مارك توين: الروائي والكاتب والساخر والمواطن العالمي (الاحتفال بالذكرى السنوية الـ 100 لوفاته)
وصف وليام فوكنر مارك توين بأنه "أول كاتب أميركي حقا"؛ وأطلق عليه يوجين أونيل "الأب الحقيقي للأدب الأميركي." وكان تشارلز داروين يحتفظ بكتاب "أبرياء في الخارج" على طاولة بجانب سريره، ليكون في متناول يده عندما كان يريد أن يخفف من ضجره ويسترخي قبل نومه. إسم حقبة كاملة استمد من كتابه "العصر المذهّب." وكان جوزيف كونراد كثيرا ما يفكر في كتاب "الحياة على المسيسبي" عندما كان أبحر بباخرة في نهر الكونغو.
وكان فريدريك نيتشه معجبا بكتاب "توم سوير". أما ليو شون فقد عشق كتاب "يوميات حواء" إلى حد أنه أمر بترجمته إلى اللغة الصينية. وقال إرنست همنغواي أن "كل الأدب الأميركي الحديث أتى من كتاب واحد من تأليف مارك توين هو "هاكلبري فن"، بينما قال زميله الفائز بجائزة نوبل كينزابور أوي في الكتاب نفسه، "هاكلبري فن" بأنه الكتاب الذي تحدث بقوّة شديدة عن حالته في اليابان التي مزّقتها الحرب وأنه كان مصدر إلهام له لتأليف كتاب روايته الأولى. وقد استنبط الرئيس فرانكلين ديلانو روزفلت عبارة "الصفقة الجديدة" من كتاب "يانكي من كناتيكت في بلاط الملك آرثر"، وهو الكتاب الذي حدا بعملاق كاتب الخيال العلمي إسحاق أزيموف ليعزو الفضل لتوين (سويّة مع جولز فيرن) في اختراع نوع كتابة الأسفار عبر الزمن. وحين قرأ خوسيه مارتي كتاب يانكي، تأثر كثيرا من تصوير توين "لدناءة أولئك الذين يتسلّقون فوق أجساد إخوانهم من البشر، ويتغذون على بؤسهم، ويشربون من سوء حظهم" حتى أنه أراد أن ينطلق إلى مدينة هارتفورد بولاية كناتيكت لمصافحته.
وُصف توين بأنه "سيرفانتيس الأميركي"، و"هومرنا" و"تولستوينا"، و"شكسبيرنا"، و"رابيليسنا". فمن اللغة العامية المنعشة والمرح الجامد المتحجر تخللت رسوماته الكوميدية الهزلية المبكرة إلى الشخصيات الأميركية بشكل واضح امتلأت بها قصصه، فقد عرفت كتابات توين القراء حول العالم على شخصيات أميركية حديثة بإيقاعات أميركية مميزة. فمغامرات هاكلبري فن كانت بمثابة إعلان الاستقلال الأدبي لأميركا، وهو كتاب لا يمكن لأي رجل إنجليزي أن يكتبه - كتاب وسّع الإمكانيات الديمقراطية لما يمكن أن تفعله رواية حديثة وما يمكن أن تكون.
لقد ساعد توين في تحديد إيقاعات النثر لدينا ومعالم الخريطة الأخلاقية عندنا. وقد شاهد أفضل ما لدينا وأسوأ ما فينا، ووعدنا المفرط وإخفاقاتنا المذهلة، ونواقصنا الهزلية وعيوبنا المأساوية. وقد فهم الأحلام والتطلعات الأميركية أفضل مما فهمناها نحن أنفسنا، وفهم إمكاناتنا لتحقيق العظمة وإمكاناتنا لجلب الكوارث. وقد أنارت قصصه العالم الذي فيه بشكل بديع والعالم الذي ورثناه عنه، وقد غيره وغيرنا معه في هذه العملية. وقد عرف أن أقدامنا كثيرا ما تطرب للألحان التي بقيت بطريقة ما إلى ما بعد سماعنا لها؛ وبطبقة صوتية بديعة أعاد هو عزفها على مسامعنا.
وقد علم إحساسه الصائب بالكلمة الصحيحة وليس ابنة عمها البعيدة الناس أن ينتبهوا إليه حين يتكلّم، سواء كان الكلام شخصيا أو من خلال الكلمة المكتوبة. ("فالفرق بين الكلمة الصحيحة تقريبا والكلمة الصحيحة حقا هو في الحقيقة مسألة كبيرة – فهو أشبه بالفرق بين الدودة المضيئة في الليل والبرق.")
لقد أثارت قصص توين الملتوية، والأصلية جدا، الخيالية منها والحقيقية، بعض التحديات الفوضوية والشائكة بشكل دائم التي ما زلنا نتصارع معها حتى اليوم - مثل التحدي المتمثل في فهم معنى دولة تأسست على الحرية على يد رجال كانوا يحتفظون بعبيد عندهم؛ أو لغز إيماننا المستمر العميق بالتكنولوجيا رغم وعينا بقوتها المدمرة؛ ومشكلة الإمبريالية والصعوبات التي ينطوي عليها التخلص منها. في الواقع أن من الصعب العثور على مشكلة تلوح في الأفق اليوم لم يكن توين قد تناولها أو تطرق إليها في مكان ما من أعماله. الوراثة مقابل البيئة؟ حقوق الحيوان؟ الحدود بين الجنسين؟ مكانة أصوات السود في التراث الثقافي للولايات المتحدة؟ توين كان حاضرا. قال الكاتب الساخر ديك غريغوري ذات مرة إن "توين سبق عصره إلى درجة تجعل من المستحسن ألا يتم التحدث عنه في نفس اليوم كالأشخاص الآخرين".
