هدف الرغبة الغامض البعيد: علم اللغة
باقر جاسم محمد
أستاذ جامعي
توني كرولي
Tony Crowley
ترجمة: باقر جاسم محمد
سواء أكانت موغلة في القدم أم لا، فإنه ليس بمستطاع الميثولوجيا سوى أن تمتلك أساسا ً تاريخيا ً، لأن الأسطورة نمط من الكلام اصطفاه التاريخ: و ليس من المحتمل أنها تستطيع أن تتطور من ’ طبيعة الأشياء‘.
(رولان بارت، ميثولوجيات)
1. هدف الدراسة
إن السؤال النظري الأول المطروح في محاضرات سوسور(1916) هو من النوع الذي يتحقق عن طريق التجربة من ماهية ما سيؤلف بالدقة هدف الدراسات اللسانية و موضوعها. فما هو، يسأل سوسور، ذلك الشيء الذي تنطلق اللسانيات لتحليله، ما هو ’هدف الدراسة الفعلي في مجموعه الكلي‘؟ وسيبدو الجواب أقرب إلى أن يكون حشوا ً كلاميا ً: إن هدف الدراسة بالنسبة لعلم اللسانيات سيكون اللغة.[ 1 ] و مع ذلك، و كما يشير سوسور، فإن هذا الجواب يثير المشكلات لأنه يفترض مسبقا ً بأن الهدف- و هو اللغة- محدد سلفا ً، و هو معطى يمكن العثور عليه بسهولة. و يؤكد سوسور، على الضد من هذا الفهم، بأنه في هذا النقطة تتميز اللسانيات عن العلوم الأخرى:
العلوم الأخرى مزودة بأهداف دراساتها مقدما ً، و هي التي يجري تمحيصها بعد ذلك من مختلف وجهات النظر. و لا شيء يشبه ذلك في حالة اللسانيات.... فالهدف ليس محددا ً مقدما ً. و الأصح، قد يزعم المرء، أن وجهة النظر المتبناة هي التي تكون الهدف. و الأكثر من ذلك، لا وجود لشيء لكي يخبرنا مقدما ً فيما إذا كانت إحدى طرق النظر إلى الموضوع هذه هي سابقة أو أعظم قيمة و نفعا ً بالمقارنة مع أية طريقة أخرى.
( سوسور 1983: 8)
إن التمييز المثبت هنا بين اللسانيات و العلوم الأخرى هو في الحقيقة شديد الالتباس لأن عليها ( العلوم الأخرى) أيضا ً أن تجد أهدافها فقط بوساطة’ وجهات النظر‘ أو النظريات. و الثورات التي حدثت في تاريخ علوم بعينها تشهد على مثل هذه النظرية – فهي تنوء تحت حملها الثقيل من أعراف أهدافها و قوانينها. بيد أنه من الصحيح أيضا ً أن لعلم اللسانيات مشكلات معينة مع هدفه و لن يكون إفراطا ً في القول أن نزعم بأن هدف المحاضرات الأساسي هو إيجاد الحل لمثل تلك المشكلات. فالرغبة المعلنة هو إزالة العوائق الزائفة من أجل أن يكون الهدف قابلا ً لأن يُـفهم و يُـرى في ضوء مشرق. و السبب من وراء هذا المشروع هو نفاد صبر سوسور مع ما كان يراه على أنه قناعة سابقة للعلم في فرع دراسة اللغة الذي خدم فيه فترة تدريبه. فلكي تعمل في هذه التقاليد ، اشتكى سوسور، فسيكون محتوما ً عليك مواجهة’ الصعوبة العامة المتمثلة في كتابة أية عشرة أسطر ذات طبيعة قابلة للفهم المشترك و مرتبطة بالوقائع اللسانية‘. من هنا كانت الضرورة العملية لتأشير ’ عدم الملاءمة المطلق لجهاز المفاهيم السائد، و الحاجة إلى الإصلاح، و لتبيان ما هو نوع الهدف الذي تكونه اللغة عموما ً‘(سوسور 1964: 93).
إن مثل هذا الرفض البغيض إلى النفس لعمله المبكر و للتقاليد التي أُقـِرَ بذلك العمل في سياقها يمكن أن يعزى إلى حقيقة أن هذه التقاليد قد كانت الأولى التي زعمت لنفسها غطاء علم اللغة. و نظرا ً لكون إحدى غرائب دراسة علم اللغة ، في الواقع، في فترة ما بعد عصر التنوير أنه لم يظهر للوجود علم واحد بل علمان. الأول الذي ظهر في أوائل القرن التاسع عشر و حتى منتصفه، و كان سيعرف باسم فقه اللغة المقارن comparative philology و كان مبنيا ً على البديهية القائلة بأن ’ اللغة، مثلها في ذلك مثل أي نتاج للثقافة الإنسانية، تقع ضمن اختصاص التاريخ‘( بول1888: xxi). و الثاني الذي ظهر في أوائل المرحلة الحديثة و عمده أول منظريه ( سوسور) باسم اللسانيات العامة، عَكـََسَ هذا المبدأ فاستبعد التاريخ لصالح دراسة تزامنية للغة:
الدراسـة التعاقبية( diachronic study) و الدراسـة التزامنية(synchronic study) للغة تتعارضان في كل الوجوه. فمثلا ً، لنبدأ بالواقعة الأكثر وضوحا ً، إنهما ليستا على الدرجة نفسها من الأهمية. فمن الواضح بأن وجهة النظر التزامنية تحوز الأسبقية على التعاقبية، لأن مجتمع مستعملي اللغة يعدها الواقع الذي ليس من واقع سواه. و يصح الشيء نفسه بالنسبة للساني. فإذا ما أخذ بوجهة النظر التعاقبية، فهو لم يعد يفحص اللغة و لكنه يفحص سلسلة من الأحداث التي تقيـِّدها و تعدِّلها.
( سوسور1983: 89)
و وجهات النظر النظرية و المنهجية لكلا هذين العلمين المتنافسين قد قورنت و جرت الموازنة بينهما، و أي تأمل للحظة حول التاريخ العقلي الحديث سيظهر أيهما كان المنتصر في المعركة من أجل مكانة العلم الموثوق في اللغة. و العادة الساذجة التي رددت فيها كالببغاء كثير من الكتب الاستهلالية( و بعضها ليست بتلك الدرجة من النزعة الاستهلالية) المعتقدات بأن سوسور هو أول من فكر باعتباطية العلامة، أو أنه أول من كان مهتما ً بالطبيعة النسقية للعلامات systematic nature of signs للعلامات، أو أ نـه أول مـن تصور دراسة العلامات على أنها حقـل للمعرفة محتمل بحد ذاته، تلك العادة الساذجة هي البينة العظيمة الأهمية التي أدت إلى انتصار الثاني من الخطابين حول اللغة.
و على أية حال، فسيكون أحد أهداف هذا الفصل أن يتحدى هذا الانتصار بالكشف عن العنف الاستطرادي الذي تم بوساطته تحقيق ذلك الانتصار، و من خلال الرجوع إلى مشكلة اللغة و التاريخ. و ستكون المهمة هي أن نظهر أنماط القمع و الإخضاع الضرورية لمد علم اللغة الجديد و هدفه الذي عـُثِـر عليه حديثا ً بأسباب الحياة، و أن نفحص حياده المزعوم. إن العودة إلى مشكلة اللغة و علاقتها بالتاريخ لن تكون، على أية حال، عملية رجوع للخلف إلى التوكيد الشكلي التاريخي الذي جسد خصائصَها الأساسية أَتباع ُ المنهج المقارن، و لكن إلى مفهوم للعلاقة الجوهرية بين اللغة و التاريخ، تلك العلاقة التي لاحظها سوسور في الواقع، و لكنه استبعدها نظريا ً. و برغم ذلك، فقبل أن نشرع بعملية فحص التقابل الأساسي الذي أستبعد بموجبه التاريخ، سيكون من المهم أن نفحص عمليات التقابل و الاستبعاد الأخرى التي كشف سوسور بوساطتها الهدف المحير. و من ثم ستتم عملية تأشير الخطاب العملي الآمر الذي مكنه من أًن ينهي المحاضرات بجزم متفائل و واثق من نفسه بأن ’ الهدف الحقيقي الوحيد في دراسة اللسانيات هو الاهتمام باللغة بحد ذاتها و من أجلها‘.
2. اللغة: هدف الميثولوجيا
إنها لمفارقة، من وجهة نظر الأهمية التي يوليها سوسور للعلم الذي يدرس دور العلامات بوصفها جزءا ً من الحياة الاجتماعية، و لدراسة اللغة بوصفها مثالا ً لـه، أن يبدأ تقسيمه للخطاب بادعاء حول اللغة استثنائي ظاهريا ً. و بعد الابتداء بربط ’ منزلة اللغة language في وقائع الكلام‘، و فك ارتباط باللغة مفهوما ً مؤسسيا ً langue و الكلام parole يستمر بالتوكيد:
ينبغي ملاحظة بأننا قد عرفنا المسائل الفكرية، و ليس الكلمات. و استنادا ً إلى ذلك فإن الفروق التي تم تأسيسها ليست متأثرة بحقيقة أن مصطلحات غامضة بعينها تفتقر إلى مرادفات محددة في اللغات الأخرى. ... ليس هناك من كلمة تتطابق تماما ً مع أي من الأفكار العامة التي حاولنا تفصيل مواصفاتها في أعلاه. و إنه لخطأ منهجي أن ننطلق من كلمات لإقامة تعريفات للمسائل الفكرية.
( سوسور 1983: 14)
هذا زعم معرفي حاسم وجدير بالملاحظة لأنه يضع سوسور على نحو راسخ في معسكر أولئك الذين يبدون الارتياب تجاه اللغة، إنه ينطوي على خشية من التشوش المحتمل الذي تسببه الكلمات، و تفضيل للصلابة المعول عليها في المسائل الفكرية. و هذا تقليد حفظه أتباعه بثبات و سجلوه في وجهة نظر تجريبية( أمبريقية) في العلم و هو بذلك زعم يكوِّن، بالدرجة الأولى، كل ما هو فريد و متميز يلتقي فيه سوسور معهم مصادفة. و مع ذلك فإن هذا التوكيد يتعلق على نحو واضح بمخاوف كبار التجريبيين كما تجسدت في تذمر بيكون Bacon من أن ’ الكلمات ترغم و تهيمن بوضوح على الفهم، و تحوِّل الكل إلى الإرباك و التشوش‘، و هو كذلك زعم يتعلق بهدفه في الكشف عن ’ المظاهر الكاذبة التي تفرضها علينا الكلمات، التي تم تشكيلها و تطبيقها استنادا ً إلى تصورات و قدرات نمط عامي و مبتذل‘( بيكون1857: 164؛ 1861: 134). و من الواضح أن ملاحظة سوسور تضاعف من الرغبة في تجنب الكلمات و الاعتماد على المسائل الفكرية، و هي تحذير لتجنب أحد أوجه نقص الكلمات عند لوك- ’ حيث لا تكون دلالة الكلمة هي نفسها الجوهر الحقيقي للشيء‘، و كذلك ما يستتبعها من مشكلات لأولئك الذين يصممون أفكارهم على الكلمات أكثر من تصميمهم إياها على المسائل الفكرية ‘ و بذلك ’... يتكلمون بضعة كلمات لا تزيد عما تفعله الببغاوات، فقط لأنهم قد تعلموها، و لأنهم قد ألفوا تلك الأصوات‘( لوك1690: الكتاب الثالث، الفصل 9، الفقرة5، الكتاب الثالث، الفصل 2، الفقرة7).
