مقال تأسيسي....
نور يهدي...... وليس قيداً يأسر......
700 آية وحديث لا يجوز العمل بظاهرها.........
المسالك الخمسة لعقلنة التشريع بالنص......
أرجو القراءة بعناية والانتباه إلى ضرورة الوعي بمقاصد القرآن وأهدافه ... وحتمية تجاوز كثير من نصه الحرفي.......
في القرآن والسُّنة 700 نص، ظاهرها غير مراد، ولا يصح العمل بما تدل عليه في الظاهر، وهذه فتوى فقهاء الإسلام المعتبرين، لا فتوى خصومه، وقد عمل المسلمون تاريخيًا بالمقاصد، وإن خالفت ظاهر النص.
قد تكون هذه الإحصاءات صادمة، وغير متوقعة، ولكنني أستبق التنبيه للقارئ الكريم إلى أنه ليس في هذا الإحصاء الذي نقدمه أدنى اجتهاد، فنحن ننقل هنا ما أعلنه كبار الفقهاء في التاريخ الإسلامي، ونعيد ترتيبه فقط، وهو ما درسناه بعمق في المدارس الشرعية ولا نزال ندرسه، ولكننا لا نزال نرفض أن نبني عليها النتيجة المنطقية اللازمة من هذا البحث.
هل كل نصوص الكتاب والسنة يصح العمل بها؟ وهل يتعين على الهيئة الدستورية واللجان القانونية أن تلتزم ظاهر النص كما تدل حروفه؟ وهل إننا حين لا نحتكم إلى ظاهر النص نحكم بغير ما أنزل الله ونتبع الطاغوت؟ وهل يعتبر التشريع الذي يتجاوز نصًا قرآنيًا أو نبويًا تشريعًا كافرًا؟
الحقيقة أن الأمة الإسلامية بوعيها الحضاري لم تتعامل مع القرآن على أنه صنمٌ يعبد، ولم تمضِ إلى إطلاقاته بالطريقة التي يتعامل بها التيار السلفي اليوم، بل كانت واضحة في بناء الحياة وتشريع القوانين على أساس من مصلحة الناس، بغض النطر عن السياق الذي ورد فيه ظاهر النص، كتابًا أو سُنة، ولا يوجد مذهب إسلامي من المذاهب المعتبرة إلا وله مشكلة مع عشرات النصوص في الكتاب والسنة، ولكنه يتعامل معها بواحد من هذه المسالك الخمسة.
وأبرز المسالك التي سلكها الفقهاء المسلمون عبر التاريخ، لوقف إعمال ظاهر النصوص بشكل أساسي، هي خمسة: باب النسخ، وباب المجاز، وباب التخصيص، وباب التقييد، وباب التشابه.
أما النسخ، فقد كان السبيل الذي اتبعه السلف منذ عصر النبوة؛ لوقف العمل بآيات قرآنية كريمة وأحاديث نبوية شريفة؛ لأنها باتت لا تلائم أحوالًا جديدة للأمة، ولا يتردد السلف الصالح بالتصريح بالناسخ والمنسوخ، وقد أفرده بالدراسة عدد كبير من الفقهاء، أشهرهم ابن أبي شامة والنحاس ومكي بن أبي طالب، ونقل عنهما كل المفسرين بعدهم بلا استثناء.
والنسخ هو إزالة الحكم بالحكم، والمنسوخ كثير، ومنه آية الوصية وآية القبلة وآية الخمر وآية مناجاة الرسول وآية العدة وآية تزويج الزاني، وليعذرني القارئ الكريم إذ أكتفي بإيراد أسماء الآيات المنسوخة دون شرحها درءًا للإطالة، وهي موجودة في كل كتب التفاسير بلا استثناء، وليس لدي على ما قالوه مزيد.
وفقهاء السلف لم يكونوا يرون القرآن بهذه الصمدية والمعبودية التي نمارسها، وتكرر عن الصحابة والسلف قولهم عن “آية السيف نسخت سبعين آية”، ومع تحفظي على هذه العبارة، ولكنها مهمة لندرك أنهم ما كانوا يرون صمدية الآيات وإطلاقيتها، كما يريد مشايخنا اليوم أن نقول، وكانوا يرون أن مصلحة الأمة فوق كل اعتبار.
