رجلٌ غير مهمّ / إيمان الدّرع

--------------------------------------------------------------------------------


رجلٌ غير مهمّ




نظر بعينيه الضّيقتين إلى جسد الرّجل القادم من الأرياف البعيدة ، وهو يتنقّل تحت الشّمس ، ممسكاً المعول ، يضرب الأرض بإلحاحٍ ، ليوسع دائرة الأحواض المحيطة بشجر الزّيتون في مزرعته .
عثر على ضالّةٍ كانت تشاغله ليلة أمس .
ناداه : تعال يا حسن ..أريدك في أمرٍ..
نفض يديه بعد أن رمى الحجارة التي نتأتْ عن عروق الأرض بعيداً ،وراح يجفّف عرقه بكمّه ، ماسحاً يديه بطرفي بنطالٍ بالكاد تتماسك خيوطه :
ـ أمرك أستاذ ..أنا في خدمتك ..
وبعينٍ مازالتْ تتفحّص بمهارة قال :
ـ كنتُ أراقبك ، وجدتُ فيك الشّخص المناسب ، زنداك قوّيتان يا حسن ، ووجهك أسمر جميل ، وجسمك متينٌ ماشاء الله ، لك عندي دور في فيلمٍ أخرجه الآن .
ـ ولكن يا سيّدي ...أنا ...أنا !!!!!
ـ دعني أكمل ، مشهدٌ واحدٌ تقوم به نيابة عن بطل الفيلم ، لأنّه لا يتمتّع مثلك بهذه البنية القويّة ، سأختبرك به ، فهو يحتاج إلى صبرٍ واحتمالٍ .
ـ كيف يا سيّدي ،أوضِح بالله عليك ؟؟هل سأشارك في التّمثيل ؟؟؟!!! أقصد ...أقصد سأظهر على الشّاشة ؟؟؟ تماماً كما كنت أرى الأبطال عندما أروح خلسةً للسينما منذ سنين ..؟؟
ـ ستكون إن شاء الله ...
ـ وهل سيصّفق الناس لي طويلاً كما تفعل ، عندما ينتصر البطل على عدوّه في النهاية ؟؟؟!!!
ـ ستكون يا حسن ...إن أثبتّ جدارةً في التّمثيل ، وتحمّلتَ مشهد العراك الذي سيدور بين البطل ، وجماعة تريد أن تحرق زرعه لحقدٍ ، وثأرٍ قديمٍ ، هل وصلتْ إليك الصّورة ..؟؟!!
ـ نعم وصلتْ ، سوف أدمّرهم قبل أن تصل أيديهم إليها ،أنا أكره الظّلم ، ستراني أبطحهم أرضاً بكلّ قوتي .
ـ هذا ما أريده تماماً ، ولكن دعني أبسّط لك الأمر أكثر ، لن تظهر ملامح وجهك الآن ، ستنفّذ المشهد أنت ، ونركّبه بعد ذلك على بطل القصّة ، هل فهمتَ ما أقصد ؟؟!!
ـ ليس بعد أستاذي ، لا يهمّ ، ولكنّي سأقوم بتأدية المطلوب على أكمل وجهٍ ، لعلّ السّعادة تطرق بابي ، والحظّ يأتيني على يديك ، والفقر يشيح عنّي .
وعند باب بيته ، راح يخبط بقوّةٍ : افتحي يا مروة ، افتحي بسرعة ..
تناولتْ عنه الأكياس ، تتفحّص بدهشةٍ ما بها ، تسرّبتْ إلى أنفها رائحة لذيذة تنبعث عنها ، أغمضتْ عينيها بنشوةٍ وهي تتذوّق وجبةً شهيّةً من اللّحم المشويّ الذي اشتاقتْ طعمه من فترةٍ بعيدةٍ .
عانقته ، تقافزتْ على صدره خصلات شعرها الفاحم ، لثمته بشفتيها القرمزيّتين .
للتوّ كانت تجرّب لون أحمر شفاهٍ ، أوصتْ به جارتها سعديّة من المدينة، ليعرف كم هي جميلةٌ ،ومثيرةٌ ؟؟؟!!!، مثل ممثّلات المسلسلات التي يسهر عليها ، وهو يشرب الشّاي، ويدخّن السّجائر ،ويلفظ قشور اللبّ من بين شفتيه ، وعيناه تغوصان في التّلفاز كالمسحور ، بعد عشاء يومٍ شاقّ ينضوه عنه ، يبتلع الصّبر، والأحلام ، لينهض من جديدٍ .
ـ سنقبر الفقر يا مروة ، اليوم عيدٌ ، لك البشرى يا عروسي الجّميلة ، سأكون رجلاً مهمّاً، أتتني طاقة الفرج ، أيّام وسترين من هو حسن ؟؟؟!!!عفواً ... البطل حسن ...أعني الشّاطر حسن .
قلبها ازداد اضطراباً ، وعيناها اتّساعاً ،تستزيده التّفاصيل التي غزت سمعها ، فارتفعتْ بها إلى فضاءات أبعد من القمر، من خوص أشجار النّخيل التي كانتْ تبهرها، في ليالي غيطانٍ مشتها صغيرة .
رجعتْ للوراء في جلستها ، تتلمّس بأصابعها جنينها الذي يتشكّل بين أنسجتها ، تداعبه فرحاً ، خالته يلهو في غرفةٍ منفصلةٍ مليئةٍ بالألعاب ، والأثاث الأنيق ، ثمّ عادتْ إلى حديثه قبل أن تسترسل في الحلم :