و على أية حال، و برغم أن زعم سوسور يبدو عند النظرة الأولى أكثر تفردا ً إلا أنه في الحقيقة منسجم تماما ً مع مشروع المحاضرات. و أحد مزاعمه الأخرى ستخدمنا في تبيان سبب ذلك. إنه يؤكد على أن الادعاء بأن اللغة عملية تسمية، و أنها’ قائمة من المصطلحات تتطابق مع قائمة من الأفكار‘، ليس صحيحا ً. بالنسبة لسوسور، اللغة هي بنية نظامية لقوالب و مفاهيم راسخة و كاملة، و هي بذلك تصبح أكثر من كونها وسيلة نسمي بوساطتها أشياء العالم. إنها في الحقيقة، و هو بذلك يتابع لوك، نظام ترميز و تمثيل لا يتضمن بالضرورة العالم، على فرض وجوده. و الآن فإن الدلالة المعرفية الحاسمة لهذا التمييز، و ما لها من دور مركزي في عملية فهم مشروع سوسور، تكمن في رفض ثنائية اللغة و العالم المسلم بها عموما ً. و كما لاحظنا توا ً رفض سوسور تفسيرات اللغة المذكورة آنفا ً التي نظرت إلى اللغة على أنها أداة يمكن للوعي أن يسمي بوساطتها أشياء العالم السابقة للسان. و لكن قطيعته الجذرية تذهب إلى أبعد من هذا في الزعم بأن العالم واللغة ليسا نظامين متميزين للكينونة و لكنها يخصان النظام الوجودي عينه. و ترقى القطيعة إلى هذا: إن سوسور قد تصوَّر اللغة بوصفها شيئا ً ما يمكن العثور عليه في عالم الأشياء الواقعية الأخرى. و بالطبع فأن اللغة بحد ذاتها، مثلها في ذلك مثل الأشياء الدنيوية، قد أصبحت مفتوحة لمناهج الدراسة العلمية الموضوعية. و هي ما أن تتحررَ من مكانتها بوصفها ظلا ً شاحبا ً لعالم الأشياء و تتحولَ إلى واحدة من تلك الأشياء، حتى تتمكن من الالتحاق بتلك الأشياء و التمتع بمكانة الهدف العلمي ذات الامتيازات. و من هنا كان المعنى الكامل لادعاء سوسور المذكور سابقا ً بأن تكون لدينا ’ مسائل فكرية معرَّفة و ليس كلمات‘ في القسم المبكر من المحاضرات. إذ ما أن نتأكد بأننا لم نعد نتعامل مع الكلمات، التي سيكون من المحال، من خلالها، أن نقدم تعريفات للأشياء لأنها ليست بالضرورة متعلقة بعالم الأشياء، حتى نكون على ثقة بأننا قد حَّّلنا انتباهنا إلى واحدة من المسائل الفكرية الأكثر صدقية- اللغة نفسها- و على هذا النحو فإننا في حقل العلم أكثر من كوننا في حقل الكلمات، الكلمات، الكلمات.
إن تحويل اللغة من مكانها بوصفها مجرد مرآة عاكسة فقيرة (أو حتى تامة) للعالم إلى مكان داخل العالم كانت لـه نتائج مهمة. ليس أقلها إنكار مركزية النشاط الإنساني في دراسة اللغة، فما أن تعتبر اللغة مادية بوصفها شيئا ً، حتى تفقد جذورها في الممارسة، و في الجهد الإنساني العملي. و كما أشار لوكاش Lukācs ، متابعا ً ماركس، فإن أساس مثل هذا الاعتبار المادي للغة هو أن:
أي علاقة ما بين الناس تتخذ صفة شيء و هي بذلك تكتسب ’ موضوعية وهمية‘، و استقلالا ً يبدو موغلا ً في العقلانية و مقبولا ً من الكل لدرجة تخفي كل أثر لطبيعتها الجوهرية: العلاقة بين الناس.
( لوكاش1971: 83)
و ما أن تصبح اللغة شيئا ً، حتى يـُـنْبـَذ َ دورها بوصفها أحد العوامل المؤسسة للكينونة الاجتماعية الإنسانية لصالح الموضوعية، و الاستقلال، و العقلانية. إنها تصبح ما وصفه فولوسينوف Volosinov بالكيان ’ المجرد-الموضوعي‘ الذي تكون خصائصه المميزة المهيمنة هي أنه غير قابل للتغيير، مغلق على ذاته، محكوم بالقاعدة على نحو مقرر سلفا ً، و متطابق مع ذاته. و ينبغي أن يكون واضحا ً من هذا الشرح بأنه ما أن وصف سوسور اللغة ’ بحد ذاتها، و من أجلها‘ على أنها شيء، و ما أن عثر على هدف اللسانيات، إذن يلزم منطقيا ً التمييز الوجودي الحاسم بين مفهومي اللغة المؤسسي langue و الكلام parole، بين الشيء نفسه و استعمالاته التي وُضِـعَ لها. و الأكثر من ذلك أن التنظيم الذي يضع مفهوم اللغة فوق الكلام هو أيضا ً خطوة منطقية لأنه بالنسبة للباحث العلمي المهتم بدراسة أشياء العالم، فإن الشرط الضروري في التنظير لها و دراستها هو درجة معينة من الثبات و السكون أكثر منه تدفق متواصل للفعالية.
و لهذا السبب أيضا ً فقد فـُضِلت الدراسة التزامنية على شريكتها التعاقبية بما أن الثبات و عدم التغير هما ترتيبان آنيان. و لكن و تماما ً كما هو الحال مع التمييز المبني على ثنائية اللغة- الكلام و شرطه الضروري ، و مع اعتبار اللغة مادية الذين قد أقيما على أساس الكبح المنهجي و الاصطلاحي للفعالية الإنسانية، و بطريقة مماثلة كان لهذا التمييز السوسوري اًًلآخر مبدؤه الأساسي في عملية إقصاء و استبعاد صارمة. و الأفق المستبعد ضرورة في هذا التمييز هو بالطبع التاريخ لأنه قد نـُظِـر إليه أيضا ً على أنه قوة تحرف و تثير المشكلات و تمنع الثبات الضروري للدراسة العلمية. و الدراسة التزامنية تتطلب منطقيا ً السكون و الاستقرار و بذلك يمكن القول أنه ’ على الرغم من أن كل لغة تؤلف نظاما ً مغلقا ً فكلها تفترض مسبقا ً مبادئ ثابتة بعينها‘. و على أية حال، و برغم أن التاريخ قد أستبعد ظاهريا ً هنا، فإنه يبقى كامنا ً في حقيقة الأمر في اللب الأساسي لأية محاولة في حقل اللسانيات التزامنية. و هذا ينكشف في تفحص ادعاء سوسور بأن ’ هدف اللسانيات التزامنية العامة هو إنشاء مبادئ جوهرية لأي نظام ذي خصوصية، و للوقائع التي تؤلف أية حالة لسانية‘. هنالك تحول جلي للتوكيد هنا على هذا الكيان الغريب، النظام ذي الخصوصية. و من الواضح أن هذا نظام يكون لـه وقته الخاص، و حدوده التاريخية التي تبدو بارزة من داخله. و مرة أخرى يبدو الأمر كما لو أن هذا رفض للتاريخ لأنه قد زُعِـمَ بأن النظام ذي الخصوصية، الحالة اللسانية،’ يحتل ليس نقطة في الزمان، و لكن فترة من الوقت ذات طول متباين، وهي الفترة التي كان خلالها مجمل التغييرات الحاصلة في الحد الأدنى. إنها قد تكون عشر سنوات، جيلا ً، قرنا ً، و حتى أكثر من ذلك‘ ( سوسور1983: 99). و على أية حال فهذا ليس رفضا ً للتاريخ يمكن أن تكون لـه أية قوة منطقية بسبب من أنه، و كما يستمر سوسور في التحديد، التاريخ ، صيرورة التغير التاريخي و الاختلاف، هو ما يكمن في قلب كل لغة:
إن الحالة المطلقة تـُعرَّف بوساطة الافتقار إلى التغيير و انعدامه. و لكن بما أن اللغات تتغير دائما ً، مهما كانت ضآلة ذلك، فإن دراسة الحالة اللسانية يرقى في الممارسة إلى درجة إهمال التغييرات غير المهمة. و يعمل المختصون بالرياضيات على هذه الشاكلة عندما يهملون الكسور الصغيرة جدا ً لغرض محدد، مثل الحسابات التفاضلية اللوغارثمية.
( نفسه: 100)
و التاريخ على الرغم من الاعتراف الواضح بكونه مركزيا ً،’ و ذلك لأن اللغات تتغير دائما ً‘ كان ينبغي أن يُستبَـعد قسريا ً،’ و يـُهمل ‘ و ذلك من أجل الحصول على الدقة الرياضية المطلوبة في العلم. و على أية حال، فالانهماك في عملية العمى المدروسة هذه إنما هو اعتراف بأن الدراسة العلمية الشاملة و الكلية المزعومة قد بنيت على أسطورة: ’ الفكرة العامة للحالة اللسانية تكون فقط تقدير تقريبي. ففي اللسانيات السكونية، كما هو الحال في معظم العلوم، لا توصيف و لا شرح ممكنين دونما تبسيط ٍ للمعطيات متفق ٍ مع القواعد العلمية المقررة ‘( نفسه: 100). و حضور التغير التاريخي و صيرورة الشيء مختلفا ً هو، إذن، أمرٌ لا ينكره سوسور و لكنه يُهمَل أو يُـنـَزّل إلى مرتبة ثانوية. و الأكثر من الإقرار بقوة التحول التاريخي في لغة ما هو أنه( سوسور) يجعل من أية حالة محددة للغة ما- كينونتها المعينة- المقياس الذي تتم عملية معايرة التاريخ بوساطته. فالتدفق المتواصل دائما ً للتاريخ يُـنـَزّل إلى مرتبة دنيا لصالح أنظمة سكونية يسمح استبدالها فقط للتاريخ لكي يظهر عاملا ً على نحو آني. مع ذلك فإن مثل هذا التسلسل الاستطرادي يمكن أن يشترى بثمن واحـد فقط هو استبعاد مدروس و إقرار به، وهـو الذي ينسل خارجا ً هنا، إذ يحِـلُ المظهر الخارجي الصارم لإضفاء الصفة العلموية scientificity محل القناع الجذل للميثولوجيا.
