دول : ولي أمرها "الدستور"!
لم نكن في حاجة مشاهدة ما حصل في بعض دولنا العربية من"دمار"لندرك خطورة "الخروج"على ولاة الأمر. .. إذا أن تحذير الشرع من ذلك كفيل بلفت النظر إلى خطورة الأمر.
أين تكمن المشكلة؟
المشكلة أننا مارسنا الاحتكاك بالحضارة الغربية – الحضارة المتغلبة – وأرسلنا أبناءنا للدراسة فيها .. وأحضرنا أفلامها .. وقيمها .. وموضاتها .. وكل شأن من شؤونها ... وحججنا إليها – للسياحة – أفواجا .. أفواجا .. فرأى أبناؤنا .. وبناتنا .. بل ومن تخطى سن الشباب والانبهار .. من الأنظمة .. والتنظيم ما بهره ... وأطار اللب .. فاختلطت في الأذهان مجموعة من الأفكار .. "الحرية"و"حرية التعبير" و "الديمقراطية".. "التنظيم" ..إلخ.
الحرية : كلمة مرادفة لكلمة"سحر" .. تشع بمعانٍ لا حصر لها .. تمتد أحيانا – في أذهان البعض – حتى تخوم الفوضى .. وفعل كل ما تشتهيه النفس .. الأمارة.
تأثير هذه"الخلطة"سيصيب عامة من دخل مدرسة"التغريب" .. فإذا تجاوزنا فئة عصمها الله بثقافة إسلامية راسخة .. تفرق بين الأصول الفلسفية الي بُنيت عليها الحضارة الغربية .. وبين إضاعتنا نحن – المسلمين – لتنظيم شؤون الدنيا ... فسنصل إلى فئة أخرى .. فئة شحنت رؤوسها بصراع الكنيسة مع العلم .. وتمرد كبار المثقفين والفلاسفة .. واعترافاتهم .. وصرخات المتمردين .. اشنقوا آخر إمبراطور بمصارين آخر قسيس!!
هنا سنذهب في رحلة – وأنا مؤمن بالتأثير الشديد للأدب .. على وعي القارئ أو المشاهد .. وعلى لاوعيهما – إلى رواية شهيرة هي"الأحمر والأسود" وسنرى كيف ربطت بين "رجل الدين"و"الإمبراطور"وجعلتهم "طبقة"في مقابل "الشعب" .. إحدى العبارات التي وردت في الرواية،والتي نُشرت لأول مرة سنة 1830م :
(لن يكون في فرنسا بعد خمسين سنة إلا رئيس جمهوية،أما الملكية فعليها السلام. ومع الملكية يذهب النبلاء والقساوسة. لم أعد أرى إلا مرشحين يتملقون الأكثرية الدهماء.){ ص 640 ( الأحمر والأسود) / ستاندال / ترجمة جديدة مع ملف وملاحق بإشراف : هنري زغيب / منشورات عويدات / الطبعة الثالثة 983 "نسخة إلكترونية"}.
وفي مكان آخر من الرواية :
(ورد الكاردينال بافتخار :
"أجل يا سيدي،روما! ومهما كانت التعليقات التي سمعتَها عندما كنتَ شابا،أستطيع أن أقول بصوت عالٍ أن رجال الدين،الذين تقودهم روما،هم الذين يستطيعون عام 1830 أن يخاطبوا أفراد الشعب.
لو ردد خمسون ألف قسيس الكلمات نفسها في يوم بعينه يعينه الرؤساء،فإن الشعب،وهو الذي يمون الجيش بالجنود،سيتأثر من صوت قساوسته أكثر مما يتأثر بجميع أشعار الدنيا..
بعد همهمة قليلة،تابع الكاردينال رافعا صوته :
"إن ذكاء رجال الدين متفوق على ذكائكم،وجميع الخطوات التي قمتم بها لتأليف جيش مسلح في فرنسا،قمنا بها نحن فعليا. هنا تظهر الوقائع .. من الذي أرسل ثمانين ألف بندقية إلى فانديه ؟ ..إلخ ..إلخ
وما دام رجال الدين لا يملكون المال،لا يستطيعون السيطرة على أحد.
كتب وزير المالية في الحرب الأولى إلى موظفيه أن لا مال إلا للقساوسة.){ ص 642 – 643 ( الأحمر والأسود ) / }.
بطبيعة الحال،إعلاء"الكاردينال" – وهي رتبة"دينية"صاحبها يَنتخب البابا أو يُنتخب هو بابا – لدور رجال الدين .. يحمل في طياته"ذما"لهم من المنظور "المدني"والذي ينظر بكل سلبية لرجال الدين – وربما للدين كله،خصوصا بعد"تقديس"العمل من قبل"البروتستانت"،والنظر بسلبية لكل من لا يعمل مثل رجال الدين – بصفتهم الأداة التي يُروض بها الناس .. وإذا ذهبنا إلى رواية فرنسية أخرى – نُشرت سنة 1857م – أي "مدام بوفاري" فسنجد حوارا بين"قسيس"و"صيدلي" .
