الـقدس بين الإرادة والإدارة :
بين الإرادة الرّبانية وقرارات الإدارة الأمريكية
كانت فلسطين وما زالت على مرّ العـصور وكـرّ الدهـور مهوى أفئدة المؤمنين ، ومطمع الجبابرة الغـزاة الغاصبين ، وبين ذلكم وأولئكم يأتي وعـد الله تعالى ، الذي تحاول أن تزاحمه وعـود بشريّة من ضعاف مهازيل ، لتصبح فلسطين بين وعـد حقّ من الله الملك الحقّ ، وعـدٍ مسنود بإرادة إلهية ، لا تنازعها إرادة : بأنّ هذه الأرض سيؤول أمرها إلى المؤمنين المرابطين الصابرين المصابرين ، وبين وعود مفـتراة من أراذل الخلق ، مترجمة بقرارات مسنودة بإرادات بشرية مذءومة ، تريد أن تمنح ما لا تملك لمن لا يستحقّ !
وفي ضوء هاتيك الوعود : كم من احتلال تعاقب على أرض فلسطين عبر التاريخ ! لكن في مآلات أمورهم لا يعـدو كونهم غـزاة عابرين ، وظلّ منغرساً في ثرى هذه الأرض المباركة أهلُ فلسطين المرابطون ، بلسان حال يقول :
باقٍ بقاءَ الحبّ في السنابلِ ... في معـقل من أحصنِ المعاقلِ
وفي هذا السياق : قد ضاهـت القدس مكّة المكرمة بارتباطها برابط سنة ربانية ووعد إلهيّ ، تـبَـدّى في قوله تعالى ( وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَٰذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ، وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (سورة الفتح 22،21
أما قوله تعالى (وأخرى لم تقدروا عليها ) : فهي مكة المكرمة ( قد أحاط الله بها ) أي : حبسها لكم ـ لا عنكم ـ وعليه ( فإن لم تقدروا عليها في الحال ، فهي محبوسة عليكم محفوظة لكم لا تفوتكم ) مخبوءة لكم حتى تفتحوها وتأخذوها ، فتحريرها وامتلاكها يتطلب مهراً كبيراً ؛ من طاعات مزيدة ، واستنفار طاقات مديدة ، واستيفاءَ ضرائبَ عديدة ؛ من الأنفس والأموال والأرواح ، على طريق بلوغ هذا المرام .
فلمّا وفّى النبي - عليه الصلاة والسلام- وصحبه - رضوان الله عليهم - باستحقاقات هذا النصر ومتطلبات هذا الفتح والتحرير أوتوه ، فأثابهم الله فتح مكّة المكرمة ، فـدخلها الجيش الإسلامي فاتحاً بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم في السّنة العاشرة من الهجرة ، وفي هذا يقول المولى جلّ شأنه مبشراً بالنصر في سورة النصر ( إذا جاء نصر الله والفتح ، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ، فسبح بحمد ربك واستغـفره إنه كان توابا ) .
وقدسنا المقدسة كذلك ؛ يجري عليها ما جرى على مكة من قبل ، فلشأنها العظيم حبسها الله تعالى للمؤمنين ولم يحبسها عنهم ، وإنّه وإن كانت مكة لم يقوَ أحد من الكيانات الكبرى آنذاك من أن يخضعها لهيمنته وسيطرته – كونها موقوفة للأجيال المؤمنة- بخلاف بيت المقدس ، الذي تداعى عليه الغزاة من الرّومان والتـتر والصليبيين والإنجليز ، وفي الوقت الرّاهن يهود ، فهذا كله ليس بمدعاة للالتباس ، ولا شذوذاً عن الخاصية المشتركة بين بيت المقدس ومكة ولا انتقاص ، إنما هناك فارق لطيف بين مكة والقدس مفاده : أنه يقتص من الظلمة بمجرد أن يريدوا مكة بسوء ويهمّوا به ( ومن يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) سورة الحج 25 فـ ( يعاقب البادي فيه الشر ، إذا كان عازما عليه ، وإنْ لم يوقعه ) [ تفسير ابن كثير 5/411] من أجل ذلك قصم الله تعالى ظهر أبرهة الأشرم وجنده لمّا أرادوا مكة بسوء ، وهمّوا أن يبسطوا عليها هيمنتهم ونفوذهم ، فلم يتأتّ لهم ذلك لأنها محفوظة لقوم آخرين ، قد أحاط بها ربّ العالمين ، لمحمّد - صلى الله عليه وسلم - وصحبه المجاهدين .
في حين قد يُستدرج الظلمة إلى بيت المقدس لحـظوته بخصيصة ومزية معهودة ، غـدت عبر الزمان سنة تاريخية مشهودة ؛ ألا وهي أنه ( لا يعمّر فيه ظالم ) فمن استشرى ظلمه وامتد حتى طال دنسه بيت المقدس كان ذلك سبب اندحاره ، وجريرة انخذاله وانهزامه ، وهذا ما كان بشأن الغزاة الطامعين ببيت المقدس ، وكلّ احتلال هو على الإثـر والأثـر ، لن يطيب له على ثرى الأرض المباركة فلسطين الحالُ والمستـقر .