إن متطلبات المظهر الخارجي الصارم لإضفاء الصفة العلموية إذن تتقدم مقتحمة بسرعة لفرض الميثولوجيا على اللغة. فالمادة الخام التي عمل عليها اللساني كان يجب تكون متفقة مع منطق الحقل العلمي و ذلك من أجل جعلها على درجة من الثبات كافية للبحث. و مهمة اللساني الكئيبة حينما واجه تباين القوالب في الاختلاف و التشابه اللسانيين تظهر كيف أن نمط المادة التي يعمل عليها الباحث العلمي تقرر في جزء منها الطرق methods - أو ربما الأسطورق mythods - [ 2 ] التي يجب أن تستعمل. و المثال الجيد لفرض النظام العلمي الملفق على مادة اللساني [ على اللغة ] هو صوغ سوسور للمصطلح خاصته ’ التزامني المتميز‘ idiosyncronic للإشارة ليس إلى لغة بعينها فحسب، و لكن أيضا ً إلى اللهجات و إلى الأشكال اللهجية الثانوية. و ذلك لأنه قد أريد لمصطلح ’ التزامني المتميز‘ أن يكون استجابة ً نظرية ً- أو ملفقة ً- لمسألة أن اللغات القومية ليست وحدها فحسب هي التي يمكن أن تـُفهم على أنها أنظمة تزامنية، و لكن أي نظام للغة حقق درجة الثبات المطلوبة. و ما أن يُـفهم بأن اللغات القومية ليست هي وحدها فحسب التي احتفظت بالثبات و القطعية المطلوبين لكي تحوز مكانة مفهوم اللغة المؤسسية langue و ينشر فوقها، حتى يصبح واضحا ً أن اللهجات و الأشكال اللهجية الثانوية ينبغي أيضا ً أن يـُعترف بها بوصفها أنظمة تزامنية متميزة من أجل إعادة فرض بعض نظام الثبات على مستوى الاختلاف القومي الثانوي للغة المتغايرة.
و كون تلك الاختلافات اللسانية قد أنتجت صعوبات عملية هو أمر لا شك فيه. فمثلا ً، يؤكد لساني من العصر الفيكتوري وهو يكافح في مواجهة مشكلة الاختلافات اللهجية بالقول: إذا ما طرح السؤال، ما هي اللهجة ؟ فلا تعريف مناسب أو علمي يمكن أن يقدم. و سيكون هذا كافيا ً لكل الأغراض العملية،. اللغة هي لهجة كبيرة، و اللهجة هي لغة صغيرة‘( مايكلجون1891: 7). و بالرغم من أن هذا التعريف هو في الحقيقة قريب تماما ً من ذلك الذي قدمه سوسور إلا أنه لا يمتلك شيئا ً من ذلك الانتشار و الذيوع العلمي الذي حققه تأسيس( سوسور) ’ للنظام التزامني المتميز‘. و برغم ذلك، فإن التغاير اللساني سبب صعوبات جمة لأنه، و كما علق وتني Whitney، ’ بمعنى صائب و يمكن الدفاع عنه، كلُ فرد يتكلم لغة مختلفة عما يتكلمه الآخرون كافة‘. و لكل المتحدثين صيغهم المحددة الخاصة بكل منهم في التلفظ ، و المفردات، و النحو، لأن: ’ أشكال مفاهيم كل شخص، ممثلة في استعماله الكلمات، مختلفة عن تلك التي لأي شخص آخر؛ فلكل خصوصية شخصيته، و معرفته، و تربيته، ومشاعره، التي تدخل في هذا الاختلاف.‘( ويتني 1800: 154). و اللسانيون البريطانيون في أوائل القرن العشرين، و هم قد كانوا ما زالوا يعملون ضمن تراث ليس سوسوريا ً، قد لاحظوا مثل هذه الاختلافات:
لا يتلفظ شخصان على نحو متشابه تماما ً. و الاختلاف قد ينشأ من جملة أسباب مختلفة، من مثل السبب المحلي، و المؤثرات المبكرة، و البيئة الاجتماعية و الخصوصية الفردية و ما أشبه.
( جونز1909: 1)
و الاختلافات اللسانية الأخرى المنسوبة إلى ’ الاختلافات في الاهتمامات و المكانة الوظيفية،‘ و ’ الاختلافات في الطبقة الاجتماعية،‘ و’ الاختلافات في المكان و مقر السكن،‘ و
’ الاختلافات في العمر،‘ و ’ الاختلافات تبعا ً للموضة... و حتى للجنس‘ ( وايلد1907: 42). و بذلك، و في مواجهة هذا الكم الكبير من التغاير فإن الإمكانية الوحيدة التي رآها اللسانيون متاحة لهم هي أن يرتبوا الأمور منهجياً: أن يجعلوا الاختلافات متجانسة بإرجاع مجموعات معينة منها إلى ’ النظم التزامنية المتميزة‘ التي صاغها سوسور نظريا ً و بالتالي أن ينتجوا نظاما ً طبيعيا ً في المجموع الكلي’ الذي لا يسلم نفسه لأي تصنيف آخـر‘( سوسور 1983: 10). و كذلك، طبعا ً، فإن احتمالات مثل هذه المنهجية لم تكن مقصورة على دراسة اللغة لوحدها و هي ينبغي أن يجري توسيعها لتشمل مستعملي اللغة. إن الكفاح من أجل النظام، و الثبات، و التجانس الذي قد أدى إلى مثل هذه النتائج المتميزة على اختلافات اللغة قد أدى أيضا ً إلى فرض مجموعة متكلمين نهائية و حاسمة، و هي مرتبطة ب’ نظام تزامني متميز‘ بعينه، و يمكن إدراكها بوصفها مجموعة اجتماعية مميزة. و المثال الجيد على نتائج مثل هذه المنهجية قد تمت البرهنة عليه في عمل وايلد المهم في اللسانيات البريطانية، وهو ما جرى صوغه دون الرجوع إلى نص سوسور، حول عملية ’ تغاير اللهجة‘ و دور ’ الجماعات الكلامية‘ فيها. إنه يناقش بأن:
إذا ما عرَّفنا الجماعة الكلامية على أنها مجموعة الكائنات البشرية التي يكون بينها التفاعل أساسيا ًو تفصيليا ً و عميقا ً إلى درجة أن كلامهم يكون من الناحية العملية متجانسا ً، إذن فمتى ما عثرنا اختلافات كلامية جديرة بالاعتبار يجب أن نفترض الكثرة في عدد الجماعات، و سيتبع ذلك أنه سيكون لدينا عدد من اللهجات مساو لعدد الجماعات.
( وايلد 1972: 47)
و هذا لن يؤدي فقط إلى الشروع ببناء الأساس العقلي للكثير من اللسانيات الاجتماعية الحديثة modern sociolinguistics، و لكنه ُ يهيئ أيضا ً الحلبة لظهور ذلـك البطل اللساني الحديث، المتكلم- السامع المثالي :
إن النظرية اللسانية تفهم ابتداء ً مع تصور متكلم- سامع مثالي في جماعة لسانية متجانسة تماما ً، و هو الذي يعرف لغته على نحو كامل غير متأثر بمثل تلك الشروط النحوية التي لا صلة لها بالموضوع بوصفها حدود الذاكرة، و ارتباكات ملهية، و تحويلات في الانتباه و الاهتمام، و الأخطاء ( سواء العشوائية أو التي تشكل صفة مميزة) في تطبيق معرفته للغة في الأداء.
( تشومسكي 1965: 14)
من المحال في مقدمة تشومسكي المنطقية هذه أن ندرك نمط الإقصاء و الاختزال المألوف ذلك الذي حصل عند سوسور. و لكن أليست هذه هي الحالة التي كان فيها جونز و وايلد، جنبا ً إلى جنب ٍ مع المنظرين اللسانيين الاجتماعيين، على وعي بمشكلات الاختلاف اللساني و حاولوا إدماجها و تجسيدها في صلب دراساتهم؟ و قد يبدو من النظرة الأولى أن هذه هي الحالة و لكن النظر الفاحص الأكثر تدقيقا ً سيكشف عمليات التنظيم الاختزالية المألوفة. لأن الأصح من عملية ملاحظة مثل هذا التغاير اللساني و الصعوبات التي يضعها أمام أية محاولات لتنظيم اللغة، أن يقوم كل من جونز و وايلد و أتباعهما المتأخرين بمجرد إدماجهما و تجسيدهما بتوسيع مجموعة ’ الأنظمة التزامنية المتميزة‘. و جنبا ً إلى جنب مع اللغة و اللهجة القوميتين قام اللساني بصوغ أنظمة أخرى: اللهجة الاجتماعية sociolect ، و اللهجة الفردية idiolect ، و السجل register و الأسلوب السياقي con****ual style . و بهذه الطريقة ما كان لشيء أن يترك خارج الشبكة النظامية الشاملة لجميع القضايا في اللسانيات. فلا شيء يمكن أن يكون متغايرا ً عن سواه أكثر من كونه لا يمتلك مكانا ً في نظام متناسق من هذا النوع أو ذاك. و لا شيء استطاع أن يعطل أسطورة الحالة السكونية في اللغة التي هي شرط لازم للصفة العلمية في دراستها.
الاهتمام الأساسي للجزء الأول من هذه المقالة، على أية حال، لم يكن مع فروق سوسور المألوفة بين كل من مفهومي اللغة المؤسسي langue و الأداء الكلامي parole ، ولا مع التزامنية synchrony و التعاقبية diachrony . بل سيكون الاهتمام الأساسي مع الأمر الأقل شيوعا ً، و لكن بالتأكيد لـه الأهمية الحاسمة نفسها، أي مع التنظيم ذي الامتياز للسانيات ’الداخلية‘ و ’ الخارجية ‘. إنه هذا التراتب السوسوري ذي الامتياز هو ما سيكون هدف هذه المقالة الذي تفسد نظامه عملية الانقلاب و التدوين. و النتيجة ستكون أن نعيد التاريخ إلى مكانته المركزية في دراسة اللغة و أن نلقي مزيدا ً من الشك حول إمكانات ’ علم اللغة‘.
و من الواضح إن منح الامتيازات التراتبية للسانيات ’ الداخلية‘ على ’ الخارجية‘ ضروري لمهمة تحديد هدف اللسانيات. يناقش سوسور بأن:
تثيرالقضايا اللسانية اهتمام كل من يعملون مع النصوص- المؤرخون، و المشتغلون بفقه اللغة، الخ. و الأمر الأكثر وضوحا ً هو أهمية اللسانيات للثقافة العامة: ففي حياة الأفراد و حياة المجتمعات، يكون الكلام أكثر أهمية من أي شيء آخر. و أن اللسانيات ينبغي أن تستمر في كونها حق مقصور على بضعة متخصصين سوف يكون أمرا ً لا مجال للتفكير فيه- فكل فرد مـَعـْنيٌ به بطريقة أو بأخرى.