قال القس للصيدلي،الذي كان يسخر من رجال الدين .. (- كف عن هذا يا مسيو هوميه،فأنت كافر،لا دين لك.
فأجاب الصيدلي : "بل لي دين،ديني الخاص،وإن لديّ من التقوى ما يفوق ما لدى هؤلاء الآخرين جميعا،رغم نفاقهم ودجهلم. إنني على العكس أعبد الله،أؤمن بالكائن الأعلى،أؤمن بوجود خالق،كيفما يكن كنهه،ومهما يكن هذا الخالق الذي أوجدنا هنا لنؤدي واجباتنا كمواطنين وأرباب أسرات،ولكني في غير حاجة لأن أذهب إلى الكنيسة لأقبل أطباقا فضية،ولأسمن من مالي رجالا لا يصلحون لشيء ولا نفع منهم،ويحظون بمعيشة أنعم مما نحظى! إن المرء ليستطيع أن يهتدي إلى الله في غابة،أو في حقل،أو حتى بمجرد تأمل قبة الأثير،كما كان القدماء يفعلون! إن إلهي هو إله سقراط وفرنكلين وفولتير وبيرانجيه! (..) ولا أستطيع أن أعبد إلها مزعوما،يسير في حديقته وعصاه في يده،ويودع أصدقائه أجواف الحيتان،ويموت صارخا،ثم يبعث بعد ثلاثة أيام!){ ص 81 ( مدام بوفاري ) / جوستاف فولبير / ترجمة : محمد مندور / القاهرة / دار شرقيات للنشر والتوزيع / الطبعة العربية الأولى 1993 }.
إن الذي يميز "دين سقراط"أو أي دين"تأملي" هو أنه"دون تعليمات" .. دون"حلال"و"حرام"لذلك كانت"خطبة"هذا الصيدلي .. ضرورية لتبرير "خيانة"بطلة الرواية لزوجها .. وهذا حوار بين"إيما بوفاري" والرجل الذي يريد إغواءها :
(وعقب رودولف قائلا :"آه،هل عدنا ثانية،الواجبات،دائما! لقد سئمت هذه الكلمة،إن هؤلاء الذين يطنون في آذاننا باستمرار قائلين :"الواجب،الواجب!"ليسوا سوى ثلة من ذو الفكر الجامد الملتفين في صداري من"الفانيلا"ومن العجائز المتعبدات!آه،لعمري!ما الواجب إلا أن نحس بما هو عظيم،وأن نحب ما هو جميل،لا أن نقبل كل معتقدات المجتمع بما تفرضه علينا من ربقة وإذلال!"فاعترضت مدام بوفاري قائلة :"ومع ذلك .."
لا،لا! لماذا يصرخون ضد الرغبات العاطفية؟ أليست هي الشيء الجميل الوحيد على الأرض؟أليست منبع البطولة والحماسة والشعر والموسيقى والفنون،أو بإيجاز : كل شيء".
فقالت "إيما":"ولكن على المرء أن ينحني إلى حد ما للرأي العام،وأن يتقبل قانون الأخلاق". فأجاب :"أجل،لكن هناك قانونين : قانون صغير،ويمثل ما تعارف عليه الناس ووضوعوه،وهو يتغير باستمرار،ويصرخ في صخب،ويثير مثل هذه الجلبة التي نراها تحتنا،إنه أرضي من تراب،كهذا الحشد من الأغبياء الذين ترينهم هناك،تحتنا! أما القانون الآخر،فهو القانون الخالد،وهو يشملنا ويعلونا،كالطبيعة التي تحيط بنا،والسماء الزرقاء التي تمنحنا النور!") : { ص 135 ( مدام بوفاري ) / جوستاف فولبير / ترجمة : محمد مندور / القاهرة / دار شرقيات للنشر والتوزيع / الطبعة العربية الأولى 1993 }.
في واقعنا – المقتبِس من الغرب - لم يقصر "الفن" في السخرية من المتدينين .. ومظاهر التدين .. وصولا إلى السخرية من الدين نفسه .. حى نشرت – من قوت"الشعب" : أي على حساب وزارة الثقافة ! – رواية تشتم الخالق سبحانه وتعالى!!
