الزجاج



ما بين ازدحام القاعة وصخب الموسيقى يجلس بجوار عروسه. همسات الصديقات الملتفات حولها والأصدقاء انتزعته من أفكاره، جعلته ينهض يراقص عروسه.. تستكين برأسها على كتفه على نغمات الموسيقى والمطرب يشدو بصوت حان "ضمينى وانسى الدنيا.."
ينسكب الصوت الحانى عبر الردهات بعرض المسرح والعيون مغتبطة.. متلهفة.. وهو يضم قلبها إلى صدره بين الصمت والموسيقى..وروعة الكلمات..
علا الصفير والزغاريد بعد انتهاء الأغنية والعريس يقبل العروس فى الجبين، تتورد وجنتا العروس وتضطرب خطوتها وهى تعود إلى مقعدها فى الكوشة بصحبة العريس.
ترتسم على وجهه البهجة.. أشارت العروس إلى هناك.. نظر حيث تشير.. حدق فى تلك المقتربة من خلف زوجها.. انعقدت نظراته بالدهشة.. نهض بهدوء مصافحاً.. الدماء الهاربة أحالت وجه السيدة إلى الصفرة والعروس تتكلم برنة ممتزجة بالفخر:
"زميلتى صفاء فى الشركة.. عريسى الدكتور عارف أخصائى أمراض النساء والتوليد"
برودة الثلج سرت من يدها إلى عقله وهو يصافحها.. هامساً لنفسه "صفاء.. نعم.. هى نفس الفتاة التى أتتنى منذ شهرين وهى تكاد تختبئ وراء والدتها البدينة"
- دكتور عارف.. قاصدينك فى خدمة
- خير.. أأمرى يا حاجة
تصمت وهى تتبادل النظرات المضطربة مع ابنتها.. ابتسامتى الصغيرة منحتها الثقة فانطلق صوتها مختلجاً: "بنتى صفاء حصلها حادثة وهى صغيرة.. وقعت.. آه وقعت وهى بتلعب السيجة و..."
تصمت واستحثها بنظرات مطمئنة: "سمعنا من كثيرات أنك ممكن تجرى لها عملية ترقيع..."
قلت موفراً جهودها المضنية فى الحديث: متى الزواج؟
- الأسبوع القادم
- بسيطة.. قبلها بيومين تحضر.
- يومين يا دكتور؟
- يومين وكل شئ يكون كالطبيعى.. ولكن تنبهى لابد أن يتم الزفاف خلال اثنين وسبعين ساعة وإلا...
- وإلا.... ربنا يستر يا دكتور
تنسحب يده من مصافحة صفاء، ورنة العروس الممتزجة بفخر ينطلق: "المهندس سامح زوج صفاء يا عارف"
شد على يده مباركاً هامساً: "نحن السابقون وأنتم اللاحقون" قابل ابتسامة سامح الواثقة بابتسامته الواهنة، ابتعد وصفاء تتلفت.. تكاد أن تتعثر فى خطواتها المرتبكة.
على حين بغتة قال العريس:
- صفاء صديقتك من زمان
- لا زميلتى فقط
- تعرفينها جيداً
- لا .. لا.. قليلا ما تحدثنا
أومأ لها برأسه.. التفت نحو الآخرين.. يبحث فى وجوه زملائه الأطباء عن ابتسامة ساخرة قد يجدها فى وجه أحدهم.. لم يجد غير تلك الصور الضبابية.. يحدق فى الوجوه.. سألته العروس عما ألم به.. قبل أن يجيب فوجئ بانتهاء الحفل، والدفوف تزفهما إلى العش، ينهض وركبتاه تخوران.. يتلفت حوله..الجميع حوله كقيد يدفعونه إلى الأمام.. هناك فى العش.. انفض الجميع من حوله.. وجهاً لوجه أمام العروس المرتعدة المطرقة نحو الأرض..
مر وقت طويل وهو يحدق فى الفراغ.. تتقاذفه الأفكار كالكرة انتزعته من صمته بنبراتها المختلجة.. "الباب ما زال مفتوحاً يا عارف"
اتجه نحو الباب.. عابراً نحو الردهة الطويلة.. تأمل مرآة الصالون، منتقلاً بينها وبين شهادة البكالوريوس المعلقة من خلف الزجاج مرت أنامله على عرق الجبين.. بحركة دائرية بطيئة تخللت أنامله شعره المرصع بالبياض.. أغلق الباب وتمدد على الأريكة منتظراً اثنين وسبعين ساعة.