( سوسور 1983: 7)
و إذا ما غدت أهمية اللغة أمرا ً مقررا ً، و في موازاة مع تحذير بيكون بأنه ’ لم يقم أي موضوع آخر برعاية أفكار عامة منافية للعقل أكثر، و انحيازات أكثر، و أوهام أكثر، أو نزوات خالية أكثر‘( نفسه.) فإن النتيجة اللاحقة أن من الضروري أن نعلن بأن لا مجال للبحث في العوامل الدخيلة و غير الجوهرية في الدراسة. و من هنا ينشأ التفريق بين اللسانيات ’ الداخلية‘ ( الدراسة العلمية الصحيحة للغة) و اللسانيات ’ الخارجية‘( التي تبحث في العوامل التي لها تأثير في اللغة، و لكنها عوامل ليست أساسية). فالأمر، كما يناقش سوسور، مسألة التحديد الدقيق و الإقصاء: ’ يفترض تعريفي للغة مسبقا ً استبعاد كل شيء خارج منظمتها و نسقها- و باختصار كل ما هو معروف بوصفه لسانيات خارجية‘( نفسه: 20). و مع ذلك، و كما يشير هو، فإنه استبعاد يبدو كأنه مضاد للحدس و البديهة ما دامت ’ اللسانيات الخارجية برغم ذلك مهتمة بقضايا مهمة، فهذه القضايا تتطلب الانتباه حينما يقارب المرء دراسة اللغة‘. و مع ذلك فإن عملية الإقصاء و الرفض المدروس لمثل هذه ’ القضايا المهمة‘ مطلوبة قبل أن يصبح بالإمكان السماح للعلم الجديد بالظهور في مجده الكامل.
و من المهم أن نحدد تماما ً ما الذي تم إقصاؤه في تنزيل ’ اللسانيات الخارجية‘ إلى مرتبة أدنى، و ما هي ’ القضايا المهمة‘ التي صُـدت حتى لا يكون لها مكانٌ في دراسة اللغة. فأولاً، ’ هناك كل الصلات التي ترتبط بها اللسانيات مع علم الأعراق البشرية ethnology. فهذه هي كل العلاقات التي قد توجد بين تاريخ لغة ما و تاريخ عنصر ما أو حضارة ما.‘ و ثانيا ً في صلب عملية تنظيم الموضوعات التي يجب إسكاتها هناك ’ العلاقات بين اللغات و التاريخ السياسي‘. و الأمثلة هي ’ الحوادث التاريخية الكبيرة من مثل الغزو الروماني،[3] ، ’ عملية الاستعمار‘، ’ السياسات الداخلية للبلاد‘ ثم الزعم بأن ’ الحالات المتقدمة للحضارة تفضل التطورات في أنماط لغوية خاصة محددة ( اللغة القانونية، المصطلحات العلمية، الخ). و القضية المهمة الثالثة التي استبعدت هي حقيقة أن ’ اللغة تملك روابط مع مؤسسات من كل نوع: الكنيسة، المدرسة،الخ‘. و أخيرا ً فإن العالم الحق ينبغي عليه أن يتجاهل ’ كل شيء يتعلق بالتوسع الجغرافي للغات و بتشظيها إلى لهجات‘( نفسه: 21-2).
إن كون مثل عملية الإقصاء هذه ضرورية بالنسبة لمشروع سوسور هو ما يجب أن يكون واضحا ً، كذا هو الحال في حقيقة أنه لم يرفض كل ما يقع في نطاق ’ اللسانيات الخارجية‘ بوصفه عديم الفائدة أو غير مثير للاهتمام. و ما سيُـفند هنا، على أية حال، هو موثوقية عملية الإقصاء المحددة هذه. و هذا ما سيأخذ شكل تحد ٍٍ لسوسور بالعمل على أساس الاعتقاد بأنه صادق في كلامه، و محاولة توضيح أهمية اللغة ’ في حياة الأفراد و المجتمعات‘ التي قد يكون من المستحسن عدَّها ’ عاملا ً ذا أهمية أعظم من أي أمر آخر‘. و سيكون الأمر زعما ً بأن ’ القضايا المهمة‘ في ’ اللسانيات الخارجية ‘ التي ’ تتطلب الانتباه حينما يقارب المرء دراسة اللغة‘، من مثل اللغة و علاقتها بتاريخ عنصر ما أو حضارة ما، و بالتاريخ السياسي، و بالمؤسسات و بالجغرافية البشرية، إنما هي القضايا عينها التي يمكن لنا، و من خلالها، أن نظل في منطقة دراسة اللغة. فالمسألة ليست أننا يجب أن نركز على الوجوه ’ الخارجية‘ أكثر من العوامل ’ الداخلية‘ التي حددها سوسور، و لكن على أننا يجب أن نفهم تلك العوامل- التي أقصيت بقسوة بالغة- على أنها تكوِّن هدف دراسة اللغة. و الأحرى من عدِّها عوامل إضافية أو ملحقة، هو القول بأنها تشكل بالدقة ما يقدم لنا شيئا ً للدراسة في المقام الأول. فهي، إذن، ليست أشياء ملحقة و غير إلزامية، من تلك التي يختارها اللساني للدراسة بحثا ً عن القطيعة مع العلموية الشكلية formal scientificity، إنما هـي المقومات عينها التي تمكننا مـن أن نـبصر و نسمع الحدود المجردة لما يمكن أن نطلق عليه أوليا ً اسم ’ هدف اللسانيات‘. لأنه ما أن نزيح جانبا ً، كما يتطلب ذلك منا مشروع سوسور، العوامل ’ الخارجية‘ من دراسة اللغة، حتى لا يعود لدينا سوى أقل القليل للكلام حوله. إذا ما كانت صعوبات مقاربة التحول التاريخي الكامل للغة قد استبعدت منهجيا ً مقدما ً، إذن فنحن متروكون دونما شيء سوى النزعة الشكلية ’ المختزلة‘ و’ العلمية‘.
3. تاريخ أبكم، لغة ناطقة و أساطير أخرى للرغبة
لقد كانت المناظرة حتى الآن أن ’ علم اللغة‘ خاصة سوسور قد جرى تسهيله حصرا ً بوساطة سلسلة من عمليات التفريد و التمييز و الحظر التي أحدثت الأساطير المطواعة المطلوبة من اللساني. و علاوة على ذلك أنها أيضا ً الحالة التي ترى بأن الدراسة التاريخية للغة- في الأقل كما مورست لزمن طويل في بريطانيا في القرن التاسع عشر و أوائل القرن العشرين- كانت ذات نزعة أسطورية. لذلك سيكون هدف هذا القسم توضيح الاهتمامات الأسطورية ’ لعلم اللغة‘ الآخر في هذه المرحلة. و مرة أخرى ستكون حدود الخطاب المسموح به في العلم الجديد ذات أهمية مركزية: سكوته و نطقه، ما أنكره و ما عبّر عنه كرها ً.
إن ’ علم اللغة ‘، يناقش ماكس مولر في العام 1861، ’ هو علم ذو تاريخ حديث تماما ً،. و كان ( مولر) يشير بالطبع إلى فقه اللغة المقارن comparative philology و دخوله المتأخر إلى الحياة العقلية البريطانية:
إن أسمه بحد ذاته لم يستقر، و العنوانات المختلفة التي أعطيت لـه في إنجلترا، و فرنسا، و ألمانيا غامضة و متباينة إلى درجة أنها أدت إلى أكثر الأفكار اختلاطا ً بين عموم الناس بخصوص الهدف الحقيقي للعلم الجديد. نسمع عنه على أنه فقه اللغة المقارن، الدراسة العلمية لإصول الألفاظ ، علم الصوت الوظيفي phonology و علم اللسان glossology. و في فرنسا، حصل على أسم ملائم و لكن فيه شيء من عدم الفصاحة وهو linguistique . و إذا كان علينا أن نمتلك اسما ً لعلمنا هذا، فربما نشتقه أما من mythos ، الكلمة، أو من logos ، الكلام. و لكن العنوان الاصطلاحي
’الميثولوجيا‘ هو مصطلح مشغول سابقا ً.
( مولر1862: 27)
و على الرغم من اعتراض مولر على تسمية ’ العلم‘ الجديد، فإن مصطلح الميثولوجيا قد عُـدَّ احتمالا ً واردا ً، و حقيقة كونه قد أفرد لخطاب آخر هي فقط ما حال دون أن يصبح مقبولا ً (’الميثولوجيا‘، وهو مصطلح يشير إلى حقل معرفي يبحث في الأساطير، كان اشتقاقا ً قد صيغ في ثلاثينيات القرن التاسع عشر). في الحقيقة، كان يمكن لمصطلح ’ميثولوجيا‘ أن يكون أسما ً مشوقا ً ل ’ علم اللغة‘ الجديد، و ذلك ليس لأسباب تتعلق بالأصل اللفظي لـه. فدراسة اللغة كان يمكن لها أن تكون حقا ً دراسة للأساطير بالمعنى الإغريقي ل’ أي شيء يُـقدَم بوساطة كلام الفم‘؛ و لكنه أيضا ً دراسة للأساطير بمعنى الخطابات القوية التي تحقق تأثيرات معينة في الحقل الاجتماعي. لذلك فإن الميثولوجيا بالمعنى الذي أَستعـَمـِله هنا ليس هو المعنى الإغريقي المتعلق بالحكاية الخرافية الشعرية الذي يوضع بالمقارنة مع الرواية التاريخية، و هي مقارنة تنحرف باتجاه تلك التي بين الزيف و الحقيقة، و لكنه يتعلق باستعمال بارت لـه بمعنى ’ نمط من الكلام اصطفاه التاريخ‘. كان ينبغي البرهنة على صحة ما ذهب إليه مولر: إذ ’ الميثولوجيا‘ مصطلح يمكن أن يكون أفضل من المصطلح الملائم ’ اللسانيات linguistique‘ على أساس أن الأخير يقترح دراسة تهتم حصرا ً باللغة بينما السابق يقترح دراسة للغة في علاقتها بالخطابات الأخرى التي تكون تأثيراتها ملموسة ضمن الحياة الاجتماعية.
و كان أحد موروثات الفترة الرومانتيكية الأسطورية الأكثر أهمية هو ذلك الذي يثبت اللغة بوصفها مشهدا ً للتاريخ. و هذا، مضافا ً إلى التوكيد التاريخي الشكلي لأتباع نزعة المقارنة، أعطى للغة أهمية كبرى في المناقشات الثقافية البريطانية في القرن التاسع عشر. فمن جهة كانت الفكرة القائلة بأن التوضيح التاريخي الحق يمكن أن يمنح اللغة نظامها الخاص، و ترابطها المنطقي، و تواصلها؛ و من جهة أخرى كان هناك الإحساس بأن اللغة نفسها يمكن أن تحل مشكلات التاريخ. صرح دافيس Davies، الذي كان يكتب في محاضر جمعية فقه اللغة في 1855، بأن ’ فقه اللغة الجيد هو إحدى أفضل ما لدينا من وسائل إعلام لتقرير المسائل الغامضة في التاريخ‘(1855: 283). و قد انعكست كلماته في مناقشة جَـي. دبليو. دونالدسن بأن:
يبدو غريبا ً أن أي شيء شديد الغموض و الاعتباطية مثل اللغة ينبغي أن يبقي على قيد الحياة كل البينات الأخرى، و أن يتكلم بتحديد أكبر، حتى في صورته الحديثة المتحولة، و ذلك أكثر من كل المعالم و الآثار الأخرى مهما كانت عظيمة و متينة.
