رواية مُثّقفة قدّمت جُرعة عالية الجودة، تحثّ على البحث والتوسّع للاستزادة عن مناطق الأطراف العربيّة التي نجهل الكثير من تاريخها القديم والحديث، وجغرافيّتها، وطرائق العيش انتقالًا ما بين حياة الأمس واليوم.
س*- نقطة أخيرة تحسب للروائي (حجي جابر) بتوجيه بوصلته باتّجاهها الحقيقي الأصليّ نحو فلسطين، القضيّة المركزيّة ووضعها عاى سُلّم الأولويات.
رُؤيتي هذه لجوانب من الرّواية، مُؤكّد أنّ هُناك الكثر ليُقال عنها، لعلّي صنعتُ مُقاربة مع روح الرّواية كنصٍّ أدبيٍّ، تذوّقتُ جماليّاته، واستمتعتُ ارتياضًا في دوحتها، وعشعشت في روحي جاذبيّة المكان الأرتيريّ، بإغرائي لو تُتح لي الذّهاب إليه، وأفعل بانتقالاتي كما فعل (عمر) بطل الرّواية، لأرى سمراويت هناك في أيّ من مقاهي أسمرا أو مُصوّع، وأجلس معها على طاولة واحدة، وأحتسي فنجان قهوتي، وعينيّ مغروستيْن في عينيْها؛ لأتملّى منهما ارتواء، وأجبرها على الثرثرة بلغة التّغري بما تعرف من كلمات أو عبارات، لأستمتع بلكنتها جميلة كما حكاها البطل.
عمّان – الأردنّ
ـــــــــا 25\12\2020