إننا نقرأ اليوم آية الوصية للوالدين، والفقهاء مجمعون على أنه لا تحل الوصية للوالدين، إذ لا وصية لوارث، ومع ذلك، فالآية مقدسة ومعظمة ومكرمة ومظهرة، نتلوها في الصلاة، ولكن لا نلتزمها في التشريع، ولا يصح أن نلتزمها في التشريع، ولو عرضت على أي قاض مسلم وصية أوصى فيها المتوفى للوالدين؛ لوجب عليه ردها وإبطالها، مع أن ظاهر الآية يقول خلاف ذلك.
والمسلك الثاني الذي اعتمده فقهاء التنوير لدرء تعارض العقل والنقل هو التخصيص للعام، وهو إخراج فرد من أفراد من توجه إليهم الحكم، بدليلٍ من نقل أو عقل، فالآيات مثلًا تأمر بالنفير في الجهاد خفافًا وثقالًا، ولكن الأعمى والأعرج مستثنيان من دلالة الآية، بدليل النص، والسجين والمحصور مستثنيان منها، بدليل العقل، والآية مثلًا تأمر من استطاع من الناس كلهم بالحج والإفاضة، ولكن الفقه تدخل لمنع غير المسلم من الحج مع أنه من الناس، وحتى في العقيدة يقول الله تعالى {إن الله على كل شيء قدير}، ولكن علماء الكلام كلهم قالوا إن القدرة هنا تتعلق بالممكنات ولا تتعلق بالواجبات ولا بالمستحيلات… فهذه أمثلة على المخصوص، وهي في القرآن كثيرة جدًا، حتى قال البلقيني: “ما من آية في كتاب الله إلا دخلَها التخصيص، إلا قوله تعالى: إن الله بكل شيء عليم”.
وأما المسلك الثالث فهو التقييد للمطلق، وهو كثير أيضًا في القرآن، فمنه -مثلًا- قوله تعالى: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين}، فقد اتفق المفسرون إلا الثعالبي على أن بني إسرائيل ليسوا أفضل العالمِين، وإنما هي مقيدة بعالمي زمانهم!! وهذا قيد عقلي محض ليس فيه كتاب ولا سنة.
ومن التقييد أيضًا، قوله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}، فقد اتفق المفسرون أن تقطع كف واحدة، وليس يدًا ولا يدين ولا أيادي، وهذا تقييد عقلي محض خلاف ما دلّ له ظاهر الآية، ثم ذهبوا إلى وقف تطبيق هذا الحد لأسباب كثيرة. ومن التقييد، قوله تعالى {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم}، فقد ذهب الجمهور إلى تقييدها بالدليل العقلي وحده، وهو إتيانهن في موضع الحمل وتحريم ما سواه.
وأما المجاز فهو كثير جدًا، وقد أفرده أئمة كثير في كتب مستقلة، أشهرهم وأولهم أبو عبيد معمر بن المثنى، وعدَّد فيه عشرات النصوص التي لا يستقيم فهمها على الظاهر، وأنها وردت على سبيل المجاز ولا يصح العمل بظاهرها.. ومن ذلك آيات: يد الله وعين الله وساق الله وعرش الله وناقة الله وروح الله؛ ومن السُّنة: إصبع الله ورِجل الله وحقو الله وضحك الله وتعجب الله وهرولة الله وغيرها كثير، وهي مجاز لأن الله ليس كمثله شيء، ومن الأمثلة المشهور قوله تعالى: {واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها} فالمراد اسأل أهل القرية واسأل أصحاب العير، وهذا كثير جدًا في القرآن وفي كلام العرب، والظاهر منه غير مراد قطعًا بل المعنى.
وأما المتشابه فهو كثير، وقد أشارت إليه آية صريحة في مطلع (آل عمران): {منه آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب وأخر متشابهات} وقد عرفه الفقهاء بأنه ما انقطع علمه ولا سبيل إلى معرفة غاياته ومضمونه، وعادة ما يدخلون فيه الأحرف المقطعة أوائل السور، كما يدخلون فيه آيات تنزيه الله تعالى عن مشابهة الحوادث.