( دونالدسن 1839: 12)
و كانت أهمية هذا الميراث أنه دلَّ على أن اللغة تتراءى مقترحة رابطة مباشرة بالماضي إذ أنه بوساطة اللغة تحدث التاريخ على نحو أكثر فعالية. و بالنسبة للأمة فإن من الطبيعي أن مثل هذه المحادثة مع الماضي كانت حاسمة لأنها أضفت حسا ً بالاستمرارية و الترابط المنطقي على التاريخ القومي. و يزيد دونالدسن المسألة وضوحا ً حينما يجادل في النص نفسه بأنه:
على الرغم من أننا فقدنا كل التاريخ الآخر لبلدنا ينبغي أن نكون قادرين على أن نخبر من خلال لغتنا، المؤلفة كما هي من طبقة ثانوية من الألمانية الهابطة مع رواسب من الفرنسية النورماندية[4 ] و اللاتينية... بأن الكم الأعظم من سكاننا كانوا من السكسونيين و بأنهم هُزموا و كانوا دائما ً خاضعين لمجموعة من الغزاة النورمانديين.
( نفسه )
و الآن على الرغم من أن هذا الزعم قوي و فعال إلا أنه في الحقيقة خادع لأن الدليل اللساني لا يستطيع بحد ذاته و دونما مساعدة أن يكشف عن المعرفة التاريخية تماما ً و على النحو المباشر المرغوب فيه هاهنا. و حتى المصطلحات من مثل ’ طبقة ثانوية ‘ و ’ الرواسب ‘ تشير إلى وجود متحقق لنوع فعال من تعيين التواريخ و ترتيبها زمنيا ً التي ينبغي الوصول إليها في مصادر أخرى، و لبسط المسألة على نحو أكثر فضاضة، فإن المؤرخ الذي يقارب مثل هذا الدليل بدون توثيق الوقائع ربما قد تصدى لمهمة مستحيلة في تقرير أيها تكون الطبقة الثانوية و أيها الرواسب: كان هناك أولا ً- الألمانية الهابطة أو الفرنسية النورماندية و اللاتينية؟ الدليل اللساني لوحده لا يوضح، و الأمر يحتاج إلى أن يُـفسَرَ من الداخل تنظيم للخطاب و التاريخ موجود فعلا ً. و مع ذلك فقد أُهمـِلت هذه المشكلة في القناعة النظرية بأنه حتى إذا جرى تدمير كل المصادر التاريخية الأخرى، فستظل حالة اللغة التزامنية تمدنا بدروس التاريخ.
كان السبب في قوة هذا المعتقد أن التاريخ قد حُمـِلَ لكي يستقر في اللغة، و على هذا النحو، ’ في الغالب حيثما كان التاريخ أبكم َ بشكل مطلق فيما يتعلق بالماضي، تتكلم اللغة‘( ماثيوز1880: 226). و تقدم دراسة اللغة أفضل أمل بالنسبة للمؤرخ لأنها تتحرك بما يتجاوز سرود التاريخ على نحو أقرب و أكثر موثوقية لمواد تلك السرود. لذلك فإن المؤول يمكن أن يثق بالتاريخ الكامن في الكلمات أكثر من ثقته بالسرود التاريخية بوساطة الكلمات لأنه بالرغم من أنه ممكن أن نختلق سرودا ً تاريخية زائفة، فإن اللغة نفسها لا يمكن أن تكذب حول التاريخ لكون وجودها نفسه تاريخيا ً. و كما قرر ليثام Latham ذلك ببراعة و إيجاز، فإن اللغة هي ’ تاريخ مادي‘( ليثام 1862:750).
ثم غدت هذه الأسطورة القوية موروثا ً من مرحلة أسبق، و كانت واحدة مما ينبغي أن يُـنشر على شكل جبهة بطرق مهمة و متباينة في القرن التاسع عشر. و لم تكن الفكرة المغرية القائلة بأن اللغة هي المهاد الذي تـُعرَض فيه علامات التاريخ ببساطة و مباشرة قد بلغت مشكلة أن اكتشاف ما يحفر المرء بحثا ًعنه في ’ التاريخ المادي‘ يعتمد جزئيا ًفي الأقل على ما يحاول أن يجده فيه. و الاعتراض بأن اللغة لا تكشف ببساطة عن التاريخ في أثناء كون المرء يحفر فيه، و لكنها تقدم مواد يمكن أن تنظم و ترتب استنادا ً على قوالب و بنيات متنوعة من أجل تحقيق أغراض و تأثيرات معينة أمر لم يُـنجز بعد. و كان ذلك هو ما أتاح الحرية التي قدمت دراسة اللغة مع قوتها الأسطورية الهائلة.
و كانت إحدى المناطق التي كان على اللغة أن تطبق فيها هذه القوة هي مجموعة الخطابات التي تدور حول الدولة - الأمة البريطانية. و كان هذا هو الحقل الذي يمكن فيه تعزيز واحدة من أكثر الأساطير قوة: اللغة بوصفها لا وعيا ً للأمة. فالمفهوم بأن اللغة تعكس الشخصية القومية كان معتقدا ً قد جرى التمسك به بقوة، وهو موروث من الرومانتيكيين ’ romantics ‘ أمثال ديدرو و فون همبولدت. و على الرغم من أن ما سيأتي قد جرى صوغه في أواسط القرن التاسع عشر، فقد عرَّف اللساني البريطاني جريهام اللغة عموما ً بوصفها:
التعبير الظاهري عن النزعات و الميول، و تحولات العقل، و عادات الفكر لأمة من البشر، و المعيار الأفضل لحياتهم العقلية و انفعالاتهم. و إذا ما تم قبول هذا التفسير ، فمن الطبيعي أن يتبع ذلك أن الصلة بين أفراد شعب ما و لغتهم قريبة إلى درجة أنه من خلالها يمكن أن يحكم الآخرون على الفرد؛ و أن اللغة هي أثر باق ٍ لطبيعة و شخصية الشعب.
( جريهام 1869: ix )
فالاعتقاد بأن اللغة و الشخصية القومية هما توأمان لا يمكن الفصل بينهما هو مثال آخر على عمليات المجانسة و المماثلة في دراسة اللغة. إلى درجة أن وحدة المجانسة في لغة أية جماعة قومية محددة قد عُـدَّت على أنها مقياس لسلامتها الثقافية و لنقائها:
و لذلك فإن من الواضح أن وحدة الكلام أمر أساسي لوحدة شعب ما. و جماعة اللغة تمثل رابطة أقوى من تماثل الدين أو الحكومة. و الأمم التي تعيش في عصر واحد و ذات الكلام الواحد ، مهما كانت منفصلة عن بعضها شكليا ً من خلال الاختلافات في العقيدة أو المنظمات السياسية، فإنها من حيث الجوهر واحدة في ثقافتها، و في منازعها، و في تأثيرها.
( مارش 1860: 221)
و إذا ما أعطينا هذه المعتقدات، فسيكون أمرا ً قابلا ً للتنبؤ أن كثيرا ً من العمل التاريخي حول اللغة في بريطاني في القرن التاسع عشر كأن ينبغي أن يوجه نحو تتبع ’ وحدة ً كلامية ً‘ في اللغة الإنجليزية. و مشروع ’ تاريخ اللغة ‘ هذا ( و هو مشروع يفصح عنوانه نفسه عن هدفه مقدما ً باستعمال أداة التعريف مرتين)، و كذلك نتاجه التاريخي معجم أوكسفورد الجديد للإنجليزية و حقل الدراسات الأدبية الإنجليزية، قد كانت مكرسة تماما ً لمتابعة عنصر الاستمرارية في ’ اللغة الإنجليزية‘ التي يمكن بعد ذلك أن يُـقرن بذلك الذي ’ للأمة الإنجليزية ‘. و المفاهيم الرئيسية في ذلك المشروع - ’ الإنجليزية الفصحى standard English ‘ و’ الأدب الرفيع good literature‘ – كانت مفاهيم، و هي مشابهة كثيرا ً للنقاط الأولية لسوسور، مبنية على التحديد[ لما يمكن أن يدخل ضمن التوصيف] و الرفض [ لما لا يمكن أن يدخل ضمن ذلك]. و على أية حال، كان يمكن أن تؤجل نقطة اتجاه تمركز مثل هذا العمل في الأثناء لأنه سيكون من الضروري أولا ً أن نقدم توصيفا ً للأسطورة القوية للغة و الشعور القومي.
إذا كان صحيحا ً أنه في هذه الفترة و في حقل البحث اللساني كان التاريخ هو ما نظر إليه على أنه قد سقط صامتا ً، حتى يُـنقذ من النسيان من خلال الطبيعة المعبرة للغة، فإن من المهم أن نفهم بدقة ما كانت تقوله اللغة نيابة عن التاريخ و بذلك أن نحدد أسرار التاريخ التي نطقت بها اللغة. و الجواب هو أن اللغة كانت تحدث بأسرار الأمة الإنجليزية: وحدتها، و ترابطها المنطقي، و عظمتها، و دوامها. لأنه عندما كشفت اللغة الإنجليزية أسرارها فإنها فعلت ذلك فقط من أجل أن تعزز الهوية القومية:
إن لساننا الإنجليزي بالطبع، هو ما ينبغي أن نبحث فيه أساسا ً و نستخلص منه بعضا ً من الكنز المخبوء الذي يحتويه... لا يمكن أن نستعمل ذواتنا أفضل من ذلك. فليس من شيء آخر يمكن أن يساعد أكثر في تشكيل قلب إنجليزي في داخل أنفسنا أو في الآخرين.
( ترنتش 1651: 24)
إنه يخبرنا تاريخ ’ أمة حديثة مهيأة لقيادة العالم، و بخاصة في ما يتعلق بمسألة اللغة بالذات‘
( سكيت 1895: 415). و هو ينطق بهذا التاريخ من خلال رسم متوازيات بين قدرات و قوة اللغة و تلك التي تخص المتكلمين بها، لأنه و مثلما صاغها أحد اللسانيين، هنالك ’ تطابق محدد بين عبقرية مؤسساتنا و تلك التي تخص لغتنا‘( ترنتش 1855: 43). أو كما أكـَّد آخر، بأن اللغة ’ تحمل معها المؤسسات المعززة و المكرِّسة التي نبعت من تربتها الوطنية‘ ( هاريسون 1848: 378). و قوة اللغة الأساس، منعكسة في الصورة الذاتية للأمة، كانت نزعتها الليبرالية: ’ اللغة الإنجليزية، مثل الشعب الإنجليزي، هي دائما ً مستعدة لتقديم حسن الضيافة لكل الأجانب المسالمين- كلمات أو كائنات بشرية- الذين سيحطون على أرضنا و يستقرون بين سواحلنا‘ ( مايكلجون 1886: 279).
