دهشة الكبار آخر تحديث:الأحد ,11/05/2008

صالح الخريبي

أشياء كثيرة نمر بها في حياتنا تلفت نظر الموهوبين، ويمر بها الإنسان العادي مرور الكرام. وأذكر أنني كنت أتمشى في شارع الحمراء في بيروت، عندما كان في أوج عزه في الستينات، مع الشاعر أدونيس، ومررنا بحوض سمك صغير أمام مطعم فيصل، فوقف أدونيس يتأمل السمك الملون في الحوض وقال، وقد أشرق وجهه بسعادة ظهرت على كل ملامحه: “إنه يسبح”، وقلت له، وأنا أشده من يده وأستحثه على متابعة المشوار: “لا أظنك تتوقعه يطير”. فتغيرت ملامحه، وقال: “الدهشة أمام الأمور التي تراها أنت عادية هي التي جعلت مني شاعراً”. وبلعت ريقي، ولكنني أدركت الفرق بين الشاعر المبدع، والإنسان العادي.

والفيلسوف أرسطو الذي عرف العرب قيمة فلسفته، فترجموها، بينما مر الغربيون قبل عصر النهضة بها كما مررت أنا أمام حوض السمك، وعندما “اكتشفوها” ترجموها عن العربية لا عن لغتها الأصلية، كان يقول إن الدهشة هي بداية المعرفة، لأن الذي لا يشعر بالدهشة لا يسأل. ولا أذكر ذلك الفقيه العربي الذي كان يقول: “اسألوني قبل أن تفقدوني” ولكنها أثمن نصيحة قدمها لتلاميذه. وكان سقراط يطالب تلاميذه بأن يسألوه باستمرار، وألا يتوقفوا عن التساؤل، وفي أحد لقاءاته مع تلاميذه لاحظ أن أحدهم يستمع ولا يسأل، فقال له غاضباً: “اسأل، حتى أراك”، ولم يكن سقراط يقصد الرؤية بحاسة البصر، فهو يراه بهذه الحاسة بالطبع، ولكنه كان يقصد الرؤية بعين البصيرة، لكي يعرفه من الداخل، ويدرك طريقة تفكيره.

والناس صناديق مقفلة ما بقيت شفاههم مغلقة، وإذا باعدوا ما بين الشفاه كشفوا ما بداخل هذه الصناديق، ويقال إن الإمام الفقيه الشافعي كان في زاويته في المسجد يلقي درساً في تلاميذه، وكانوا كلهم يسألون، والإمام يجيب عن أسئلتهم بسعادة، ولاحظ بينهم شاباً حسن الشكل، أنيق الهندام، يجلس في مواجهته في الصف الأول، فقال في نفسه: ربما كان ابن أحد الولاة أو التجار، وكان الإمام الشافعي كعادته في حلقات الدرس، يجلس على السجادة وقد وضع إحدى رجليه تحته، وثنى الأخرى ووضع يده على ركبته، وشعر بالحاجة لإراحة رجله التي يجلس عليها، ولكنه شعر بالحرج من الرجل الأنيق الذي يجلس في مواجهته، ولاحظ أيضاً أن هذا الشاب يستمع، ولا يسأل كغيره من الحضور، فقال له: “أليس لديك ما تسأل عنه يا بني؟” فقال الشاب: “نعم، لدي ما أرغب في الاستفسار عنه، وأريد أن أسألك: متى يفطر الصائم؟”، فقال الشافعي: “الصائم يفطر عندما تغرب الشمس”. فقال الشاب: “وإذا لم تغرب” وابتسم الشافعي، وشعر بأنه يستطيع أن يعفي نفسه من الحرج، وقال: “آن للإمام أن يمد رجله”.

وليس بيننا من هو في حجم الشافعي أو سقراط أو أفلاطون، ولكن أمثال ذلك الشاب الأنيق يشكلون ما نسبته 99،9% من مثقفينا ومحللينا، فأنت تراهم على شاشة التلفزيون بكامل أناقتهم يصولون ويجولون، ويتحدثون الساعات الطوال، يحللون لك حدث الساعة، وقضية اليوم، ولو وزنت ما يقولون بميزان الحكمة والعقل لوجدت أنه لا وزن له، فتحليلاتهم من النوع الساذج الذي يعرفه الناس العاديون، وتتذكر أنه لو كان بين هؤلاء شخصية تتمتع بقيمة في الموضوع الذي تتحدث عنه لما كان حالنا هذا الحال، فالمفكرون هم الذين يصنعون الرأي العام، وكان أفلاطون وأرسطو والشافعي هم الذين يشكلون ذوق الجماهير، ويعتبرون أنفسهم مسؤولين بشكل مباشر إذا حدث أي انحراف في هذا الذوق.