إرضاءُ النّاس ..

مقالات ملفقة 33 \ 2
بقلم ( محمد فتحي المقداد )*


إرضاء الناس غاية لا تًدْرَك، مقولة تتردد كثيراً على ألسنتنا، ولما لها من كبير الأثر في تجربتنا في التعامل مع الآخرين، فقد حفرت مساربها في أنفسنا، فمهما فعلنا لا يمكن أن نرضي كل الناس، لذلك تبقى قناعاتنا هي المؤشر و الدافع لما نقوم به، ضمن المتاح لنا من حرية شخصية بحيث لا نعتدي على حرية الآخرين .
و لغاية في نفسي، حاولت الغوص في المعاني لعلي أدرك قيمة الكلمة التي أنا بصدد الخوض في غمارها، ولعل من أسرفوا على أنفسهم إسفافاً و سفاهة، وهم يتهاوون في دَرَكِ الفاحشة و الرذيلة ،فيكونوا قد خرقوا منظومة مجتمعاتهم القِيَمِيّة.
ويكون الإدراك هو اللّحوق، واللّحاق، يقال : مشى حتى أدركهُ، وعاش حتى أدرك زمانه، و أهل السخاء و الكرم لا يُدرِكُ مسارهم إلا القليل، ممن يتمثل خطاهم، أما إذا أدرك الغلام فقد بلغ الحلم، و ما زالت كلمة دَرَكي تتناوب بين الحين و الآخر على مخيلتني، منذ صغري وعند معرض حديث أحدهم عن شرطي، و بالعودة للبحث عن أصل هذه التسمية، فقد وجدت أن الدّرَكْ أو الجندرمة أو الحرس (بالفرنسية: Gendarmerie), قوة عسكرية نظامية مكلفة بالقيام بمهام متعددة ( إدارية , قضائية, عسكرية)، وقد عادت بعض الدول ومنها الأردن لتشكيل قوات الدَّرَك وهي جزء من قوات الشرطة، و اللغة العربية متجددة بحيوتها، تواكب كل مستجدات العصر، فيكون معنى الدرك " الدَّرَكُ " في اللغة العربية هو اللحاق لدفع الخطر عن المجتمع أو النظام، بمكافحة كل أساليب الجريمة والشغب و الفلتان الأمني. ورِجَالُ الدَّرَكِ هم قُوَّاتُ الشُّرْطَةِ التي تُحَافِظُ عَلَى الأمْنِ العَامِّ ، وَبِالأخَصِّ فِي الطُّرُقِ وَالبَوَادِي ، لإدراكهم الفارّ والمجرم.
قادني البحث للتوقف عند الآية الكريمة في القرآن الكريم ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) - سورة النساء145- ، والدَّرْكُ الأسفلُ من النار هو قعرُها الأخير، ويكون مكان استقرارهم، وهو أقْصَى حَدٍّ فيها، كما أن النار دَرَكاتٌ، والجنةَ درجاتٌ، و دَرَكَ أسْفَلُ كُلِّ شيءٍ ذي عُمْقٍ كالبئر وغيره، هو أقصى قَعْره، و لما خاف أصحاب سيدنا موسى عليه السلام من فرعون وجنوده، ( قال أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) الشعراء61 – أي يُدركنا جمع فرعون ولا طاقة لنا به، و إذا تَدَارَكَ القومُ يكونوا قد تلاحقوا، لَحِقَ آخرهم أولهم، ومنه وقوله تعالى : ( قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَـؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـكِن لاَّ تَعْلَمُونَ ) – الأعراف 38- فهم قد تلاحقوا حتى صاروا في مكان واحد، و أصل الكلمة تداركوا ولكنها أدغمت.
وفي الانتقال إلى علم الحديث، فلا بد من التوقف عند كتاب المستدرك على الصحيحين، وهو أحد كتب الحديث النبوي. جمعها الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، جمع فيه الأحاديث التي اعتقد أنها صحيحة، وعلى شرط الشيخين (البخاري ومسلم)، أو على شرط أحدهما، ولم يروها الشيخان (البخاري ومسلم) في صحيحَيْهِما، ولكن قاما بالتخريج لرُوَاتِها في كتابيْهِما.
ومما تجود به ذاكرتي أيام الصيف، أثناء ذهابنا للكروم المحيطة بمدينتي ببصرى الشام، فقد نبهني أحد الرجال المقيم في عريشته الناطور،لحراسة وحماية كرمه من المتطفلين والحرامية، بقوله : ( دَرَاكَ الأفعى يا ولد )، فزعت خوفاً، مرتجفاً وقلبي ينبض بأعلى درجاته، وظننت أن تحذيره ( وَرَاكَ وليس دَرَاكَ)، ولم أفهم كلمته ( رحمه الله )، إلاّ عندما دخلت في دهاليز جذرها، بعد ذلك، أمرني بالاقتراب منه للاطمئنان عني، وأمرني بالذهاب إلى طرف الكرم، لأخذ قطف عنب لذيذ من ذلك ( الدّرُوك السَّلْطِي) نسبة إلى مدينة السلط.
وقد أدركت ببصيرتي، قيمة المعنى، فرأيته وعاينتُه في مواطنه الحقيقة في المعاجم و القواميس، واستدركتُ ما فاتني من إدراك المعاني الخلاّبة التي أخذت بلباب عقلي، حتى أدركت بعضاً منها، قيدته لعل فيه فائدة لكل من قرأ، وذلك من خلال مُداركتي على نبش بطون الكتب ة المواقع، متحملاً تبعاتها، عندما اقتحمت هذا المعترك، وها أنا قد دارَكْتُ كلماتي بالمتابعة و الترتيب، لإيصالها لكم.


عمّان \ الأردن
3 \ 8 \ 2015