فاللغة و الأمة الإمبراطوريين إذن لن ترحبا بالأجانب المسالمين فحسب، و لكنها أيضا لن تغفل عن تحمل مسؤولية حصتها من العبء اللساني للرجل الأبيض. و بهذا فإنه: ’ لإنجاز تنقيح جميع ما استعارته من اللغات الأخرى، تجهز إنجلترا الأجانب( الذين خضعوا للاستعباد طويلا ً ) بما يسمى قوام عنصرها الأساس الخاص بها، أعني مفردات الحياة السياسية الحرة‘( كنجتون-أولفانت 1873: 339). و اللغة، مثل الأمة، لا ينبغي لها أن تخجل من ’ كل ما استعارته‘ و لكن أن تبرزه للعيان بوصفه معالم للتفوق و الرفعة:
لا نرغب في نبذ ما تنطوي عليه الكلمات من غنى قد ورثناه من مراحلنا الفرنسية و الكلاسيكية؛ و لكننا نود أن نحمله بوصفه مداليات، كشعار نبالة تاريخي لمجرى حياة عظيمة، و من أجل تحديد و توسيع لغة إمبراطورية تكون قوة أعصابها و عضلاتها و طاقاتها الحيوية متمثلة أساسا ً بالإنجليزية.
( أيرل 1901:63)
إنها اللغة التي جسدت في انتشارها نجاحات الأمة و مستقبلها:
و تلك اللغة قد غدت أيضا ً بسرعة وسيلة عظيمة لنشر الحضارة، لغة القانون و الأدب بالنسبة للهنود، و لغة التجارة بالنسبة للأفارقة، و لغة الدين بالنسبة لسكان جزر المحيط الهادي. إن مدى تأثيرها، حتى في الوقت الراهن، هو أعظم من كل ما حققته اللغات الإغريقية و اللاتينية أو العربية؛ و الدائرة تتوسع يوميا ً.
( جست 1882: 703)
’ اللغة ‘، و هي هنا ما يمكن أن يتركب مثاليا ً من خلال مقوماتها السحرية، هي بالتحديد أسطورية بمعنى أنها تخص خطابا ً أو عدد من الخطابات، التي تمارس تأثيرات قوية في النطاق الاجتماعي. و تصبح ’ اللغة ‘ هنا مكانا ً و حقلا ً لبذر حلول مرغوبة، و لذلك فهي بهذا المعنى أسطورية، لمسائل تاريخية محددة. ففي مواجهة الصراع، تقدم ’ اللغة ‘ الوحدة، و في أزمنة التهديد بالقطيعة مع الماضي تبشر بالاستمرارية، و في أزمنة الصراع السياسي تمجد فضائل الليبرالية بما تتضمنه من الإيمان باستقلال الفرد و حماية الحريات السياسية و المدنية، و في أزمنة الشك تقدم تفاؤلا ً غير محدود. إنها في الحقيقة الأسطورة المثلى، في معنيين أثنين من معاني الكلمة: سواء أكانت نمط كلام اصطفاه التاريخ، أو كان شكلها على غرار الحكاية الشعرية الخرافية. إذ و كما أدرك أكبر علماء الأساطير اللسانية في بريطانية في القرن التاسع عشر، فإن الكلمات ’ ليست مجرد علامات اعتباطية، و لكنها قوى حية‘( ترينتش 1851: 3).
4. العلم المستحيل
لقد قدمت هذه المقالة توضيحا ً لحقلين مختلفين في المعرفة، و كلاهما يدعي لنفسه لقب ’ علم اللغة ‘. و لقد أظهرت المناقشة بأنه في كلتا الحالتين كان أساس اهتمامهما في اللغة أسطوريا ً: فمن جهة كانت هناك الحاجة إلى كيانات أسطورية لضمان ’ العلموية ‘، و من جهة أخرى كان هناك البحث في أشكال ناطقة يمكن بوساطتها أن يـُشرح التاريخ لذاته و للآخرين. و في هذا القسم الختامي سيكون هنالك أيضا ً نوع من التركيز على هذين العلمين من أجل توكيد نقاط ارتباطهما و ملاحظاتهما المشتركة و لتأشير المشكلات التي تعترض سبيل الوصول إلى علم للغة. و في هذا ستكون نصوص باختين ذات أهمية أساسية.
أحد معتقدات باختين المركزية أن ’ الخطاب اللفظي ظاهرة اجتماعية، و هو ظاهرة اجتماعية عبر كل مبدياتها و في كل عواملها سواء أكانت فرادى أو مجتمعة، من الصورة الصوتية إلى أبعد ما تصل إليه المعاني المجردة‘( باختين 1981:259). و قد يبدو مثل هذا المعتقد، من النظرة الأولى، منسجما ً مع تمييز سوسور بين مفهوم اللغة المؤسسي ( langue) و الأداء الكلامي (parole)، لأنه في تحقيق هذا التمييز، يناقش سوسور، ’ نميز في الوقت ذاته:
(1) بين ما هو اجتماعي و ما هو فردي و(2) و بين ما هو أساسي و ما هو ملحق و عرضي تقريبا ً‘( سوسور 1983: 14). و برغم ذلك يوجد اختلاف جسيم بين معتقد باختين المركزي ومعتقد سوسور لأنه برغم أنهما ربما يعبران، ظاهريا ً، عن معتقدين متشابهين حول الطبيعة الاجتماعية لما يفترض أن يَـنـْصَبَّ البحث عليه في بحوثهما( التطبيق praxis لباختين و
’ الهدف ‘ لسوسور)، إلا إنهما على خلاف حين يصل الأمر إلى مسألة كيف لنا أن نفسر المصطلح ’ اجتماعي‘. بالنسبة لسوسور قضية الكينونة الاجتماعية تـُختـَصَر إلى عوامل مشتركة، عوامل تماثل و تعاون و تناسل ذوات متماهية مع بعضها. و حين يفترض سوسور أن اللغة ظاهرة اجتماعية فإنه يقصد بالضبط هذا:
اللغة، بوصفها ظاهرة جمعية، تأخذ صيغة المجموع الكلي لبصمات موجودة في دماغ كل فرد، أكثر من كونها تشبه معجما ً تكون لكل فرد نسخة متطابقة منه. و على هذا فهي شيء كائن في كل فرد، و لكنها على الرغم من ذلك عامة بين الجميع. ... و ربما يمكن أن نمثل صيغة وجود اللغة هذه من خلال المعادلة الرياضية الآتية:
1
+1+1+1...=1 ( النموذج الجمعي)
( سوسور نفسه: 19)
و على هذا النحو فإنه في أي ’ جماعة كلامية‘ محددة، ’ يؤسس كل أفرادها بين أنفسهم نوعا ً من الوسيلة؛ كلهم سيولـِّد ثانية – بلا شك ليس تماما ً، و لكن تقريبا ً- العلامات نفسها المرتبطة بالمفاهيم نفسها‘. بالنسبة لسوسور إنها الحالة التي يكون فيها كل من اللغة و المجتمع تجميع تماثلات؛ و إذا ما استعملنا تشبيه ماركس، فإن المجتمع بالنسبة لسوسور يشبه كيس بطاطس و لكل حبة بطاطس فيه الحجم و الشكل عينهما. و الأكثر من ذلك أنه في وجهة النظر هذه للمجتمع يُحتفِظ بنوع من المساواتية الفجة القائمة بين الجميع بما أننا افترضنا أن اللغة ’ واقعة اجتماعية‘، و باستعمال مصطلحات دوركهايم، يجب أن يكون معناها أنها ( اللغة) تعمل بشكل متساو بوصفها تقييدا ً( و هو جوهر نظرية دوركهايم بالنسبة لهذا المفهوم ) لكل أعضاء المجتمع. و بذلك فإن أية لغة إنما هي عبء ثقيل على كل أفراد جماعتها الذين لا يملكون القدرة على مقاومته لأنه، و كما عبـَّر سوسور، ’ ليس ثمة من مجتمع قد عرف في أيما وقت مضى لغته على أنها تتعدى كونها شيئا ً ما موروثا ً من الأجيال السابقة و لا يملك خيارا ً سوى أن يقبله‘؛ ’ و الجهود المستمرة المطلوبة لتعلم المرء لغته الوطنية تشير إلى استحالة التغيير الجذري‘؛ ’ و المعطيات اللسانية نادرا ً ما تكون موضع نقد، فكل مجتمع راض ٍ بلغته العتيدة التي ارتضاها‘؛ و أية لغة إنما هي’ جزء و مجموعة لحياة الجماعة كلها، و القصور الطبيعي للجماعة يمارس تأثيرا ً محافظا ً عليها‘. و لهذه الأسباب فإن أية لغة تنطوي جذريا ً على المساواة لأنه: ’ في أية لحظة من الزمان، تناسب اللغة كل مستعمليها. فهي وسيلة مساعدة متاحة على نحو غير محدود، في كل مكان و للجماعة اللغوية برمتها‘( نفسه: 72-4).
بالنسبة لسوسور إذن ترتقي الطبيعة الاجتماعية للغة إلى هذا: إنها مرتبطة على نحو لا فكاك منه بمجموعة اجتماعية محددة( مثاليا ً هي أمة) التي تعكس صيغتـُها الموحدة ُ و المتجانسة ُ الخاصة ُ بها وحدة َ اللغة ِ و تجانسَها إلى حد بعيد. في تصور باختين، على أية حال، تبدأ وجهة نظر سوسور بخطوة مغلوطة من خلال التخلص تماما ً من مقوماتها الاجتماعية. فإقصاء أي اهتمام باللغة و العرق، باللغة و التاريخ السياسي، باللغة و المؤسسات، باللغة و الجغرافيا البشرية- و معها كل مناطق البحث الأخرى التي استبعدت إلى منطقة ’ اللسانيات الخارجية‘، يعني أن حقل البحث قد وضع في آنذاك في الاتجاه المغلوط. بالنسبة لباختين، تكون اللغة دائما ً تحت تأثير قوى اجتماعية كثيرة تدفع باتجاهات مختلفة، و هذا يعني أن الأصح من البحث عن هوية وحدة اللغة و متكلميها، هو أنه يجب على اللساني أن ينتبه إلى الاختلافات اللسانية المتغايرة للغة الواحدة و اللغات المتعددة. و مثل هذه الاختلافات تنشأ من مصالح و اهتمامات الجماعات الاجتماعية المتمايزة و تنبع من وجهة نظر باختين حول أي تشكيل اجتماعي بوصفه مبنيا ً من خلال الصراع التصادمي بين مثل مجموعات المصالح هذه. و بدلا ً من رؤية المجتمع بوصفه كلا ً شاملا ً وموحدا ً للذوات الفردية، فإن باختين يراه على أنه موقع و موضوع للصراع. و يعرض مثال على مثل هذا التعارض المنهجي بين هذين المنظـِّرين حينما يعلق سوسور على ’ التطور الأدبي في اللغة ‘:
هذه ظاهرة ذات أهمية عامة، لأنها غير قابلة للفصل عن التاريخ السياسي. فاللغة الأدبية مقصورة لا محالة على الحدود التي فرضها الأدب عليها. و ليس على المرء سوى أن يفكر فقط بتأثير الصالونات، و البلاط، و الأكاديميين.
