الاستعداد ... لرمضان
مشكلة الإنسان أنه لا يشعر بحقيقة ما يجري من حوله إلا ظاهراً، لأنه يعيش في حالة تناغم وتناسق مع الكون كله ويحيا بانسياب أعذب ألحان الوجود البديع، فلا ينصت إلى لغة هذا الكون وكل ما فيه يصيح (سبحان الله) وهو ما عبر عنه القرآن بـ(التسبيح) قال تعالى :{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً }الإسراء44والآية تريدنا أن ننتبه إلى أنفسنا حين نعيش بين ثنايا هذا الوجود ونحن متناسين روعته غافلين عن تأمل موقعنا فيه كـ(مخدومين) . ويأتي شهر رمضان ليعيد ترتيب حياتنا فيكسر قولبتنا ويعيد تشكيل الساعات والأيام والأسابيع...وهكذا.. سوف نعيش لشهر كامل ونحن مسيطرين على ضبط أنفسنا وإعادة صياغة أوقاتنا مستحدثين لغة جديدة نكلم بها ذواتنا حين نهم أن نرتكب الخطأ أو الخطيئة ، فيصرخ ضميرنا .. أنا صائم أنا صائم فننجح في
الوقوف عند حدود الله ونواهيه،نكف عن المحارم والمعاصي ومن قال أن الصوم له علاقة بالجوع والعطش إذ قد شرعه الله تعالى لنا لنكتشف فيه مدى قدرتنا على التحكم في أنفسنا .
الصوم إذن آلية هامة تساعدنا على تنمية دوافع ردع أنفسنا بأنفسنا محاولين إيجاد لحظات السلام داخل قلوبنا،والحقيقة إنه السلام الحقيقي والدائم مع الكون أجمعه.
لو تأملنا كيف أن رسولنا الكريم محمد عليه الصلاة والسلام كان يستعد لشهر رمضان بفترة تساوي الشهر أيضاً فيصوم شهر شعبان بأكمله ، وهنا نقف عند وضع الاستعداد الذي مارسه رسولنا الكريم ، لنسأل أنفسنا هل يفترض بنا أن نضع خطة لأي عمل قبل أن نبدأ بتنفيذ هذا العمل ؟ فنستعد ونتدرب ونتهيأ من قبل أن نقوم بأي فعل مطلوب منا ؟ وللجواب عن هذا سنرى أن مجرد شرب الماء عند رسول الله كان يتم وفق خطة منضبطة فعلمنا عليه الصلاة والسلام أن نشرب جلوساً وأن لا نعب الماء عباً وأن نجعل ثلث المعدة للماء لا أكثر.
سوف نقف عند سيدنا آدم عليه السلام حينما شاء الله تعالى أن يدربه على قابليته في الاختيار من قبل أن ينفذ منهاج الله تعالى في ( افعل ولا تفعل )عندما صدر أمر الله تعالى بعدم الأكل من الشجرة التي حرمها الله تعالى عليه وترينا آيات القرآن أن آدم عليه السلام فشل في تلك المهمة ولكنه نجح من حيث أنه تدرب ليستعد لما هو أكبر من أمر أكل الشجرة ، لقد نجح في الفشل الذي تابعه سيدنا آدم بالتوبة والعودة إلى الله طائعاً فنطق لسان قلبه فقال هو وزوجته كما قال الله تعالى :{قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }الأعراف23 .