هذه إشارات سريعة لما اعتمده المسلمون في عصر المجد في بناء حضارتهم، من احترام للقرآن واعتدال في التعامل معه، وتوفير مكان أكبر للعقل والتجربة والبرهان.
ومن المؤسف، أن كل هذه القواعد أصبحت مرفوضة لدى التيار السلفي الذي يكرس القرآن والسنة فوق العقل وفوق العلم، ولا يؤمن بالمجاز، ولا يؤمن بالمتشابه، ولا يوافق في التخصيص والتقييد، وبات يرى ذلك مؤشرًا على خروج الأمة من الدين ورفضها الحاكمية، مع أن تقرير هذه المسائل والاحتكام اليها هو دأب الدولة الإسلامية التاريخية، منذ عهد عمر بن الخطاب إلى قيام الحركات السلفية المتشددة.
لقد قمتُ بإحصاء دقيق لهذه الآيات الكريمة التي طرأ عليها بشكل ظاهر نسخٌ أو تخصيص أو تقييد أو مجاز، بحيث يتغير فيها الحكم، فكانت في القرآن الكريم نحو 300 آية، وأكثر من ذلك في السنة الصحيحة، وأعتقد أنه بات من حق الأمة أن تضيف إليها أيضًا النصوص التي فرضها التطور أيضًا، وأوجب فيها التخصيص والتقييد والمجاز.
(المنسوخ 21 آية – المخصوص 78 آية – المقيد 82 آية – المجاز 120 آيات. والمجموع 301 آية).
بالطبع، لا يستوفي هذا الإحصاء كل المنسوخ والمقيد والمخصوص والمجاز، وإنما اخترت ما كان واضحًا، ويؤدي إلى تغير حقيقي في المعنى. كما أن لدى علماء الأصول عبارات مشابهة مثل “التأويل، وتحقيق المناط، وتنقيح المناط، وتخريج المناط، والتفسير الإشاري، والتفسير بالأولى، ورفع المشكل، وتفصيل المبهم والوقف في النص”، وغير ذلك، والمضمون عمومًا لا يخرج عن هذه الأبواب الخمسة.
وقد نصّ الحنفية بوضوح أن النص الديني يدور في ثمانية أبواب أربعة في (الوضوح)، وهي: الظاهر والنص والمفصل والمحكم، وأربعة في (عدم الوضوح) وهي الخفي والمشكل والمجمل والمتشابه، كما أفردوا المنسوخ في باب مستقل. وقد فصّل القول في هذه الأبواب الإمام الحنفي البزدوي، ونشر نصه كاملًا تلميذُه العلاء البخاري في كتاب مهم ينبئ عنوانه عن معناه: (كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي).
وفي هذا السياق تندرج مئات الكتب العلمية التي صنفها الأصوليون، تحت عنوان درء تعارض العقل والنقل، وتنزيه القرآن عن المطاعن، ومشكل القرآن، وغير ذلك، وكذلك ما كتبوه في باب المقاصد القائمة على استخدام العقل في إعمال النص وإهماله.
إن هذه الحقيقة في النص القرآني هي التي تفرض مكانه كتاب هداية إرشاد، وليس كتاب كيمياء وفلك وتاريخ وقانون، ولأجل ذلك؛ فإن الرسول نفسه لما أراد أن يحكم المدينة كتَب دستورًا وضعيًا اتفاقيًا بلغة القانون وليس بلغة الأدب، ولم يقل ما يقول إخوتنا السلفية: “دستورنا القرآن والسنة”!
سيقولون إنها وصفة جاهزة للتخلي عن القرآن، وجوابي بل هو السبيل الوحيد لدرء تعارض العقل والنقل، إنها العودة إلى ما انتهجته الدول الإسلامية الناجحة كلها خلال التاريخ، قبل قيام الحركات السلفية الظواهرية، وإنها الاعتدال والكف عن الغلو في الدين الذي ذمّه القرآن في عشرات النصوص.
قناعتي أنها الوصفة الوحيدة لاحترام القرآن وترتيله وتقديسه وإجلاله، ليس كنص سحري فوق العقل وفوق العلم، بل كنص تاريخاني أدبي فيه هداية وحكمة ونور تحتاج إليه الأمة، حين تقتحم المشهد الحضاري بعقول منفتحة وإرادة بصيرة وشورى ديمقراطية صحيحة.