( نفسه: 22)
و هذا ، بمعنى من المعاني، منظور يحمل سمات فكر باختين في توكيده على المدى الاجتماعي للغة الأدبية و تكاثرها ( بمعنى التوالد و سعة الانتشار: المترجم) في مؤسسات بعينها. و على أية حال فإن الخلل في عمل سوسور، الذي جعله يعي فقط وحدات اللغة، هو أنه استبعد تماما ً وجهات النظر هذه من أبحاثه. و بالنسبة لباختين من الجانب الآخر فإن مثل هذه الملاحظات نافذة البصيرة هي بالتحديد ما سمح لـه أن يرى و يفهم التنوع داخل الوحدة الظاهرية، ’ التشعب الداخلي في كل لغة في أية لحظة محددة من تاريخ وجودها‘. إنه يقدم لـه مادة البحث خاصته ليدرسها:
إن التشعب الداخلي في أية لغة وطنية منفردة إلى لهجات اجتماعية، و سلوك جمعي مميز، و رطانة احترافية، و لغات أجناسية، و لغات أجيال، و اللغات المنحازة، و لغات السلطات، لدوائر متباينة و طرائق زائلة، و اللغات التي تخدم الأغراض الاجتماعية السياسية المحددة لليوم الراهن، أو حتى للحظة الراهنة.
( باختين 1981: 263)
إذا لم يتفق باختين و سوسور حول مسألة الطبيعة الاجتماعية للغة فماذا عن مكانة علماء اللغة الأوائل، و خصوصا ً اللسانيين التاريخيين البريطانيين؟ مرة أخرى ، من النظرة الأولى تبدو هنالك روابط واعدة بين مثل هذا العمل التاريخي حول اللغة و عمل باختين، لأن ملاحظة ترنتش بأن الكلمات ’ هي ليست مجرد علامات اعتباطية، و إنما هي قوى حية‘ تبدو على صلة باعتقاد باختين في طبيعة الخطاب اللفظي المحملة بالقوة. و مع ذله فإن الوعد ينقلب ثانية إلى خيبة أمل و لأسباب مألوفة. و السبب الأساس هو أن اللسانيين البريطانيين هم أيضا ً قد عدّوا المجتمع و اللغة بوصفهما كيانين موحدين. و كما أشير مبكرا ً في المقالة فقد جادلوا من أجل وحدة جوهرية بين العظمة، و التحرر من جهة و الترابط المنطقي للغة و الأمة من جهة أخرى. لقد رأوا الحاضر، في الحقلين اللساني والاجتماعي بوصفه يشكل مُـتـَصـَلا ً مستمرا ً دونما غرزات خياطة مع الماضي، و لقد كان الأمر يعود لهذا السبب في كونهم أصروا بأن:
العيون ينبغي أن تـُفتح على وحدة الإنجليزية، إنه في الأدب الإنجليزي هنالك تتابع مؤلفين لا انقطاع فيه، من فترة حكم آرثر إلى فيكتوريا، و أن الإنجليزية التي نتحدث بها الآن هي بالمطلق واحدة في جوهرها، مع اللغة التي جرى التحدث بها في تلك الأيام عندما غزا الإنجليز الجزيرة أول مرة و دحروا و سحقوا سكانها البريطانيين.
( سكيت 1873: xii)
الماضي الملحمي، ’ الماضي الثابت و الأساسي للبدايات الوطنية و أزمنة الذروة‘ في عبارة باختين، قد أعيد وصله مع حاضر ملحمي في وجهة النظر التاريخية هذه. إنها استمرارية هينة لعظمة و كينونة دائمة متحققتين.
و على أية حال فإن الهدف من هذا ليس المجادلة بأن هؤلاء اللسانيين لم يكونوا مهتمين بالصيغ المختلفة للغة لأن عملهم في الحقيقة قد أشر غالبا ً البدايات المثيرة للبحث في التغاير اللساني heteroglossia . و يحذر ماكس مولر، مثلا ً
و كما أن التاريخ السياسي ينبغي أن يكون أكثر من مجرد سرد للتتابع الزمني للسلالات الملكية، كذلك لا ينبغي قط للمؤرخ اللغوي أن يضيع مشهد تشعبات الكلام الدنيا و الشعبية التي انبثقت منها تلك السلالات الملكية، و التي بوساطتها وحدها يجري دعمهم.
( مولر 1862: 51-2)
و الكثير من العمل الذي أنجزه اللسانيون هؤلاء قد ركـَّـز حقا ً على اللهجات الإنجليزية كما يَـظهر ذلك في النصوص التي نشرتها جمعية اللهجات الإنجليزية و بصورة أساسية في معجم اللهجات الإنجليزية. و على أية حال، و على الرغم من مثل هذا الانتباه إلى التغاير اللساني، و على الرغم من أن تلك كانت الحالة فإن عملهم، مثل عمل سوسور، قد بـُـني على أساس البحث عن الوحدة في اللغة. لأن العمل على اللهجات قد وضع على أرضية البديهية الأساسية القائلة بأنها( أي اللهجات : المترجم ) انحرافات عن الصيغة المركزية في اللغة. و سكيت، الذي هو واحد من أكثر الباحثين في اللهجات أهمية، يعرف ’ اللهجة ‘ بهذه الطريقة: ’ في علاقتها بلغة ما مثل الإنجليزية ، تـُستخدَم اللهجة بمعنى خاص لتحديد " تنوع محلي في الكلام يختلف عن اللغة الفصحى أو الأدبية" ‘ ( سكيت 1912: 1). و عبارة ’ اللغة الفصحى‘ standard language كانت في الحقيقة صوغا ً لهؤلاء اللسانيين في العام 1850 و كانت مفهوما ً منهجيا ً ضروريا ً لعملهم. و قد ابتكرت – بالطريقة نفسها تماما ً التي خدم فيها مفهوم اللغة المؤسسية langue أغراض سوسور- لتدخل الثبات و الوحدة في كل جامع واضح التغاير.
و وجهة نظرهم حول اللغة و وحدتها مع المجتمع الذي تعود إليه كانت ستغدو مثالا ً توضيحيا ً لموقف باختين النظري. إذ بالنسبة لباختين كانت الفكرة القائلة بأن لغة ما يُحتمل أن تـُكَوِّن وحدة إنما هي إنشاء كان الغرض منه خدمة مصالح معينة. و في عملهم على ’ اللغة الفصحى‘ مثـَّلَ اللسانيون التاريخيون البريطانيون وجهة النظر هذه. لأن ’ اللغة الفصحى ‘ التي كانت هدف دراستهم قد تحولت في وقت قريب من منزلتها بوصفها لغة أدبية إلى شكل محدد للغة مقصور على طبقة معينة. و مرة أخرى جرى تنفيذ عملية الإقصاء و التحديد تحت راية العلموية، و كما تشير تعليقات إليس Ellis على مفهوم شكل التلفظ المعترف بصحته[ 5 ] :
سوف يكون هنالك نوع من المادة البينية الوسيطة، النطق العام للأشخاص البالغين الأكثر انشغالا ً بالفكر أو الذين هم الأكثر جدارة ً بالاحترام، الذين تبدو الكلمات كما لو كانت تحوم حولهم ، و الذين هم ، مثل المعدل عند عالم الرياضيات ، لا يتفقون تماما ً مع أي من الآخرين، و لكن ربما و لأجل أغراض العلم يتم التوكيد بأنهم يمثلون الجميع.
( إليس1869-89: ج1، 13)
مثل ’ الحالة اللسانية‘ عند سوسور يمكن لهدف إليس أن يُـنـْجَـز فقط من خلال إنكار الاختلاف و كتابة مادة وسيطة أسطورية ’ نموذجية‘. إن تطور مفهوم ’ اللغة الفصحى‘، كما تم توضيحه في تعريف معجم أوكسفورد للإنجليزية، يكشف عن استمرار هذه العملية:
إنها( الفصحى) مجموعة منوعة في كلام بلد ما، و هي التي بسبب من منزلتها الثقافية و رواجها، قد عُـدَت ممثلة لأفضل صيغة في ذلك الكلام. ...
الإنجليزية الفصحى: تلك الصيغة من اللغة الإنجليزية التي تـتكلم بها( مع تنويعات، فردية أو محلية) الأغلبية المثقفة من شعب بريطانيا العظمى.
و على هذا النحو، تصبح اللغة، كما جرى تمثيلها في صيغتها الفصحى، موحدة ليس مع المجتمع برمته و لكن مع الطبقة المهيمنة. و مرة أخرى إضافية هي وحدة مبنية على الإقصاء: فاللغة، في مقابل لهجاتها، هي تلك التي تتحدث بها الأغلبية المثقفة و ليس أيا ً من المتحدثين الآخرين. و كما كان يمكن أن يقترح عمل باختين، فإن لهذا الإقصاء السلطوي الهرمي مجموعة مصالح محددة في القلب و هي ما يُعبِِـر عنه اللسانيون غالبا ً بمصطلحات أخلاقية:
نعني ’ بالإنجليزية الجيدة ‘ تلك الكلمات و تلك المعاني التي تحملها و تلك الطرق في وضعها مع بعضها، التي يستعملها أفضل المتحدثين، أي الناس الذين حازوا أفضل تربية؛ و كل ما لا يستعمله مثل هؤلاء الناس، أو يستعملونه بطريقة أخرى ، هو إنجليزية رديئة.
( ويتني 1877: 3)
من وجهة نظر باختين كان ينبغي حقا ً لمثـل هذا العمل التاريخي أن يكون مُدركا ً بالنسبة لكلمات من مثـل’ القوى الحية ‘ في النطاق الاجتماعي. و لكن من منظوره كانت النواقص التي مَيَّزت مثـل هذا العمل التاريخي حتى الآن أثـنين: أولا ً، التفكير بأن بالإمكان تعيين هوية اللغة بالاعتماد على مجموعة واحدة ( ذات خصائص طبقية معينة: المترجم ) فحسب ، و ثانيا ً، افتراض وحدة مستحيلة بين اللغة و الأمة. و ارتكب كل من سوسور و اللسانيين التاريخيين الخطأ نفسه من منظور باختين لأنهما و على العكس من تسجيل لغة مُوَّحـِدة، تلك التي اعتقدا أنها تمثل علوم اللغة المختلفة خاصتهما، قد ساعدا على تشكيل واحدة. و على ذلك فإن افتراض كل من مفهومي اللغة المؤسسية langue و ’ اللغة الفصحى ‘ بوصفهما وحدتين ثابتتين، و ممكنتين فقط من خلال غض البصر المتسامح عن الاختلاف، إنما هو ميثاق في السياسة اللغوية أكثر من كونه دراسة علمية.