ثم لنذهب مع سيدنا إبراهيم عليه السلام حينما أراد الله تعالى أن يعده لمهمة حضارية تخص وضع البشرية في زمنه وحتى يرث الله الأرض ومن عليها ، أنظر إلى شدة صعوبة الأمر الصادر عن الله تعالى على نفس الرسول إبراهيم وهو يكلفه بذبح ولده الحبيب ولكنه الرسول إبراهيم الذي تحولت عنده النيران إلى برد وسلام كيف لا ينجح في التدريب على تنفيذ أوامر الله تعالى بمثل الأمر بذبح الولد،وكأن الله تعالى يريد - جل في علاه - أن يعطينا درسا ً عمليا ً فيصدمنا بتجربة سيدنا إبراهيم مع ابنه إسماعيل عليهما السلام ، هذا الدرس يستفز فينا وعينا أن نكف عن الذبح البشري بعضنا البعض ونهجر طريقة تقديم القرابين البشرية التي لا تزال شعوبا ً كثيرة تمارسه في حروبها واقتصادها وطرق تفكيرها،أن نكف عن الاستخفاف بالآدمية التي نحملها، أن نكف عن تنفيذ أية أوامر ومن أي جهة صدرت بقتل الآخرين وبلغة مؤثرة أن قتل أحدنا لفرد من البشر يساوي عند الله قتل البشر أجمعهم ، قال تعالى : [ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ] المائدة32
وهنا لا نريد أن نسترسل في ضرب الأمثلة القرآنية في قصصه التي من المهم أن ندرك العبرة فيها وسنقف مع قرآننا المجيد وهو كما سماه المفسر الزمخشري : الكشاف إذ القرآن هو المعجزة الخالدة وهو من سيرافق الإنسان الذي عاصر الرسول محمد عليه الصلاة والسلام وهو من سيرافقنا في زماننا هذا وسيرافق الإنسان بعد آلاف السنين ، لقد استعد الرسول في صوم شعبان ليستقبل رمضان كما هو في كل لحظة على أتم الاستعداد أن يستبشر بشفاء آلام الإنسان لمئات السنين القادمة،أليس القرآن هوالشفاء من كل الاضطرابات المجتمعية والمعضلات الاقتصادية والمكائد السياسية والله تعالى يقول وبصيغة الاستقبال قال تعالى :{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً }الإسراء 82 بل أن هذا القرآن يذهب بنا إلى أبعد من هذا فتقول الآية في سورة فصلت أن من لا يؤمن بقدرة القرآن على استشفاء أمراضنا البشرية فإن هذا القرآن سيكون مصدرا ً من مصادر الاستعماء والاستعصاء الحضاري
اقرأ إن شئت قول الله تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ }فصلت44 والرسول الكريم يريدنا أن نتنبه إلى نوعين من أفعالنا :
1\ ما نفعله ونحن نشعر بحقيقة هذا الفعل
2\ ما نفعله ونحن غير مدركين حقيقة ما نفعل .
وعلى العموم فالبشر لا يتصرف جميعهم دوما ً وهم على وعي بما يتصرفون .والقرآن يقرر أن تغيير الإنسان ممكن بيد الإنسان نفسه وهنا يأخذنا القرآن إلى زاوية تغيير وضعنا النفسي ومدى استعدادنا لجوهرالعملية..عملية التغيير الذاتي فالقرآن لا يحدثنا عن التغيير في مظهر حياتنا بل في جوهرها ، إنه يأخذنا محفزاً إيانا إلى الزاوية المعتمة في ذواتنا إلى عواطفنا وعاداتنا وخبراتنا ومواقفنا الأخلاقية وهي تشكل جوهر كياننا النفسي لقد نطق القرآن بصعوبة وخطورة الأمر فقال تعالى :{الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً }الكهف .إن أول مهمة تقع على عاتق المسلم وهو يستعد للصيام أن يدرك (لماذا) هو يصوم .. ومعلوم أن مؤسساتنا الثقافية جميعها تركز على (كيف) هو يصوم.وثاني المهام أن يبدأ بدمج القرآن مع رمضان فيختار الآيات التي يحفظها عن ظهر قلب ليبدأ بقراءة ما قاله المفسرون فيها ؛ ثم ليبدأ التدبر والتأمل في هذه الآيات لعله يعثر على معنى ً غاب عن خاطر المفسرين (رحمة الله عليهم).وثالث المهام : أن يبدأ بالتدرب على (صوم اللسان) فيحاول أن لا يذكر عورة إنسان وينشغل بعيوبه هو عن عيوب الآخرين.
وهكذا : يسافر المسلم إلى رمضان ليجدد الحياة به ، وعليه أن يضع الحجر الأساس لهذا التجديد فيبدأ برفع شعاراً يوصل العمل بالغاية لهذا العمل فيفعل كما علمنا الحبيب بقوله أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم يكن تراه فإنه يراك).