ـ أكمل ..هه ..وبعد ...كيف سيتمّ الأمر ؟؟!! ومتى..؟؟!!
ـ أنتظر من الأستاذ تعليماته في الغد يا مروة ، ثمّ تعالي يابنت ...ماهذا الجّمال يا بنت ، سأجنّ بك أنا ...لا ...بل أنا جننْتُ فعلاً .
رقصتْ له .. تباعدتْ .... ثمّ التحمتْ به ، كسفينة أشواقٍ احتضنتها أمواج بحرٍ أشدّ اتّقاداً ، توسّدتْ ذراعه ، وناما معاً على حلمٍ يقطفان به النّجوم واحدة .. فواحدة .
حانتْ اللّحظة ، وصل حسن لاهثاً إلى موقع التّصوير المتّفق عليه ، يرسم في ذهنه حذافيرَ مشهدٍ ، يردّده منذ أيّامٍ كالأسطوانة حتى لا ينساه .
كانتْ تتأبّط ذراعه حبيبة الحلم الجّميل ، بطنها المتكوّر أمامها يعلو ، ويهبط اضطراباً ، وفرحاً ، وخوفاً ...
ـ لماذا أتيتَ بها ..؟؟!!! سأله المخرج وهو يوجّه آلات التّصوير ، يعدّها للبدء
ـ سماح يا سيدي ، أريدها أن تكون معي ، فرحانة هي بي يا أفندينا ، أمانة عليك ، خلّها بقربي ، أستأنس بها
ومن غير اكتراثٍ أشار بيده: طيّب ...قفي قرب الشّجرة هذه ، وشاهدينا من بعيدٍ ، إيّاك أن تتحرّكي ...
تعثّرتْ مشيتها مراراً ، وهي تهرول بين أخاديدَ محفورةٍ كالأقلام في أديم الأرض ، تنفّذ عن طيب خاطرٍ ما طُلب منها،
يكفيها ما نالته من شرف الموافقة على الحضور.
دارت الكاميرات : 5،4،3،2 ...ابدأ
انشقّتْ الأرض عن أربعة رجالٍ يحملون الهراوات ، يقتحمون المكان ، ليحرقوا القطن النّائم كالثّلج على بساطٍ أخضرَ
في ليلةٍ مقمرةٍ .
هبّ من نومه فزعاً ، تصدّى لهم ، بطحوه أرضاً ، نهض من جديدٍ ، أضاف للمشهد حميّةً ، وشجاعةً فطريّة ، قفزت إليه بلا تصنّع ، راح يتخبّط دافعاً بقدميه ، ويديه ، أجسادهم الثّقيلة عنه بكلّ ما أوتي من عزمٍ ، أطبقوا عليه من جديد.
تذكّر كلمات المخرج : يجب أن تكون صبوراً يا حسن ، عليك أن تقاوم بقوّة .
فتحامل على نفسه من جديدٍ يحثّها على الصّمود وهو يصيح :
ـ اتركوا أرضي يا كلاب ، أموت فداء لها ، ارحلوا من هنا .
تكرّر المشهد لمرّاتٍ ، ومرّاتٍ ، تفاصيل عفويّة تطفو تلقائيّاً ، وأخرى بتوجيهٍ ، وصنعةٍ ، ودرايةٍ تزداد حدّة وتصاعديّة.
والمخرج يرنو بعينٍ زجاجيّةٍ تضمن نجاح المشهد ، ما رفّ له جفنٌ ، ينفث دخان سيجاره بشراهةٍ ، ومتعةٍ ، لصيدٍ ثمينٍ ما خاب بين يديه .
وحسن ..الذي كان يحمحم كحصانٍ جامحٍ ، صار فرخةً موهونةً ، متعفّرة بالتّراب ، الدّم يسيل من شفته السّفلى ، بعد أن هجم عليه رجلٌ عملاق كالثّور ، يكرّر صفعه ، وركله بقوّةٍ ، وغلظةٍ كما رُسم له تماماً.
رفع يديه ، يلوّح للمخرج ، يتوسّله أن يوقف التّصوير ، أراد أن ينهض ، انشلّتْ حركته ، غابتْ عنه الألوان ، الكاميرات ، الإضاءات ، الأصوات ، ما سمع إلاّ صوتاً واحداً يخترق أنفاس الفضاء :
ـ يكفي ...يكفي يا مجرمين ، يا غجر ، ماذا فعلتم به ...؟؟؟!!!! ملعونة الفلوس ، والشّهرة ، والتّمثيل .
وضعتْ رأسه في حجرها تبكي ، تجفّف بطرف شالها الدّماء الممتزجة بالدّمع عن وجهه .
أمسك بمعصمها هامساً، وهي تتحسّس الكدمات المزرقّة على عينيه ، تلثم العبرات بهما :
ـ أردتُ يا حبيبتي أن أُفرح قلبك بحكايا الشّاطر حسن ، أُسمعك مواويل المغنّواتي حسن ، أن أكون نجم الشبّاك المنتظر الذي يدور بك الدّنيا سعادةً ، ولكن ...آاااااااه ...أرأيت كم أنا مهمّ يا مروة ؟؟؟!!! أرأيتِ ...؟؟؟!!!
وتعكّزا على بعضهما متوجّهَين إلى عشّة صفيحٍ بين الضّباب ، يجتازان الطّريق الإسفلتيّ الذي كان يتلوّى كثعبانٍ أمام ناظريهما ،وأصوات السيّارات المّارّة بمحاذاتهما ، عقب التّصوير ، تسابق الرّيح ، تشقّ عنان الوجع ، من غير التفاتٍ.
__________________