في مقالته ’ الخطاب في الرواية ‘ قدم باختين نقدا ً تاريخيا ً لنمط البحث اللساني الذي جرت مناقشته في هذا المقالة. و النقطة البارزة فيه، يجادل باختين، هي أن
اللسانيات، و الدراسات الأسلوبية، و فلسفة اللغة- بوصفها قوى في خدمة الأغراض المتمركزة الكبرى في الحياة اللفظية الأيديولوجية الأوربية- قد بَحَـثت بداية و في المقام الأول عن الوحدة في التنوع. و قد ركـَّز هذا ’ التكييف باتجاه الوحدة ‘ ذو الطبيعة الإقصائية في حياة اللغات الحالية أو الماضية انتباه الفكر الفلسفي و اللساني على وجوه الخطاب الأكثر متانة ً، و الأكثر ثباتا ً، و الأقل تغيرا ً و الأكثر تميزا ً بكونها قابلة للحمل على الدلالة الواحدة .
( باختين 1981: 274)
من وجهة نظر باختين، على أية حال، قد حَـرَف َ هذا ’ التكيفُ باتجاه الوحدة‘ صيغة َ الفكر هذه بعيدا ُ عن طبيعة اللغة. لقد قادها لفرض شكل ٍ من وحدة اللسان monoglossia بوصفها الحالة الاعتيادية للغة ما، وهي حالة ثبات في الوجود أكثر من كونها مناسبة ً تاريخيا ً. و على هذه الشاكلة يغدو التعبير النظري لبعض الاتجاهات السياسية التي لها مصالح معينة نظرا ً لأن- و كما يجادل باختين:
اللغة الموحدة تـُشكـِّلُ التعبيرَ النظري عن العمليات التاريخية للتوحيد و التمركز اللسانيين، تعبيرَ القوى المندفعة نحو المركز. و أية لغة موحدة هي ليست شيئا ً معطى و لكنها في الجوهر تكون دائما ً مفروضة- و هي في كل لحظة من حياتها تتعارض مع وقائع التغاير اللساني.
( نفسه : 270)
و يجري التخلص من الصراعات الحاضرة داخل أي لغة محددة بوساطة وحدة اللسان. أو في الأقل هذا ما يبدو، لأن صراع القوى المندفعة نحو المركز التي تعكس مصالح اجتماعية متباينة، لا يمكن قط أن يُحل تماما ً. و في أوقات تختلف، و في سياقات سياسية مختلفة، ستكون للقوي الفاعلة في اللغة تأثيرات متباينة: ففي بعض الأحيان ستسود وحدة اللسان، و في أحيان أخرى سيظهر التغاير اللساني مع كل عناصره المتضاربة. و على أية حال، إذا كانت الحالة هي من النوع الذي يمكن أن تسود فيها وحدة اللسان أحيانا ً - كما حاولت أن أبين في هذه المقالة- فإنها أيضا ً الحالة التي لا بد أن يكون فيها هذا النصر وقتيا ً. لأن طبيعة اللغة تظل في المحاكمة النهائية متغايرة heteroglossic و حوارية dialogic- برغم كل ما تبذلـه من جهود الاتجاهات التوحيدية و التي تنزع نحو التمركز. و أي مثال من اللغة، و أي نطق في مفهوم باختين، ’ لن يستطيع أن ينقطع عن التمرين لاستعادة براعته المفقودة في مواجهة الآلاف من الخيوط الحوارية الحية‘ و بهذه الصورة يعبر عن صراع التغاير اللغوي بين مختلف وجهات النظر و القوى المتضاربة. و كما عبر عن ذلك باختين:
اللغة، في أية لحظة من لحظات وجودها التاريخي، متغايرة اللسان من القمة إلى القاعدة: إنها تمثـل الوجود المصاحب للصراعات الاجتماعية- الأيديولوجية بين الماضي و الحاضر، حقب الماضي المختلفة، المجموعات الاجتماعية- الأيديولوجية، الاتجاهات، المدارس، و الدوائر و هلم جرا، و كلها قد أعطيت شكلا ً ماديا ً.
( نفسه: 291)
حياة اللغة الاجتماعية و صيرورتها التاريخية يجعلان من المستحيل أن تنتصر وحدة اللسان على تغاير اللسان بأي معنى غير نسبي. برغم أن من الطبيعي أنه حتى النصر غير الناجز يمكن أن يعطي الفائز حقوقا ً و إمكانات معينة. و على هذه الشاكلة، لا يمكن للغة قط أن تكون تكاملية و توحيدية بالمعنى الحقيقي برغم أنها قد عوملت على هذا النحو عبر أنواع من الممارسات الاستطرادية التي شرع بها سوسور و اللسانيون التاريخيون. و لكن بعد ذلك كانت مثل هذه اللغة التكاملية ُ كتلك التي أنشأها كلٌ من العلم و الأسطورة مُـوَحـِدة ً، استنادا ً إلى باختين، ’ فقط بوصفها نظاما ً نحويا ً مجردا ً من الصور و المصطلحات المعيارية التجريدية التي اختيرت في عزلة عن المكونات المفهومية الأيديولوجية العينية و المدركة بالحواس التي تملأ اللغة، و في عزلة عن الصيرورة غير المنقطعة للمناسبة التاريخية التي تمثل صفة مميزة لكل لغة حية‘
( نفسه: 188). و قد أدى قمع التاريخ، و غيابه في أية صيغة سوى تلك المـُشـَوَّهة أو ألمـُشـَوِّهة، إلى قصور حاسم في ’ علم اللغة‘. لقد أنتج ذلك علما ً لم يصبح حتى اللحظة على وعي بحقله السليم لأن الجانب الحواري في الخطاب و القوى المرتبطة به لم توضع بعد ضمن نطاق بحثه. إنه علم ، و الأمر فيه قدر كاف للسخرية، ما زال بلا هدف.
علم اللغة، إذن، علم مستحيل و متناقض مع نفسه. لأنه و برغم أن باختين يجادل بأن ’ اللغة الواحدة المتكاملة فقط، التي لا يقرُّ فيها المرء باللغات الأخرى إلى جانبها، و التي يمكن أن تخضع لعملية عدَّها معطى ماديا ً‘، التي يبدو أنها تفتح باب الاحتمالات للعثور على مثل هذه اللغة حتى تكون هدفا ً و موضوعا ً للمعرفة العلمية، و لقد كان غرض هذه الورقة أن نجادل بأن مثل هذه اللغة الموحدة و التكاملية هي بناء قائم، و هي نتاج ممارسات الدراسات اللسانية( من بين ممارسات أخر). إن هدف اللسانيات الذي اكتشفه سوسور كان في الحقيقة قد أُزيح مرتين بعيدا ً عن واقع اللغة: إنه قد جرى توحيده بكبح تغاير اللسان، و هو قد جرى التعامل معه، بعد ذلك، على أنه مادي بوصفه ’ شيئا ً‘ ثابتا ً من أشياء العالم. أما فيما يتعلق بعلم اللغة التاريخي، فإننا نواجه الأمر نفسه من الاستحالة لأنه أيضا ً يستبعد تغاير اللسان ، و ينتج لغة موحدة متكاملة، و يعطى لمثل هذه اللغة الموحدة المتكاملة مهمة أيديولوجية واحدة. إنه مثال واضح على الترابط الثابت بين المعنى الأيديولوجي و اللغة الذي هو العامل المـُعـَرِّف ’ للفكر الأسطوري و السحري‘ استنادا ً إلى باختين.
و مع فشل هذين العلمين، إذن، تنشأ هنالك ضرورة عمل شاق جديد- بأن نسمح للتاريخ و اللغة أن يتحدثا: أن يقررا اختلافاتهما، و قواهما، المؤسسات التي تسند كلا ً منهما، المجموعات التي تناضل من أجل كل ٍ منهما. و الكثير الكثير إلى جانب ذلك، و كما وضع الأمر أحد اللسانيين التاريخيين: ’ لكل لغة تاريخها الخاص بها، و هو ربما قد أنجز على نحو يحدثنا عن حياتها الخاصة بها، إذا جاز التعبير، إذا ما اتخذنا الطريق الصحيح للعمل العلمي فيها،( كريك1861:1).
ما زالت المهمة الشاقة بانتظار من ينجزها.
ملاحظات المترجم:
[1] تترد في الدراسات اللسانية الحديثة مصطلحات كثيرة هي موضع اختلاف في الترجمة بين المهتمين بعلم المصطلح من مثل المصطلح linguistics الذي نترجمه هنا باللسانيات، و المصطلح science of language الذي نترجمه بعلم اللغة. و المؤلف، في هذا الموضع، أستعمل مصطلحا ً مركبا ً هو science of linguistics the بمعنى علم اللسانيات. للمزيد عن مشكلات ترجمة مصطلح اللسانيات أنظر الدكتور عبد السلام المسدي( 1984 ) " قاموس اللسانيات " ، المقدمة : 72. الدار العربية للكتاب.
[2] يشتق المؤلف من لفظتي طرائق methods و أساطير myths لفظة جديدة هي
mythods التي ترجمناها بكلمة الأسطورق. و ذلك في إشارة منه إلى تداخل الأسطورة بالعلم في هذه الجهود التي تزعم نزع الصفة الأسطورية و التاريخية عن الدراسات اللسانية.
[3] كان الغزو الروماني للجزر البريطانية على مرحلتين: بدأت المرحلة الأولى في العام 55 قبل الميلاد و كانت بقيادة يوليوس قيصر؛ و لم تفرض روما فيها سيطرة كاملة على الجزر البريطانية بسبب انشغالها بالمشكلات الداخلية التي أعقبت اغتيال يولويس قيصر في مجلس الشيوخ، و بدأت المرحلة الثانية في العام 43 ميلادية حين غزا القيصر كلوديوس الأول الجزر و أعادها إلى الهيمنة الرومانية التي استمرت حتى العام 410 ميلادية حين انسحبت روما من الجزر البريطانية ممهدة السبيل لقدوم الأنجلوساكسون إلى الجزر البريطانية في العام 449 ميلادية. و قد تركت مرحلة الحكم الروماني التي تزيد على الأربعة قرون آثارها على الإنجليزية القديمة. و استمرت هذه الآثار عبر تحولات اللغة الإنجليزية حتى الوقت الراهن.
[4] الفرنسية النورماندية المشار إليها هي لغة النورمانديين القادمين من إقليم النورماندي الفرنسي في العام 1066 ميلادية بقيادة و ليم الفاتح. و هم أيضا ً قد تركوا آثارا ً لغوية من الفرنسية النورماندية في اللغة الإنجليزية أكثر وضوحا ً من الآثار التي تركها الرومان.
[5] في الصوتيات الوظيفية، يمثل مفهوم شكل اللفظ المعترف بصحته ( Received Form of Pronunciation الذي يختصر عادة إلى RP الشكل اللفظي المقبول و المتوقع سماعه من المتحدث في البلاط الملكي و في الجامعات و في المجتمعات الراقية و في الإذاعة، و هو بذلك يمثل نوعا ً من الاصطفاء الطبقي و الثقافي.
باقر جاسم محمد