جيل ربي .. أو تخرج من هذه "المدارس" يحتاج إلى خطاب جديد .. لا بالمعنى الذي يُطرح أحيانا .. تجاوز الشرع .. ولكنني أقصد خطابا يضع في ذهنه العقول الشابة – وهي الأغلبية – التي رُبيت على الروايات .. والأفلام والمسلسلات والمسرحيات والأغنيات .. ويكفي أن أشير إلى أن ما حدث مؤخرا .. من حديث عن"السينما" والحفلات الغنائية .. قوبل من بعض المثقفات – بعضهن تجاوزن الستين – بمزيد من الفرح .. وأن البلاد الآن تنفض عنها الغبار . . وتصبح مثل "بقية العالم"!! إذا كانت هذه ردة فعل .. "تلميذة" قديمة ... دنت من السبعين – ولدت سنة 1950م – فكيف بمراهق ومراهقة!!
كيف بمراهق ومراهقة .. صور لهما"الفن" أن رجال الدين – محاكاة للغرب،وتجنبا لذكر الدين نفسه أحيانا – هم الذين يقفون سدا في وجه"الحب" والانطلاق .. والانفتاح .. إلخ.
ليست هذه المرة الأولى التي أتحدث فيها عن حاجتنا لخطاب "جديد".. من العجائب التي علقت بالذاكرة .. وجود قول فقهي .. بـ"كراهية" الحديث – في غير العلم – بعد صلاة العشاء !!
حتى الآن – والناس،في بلادنا على الأقل – لا ينامون إلا قبل الفجر .. ومع ذلك فإن الخطاب الدعوي يدعو للاستيقاظ في الثلث الأخير من الليل .. وقت تنزل ربنا – نزولا يليق بجلاله وعظمته – سبحانه وتعالى.
القصد .. أن تكون الدعوة .. تنبيها لفضل الوقت .. وبما أنك – مستيقظ – فلا تجعل هذا وقت مشاهدة الأفلام .. إلخ. ثم المقارنة بين فضل الوقت وما أصبح يفعل فيه .. مع أن الأفلام متوفرة في كل وقت.
"الدستور " .. هو ولي الأمر!!
للأسف فإن "خطابنا" السياسي يخلط كثيرا .. عند الحديث عن"ولي الأمر" .. ولابد من التفصيل .. فالمملكة العربية السعودية .. في سطر وحدها ... ليس تحيزا .. بل كل دولة جعلت "القرآن الكريم"و"السنة المطهرة" دستورا لها .. فهي في نفس السطر.
ثم تأتي ملكيات .. مثل المملكة الأردنية الهاشمية – التي يحكمها الأشراف منذ تأسيسها سنة 1921م – والمملكة المغربية – والتي يحكمها الأشراف،أيضا منذ سنة 1666م – وهذه الملكيات تسمح بالمظاهرات المصرحة – مثلا - واختار"ولات أمرها" وجود "أحزاب" ينتخب الناس منها من يشاؤون .. ويتدخل"ولي الأمر"في الأزمات .. ليحل "الحكومة" ..إلخ
وأخيرا .. هناك الدول ذات النظام"الجمهوري" .. وهذه ينص "الدستور"فيها على وقت محدد يجب أن تجرى فيها "انتخابات" جديدة .. فإجراءات مُنظِّمة .. فحق لنا أن نزعم أن"الدستور" هو"ولي الأمر" في تلك الجمهوريات .. أما"الرئيس" فهو نائب عن الناس والدستور .. وحين تنتهي فترة حكمه .. ينصرف .. أو يُفترض أن يفعل!!
مظاهرات "إسلامية"!!
ما دام هناك ما يسمى بـ"المايوه الإسلامي"فالحديث عن "مظاهرات إسلامية" أقرب إلى الواقعية .. رغم أن نيران الجارة المسلمة "إيران"أصابت كثيرا من الدول العربية .. وتحدث الإيرانيون عن رفع العلم الإيراني فوق عاصمة أخرى "صنعاء" – بعد بغداد ودمشق وبيروت – وهذا يدل على أذاها الذي لا يخفى .. مع ذلك فتظل إيران جارة مسلمة .. لذلك يتعجب المراقب من المظاهرات الأخيرة التي جرت في إيران مؤخرا .. كيف يقوم مسلم بالتخريب وحرق الممتلكات الخاصة والعامة!! مما ينقل فاعل ذلك .. خصوصا في بلد يدعي "الديمقراطية" .. من"متظاهر"- من حقه أن يحتج وهو يرى دماء المسلمين تسيل بنقوده،وهو جائع – إلى"مجرم"!!
هل يعني هذا أن أحد"أذرع"الديمقراطية .. في دول تدعيها .. لا زال بعيد المنال في الدول الإسلامية!!
وهل العيب في "الآلية"أم في الإنسان المسلم!!
أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي المدني