وقد أشيد بتوين في بداية مشوار حياته المهنية باعتباره كاتبا ساخرا موهوبا. ولكن السطح الهزلي ظهر ليخفي وراءه أعماقا غير متوقّعة. فقد كتب توين مرة إلى صديق له في عام 1902 يقول ("نعم إنك محق فأنا فيلسوف أخلاقي متنكر.") وقد تحدى توين مرارا وتكرارا توقعات القراء، مشكلا بذلك روايات لا تنسى من مواد كانت سابقا لا تعتبر ضمن الأمور المتعلقة بالأدب. وعلى حد تعبير وليام دين هاولز فهو "إنه يتسكّع في عالم الأدب المرتب، ويتسكّع عبر دربه المصان بعناية، ويمشي حول العشب عن رغبة خاطر، على الرغم من جميع اللافتات التي رفعت منذ بداية الأدب، والتي تحذر الناس من مغبة المخاطر المترتبة على أقل قدر من التعدي."
لقد ألهم توين الإنساني والرؤوف والساخر، والصبور والمروع والمتعصب للالتزام والمعقد، كتّابا عظماء في القرن العشرون حتى أصبحوا على الحال الذي صاروا عليه - ليس فقط في الولايات المتحدة، ولكن حول العالم. وقد تعجب الكتّاب من فن توين الذي صنعه من تعبير عامّة الناس - هذا الذي كان يواجه ظهوره في الأدب سابقا في أغلب الأحيان بالسخرية. وقد ذكر خورخي لويس بورخيس أنه في كتاب هاكلبري فن "لأول مرة يستخدم كاتب أميركي لغة أميركا دون تكلف." وعرف توين الكتاب الأميركيين من ارثر ميلر إلى ديفيد برادلي، ورالف إليسون، وأورسولا لـي غوين، وتوني موريسون، على دروس هامة لا تحصى حول فن كتابة القصص الخيالية. وقد وجد بعض الشخصيات الرئيسية في مجال الفنون البصرية أيضا أن قراءة أعمال مارك توين تعتبر تحويلية. فعلى سبيل المثال، يعزو رسام الكاريكاتير تشاك جونز، الذي لعب دوراً رئيسيا في تطوير رموز ثقافية شعبية أميركية مثل "رود رانر" و"وايلي كويوتي" و"باغز باني" أصول هذه الشخصيات إلى قراءته المبكرة لكتاب مارك توين الحياة الخشنة (Roughing It).
سام كليمنس، المولود في عام 1835 في قرية تسمى "فلوريدا" بولاية ميزوري (الذي أصبح يستخدم اسم "مارك توين" في العام 1863)، قضى أيام طفولته في مدينة هانيبال بولاية ميزوري. وفي العام 1847 حين وافت والده المنية وهو في الثانية عشرة من عمر وترك صفوف التعليم النظامي وأصبح متدربا في مجال الطباعة في مكتب صحيفة محلية، ثم عمل في وقت لاحق عامل طباعة مياوما في سانت لويس، ونيويورك وفيلادلفيا وواشنطن وأماكن أخرى. وأمضى سنتين يتعلم كل تفاصيل النهر التي تتغير باستمرار ثم أصبح قائد سفينة بخارية، ولكن مهنته في النهر ما لبثت أن انتهت بسبب الحرب الأهلية. وبعد أن أمضى أسبوعين في وحدة الحرس التابع لولاية ميزوري كانت متعاطفة مع قوات الكونفدراليين الجنوبيين، رحل مع شقيقه إلى نيفادا وحاول كسب ثروة من استخراج الفضة. وعلى الرغم من أنه فشل في عمله في التنقيب، فقد نجح في مهنته كصحفي. وقد ذاق طعم الشهرة لأول مرة على المستوى الوطني عندما ظهرت مجموعته القصصية المسماه "الضفدعة النطاطة المحتفى بها القادمة من مقاطعة كالافيراس" في العام 1865. أحب أوليفيا لانغدون من مدينة الميرا، بولاية نيويورك، ونشر كتاب "الأبرياء في الخارج" في عام 1869 الذي نال شهرة واسعة. ثم تزوجا وكونا أسرة وبدأ بتأليف الكتب التي اصبح يشتهر بها اليوم حين كان يقيم في قصر العائلة الذي بناه في هارتفورد، بولاية كوناتيكت. وقد اضطرته المشاكل المالية إلى إغلاق المنزل، ونقل الأسرة إلى أوروبا في مطلع التسعينيات من القرن التاسع عشر. وفي وقت لاحق من ذلك العقد انتشل نفسه من الإفلاس قبل الشروع في جولة محاضرات أخذته إلى أفريقيا وآسيا. ومع انتهاء القرن التاسع عشر، وحلول القرن العشرين، أصبح يشجب بلاده – والعديد من الدول الأوروبية الكبرى - على اتباعها مغامرات إمبريالية حول العالم، وأصبح نائبا لرئيس الاتحاد المناهض للإمبريالية. لكن جميع الأوسمة والميداليات الشرفية التي منحت له في السنوات الأخيرة من حياته - والدرجات الفخرية، والاحتفالات بعيد ميلاده – أخفقت في سد الفجوة التي تركتها في قلبه وفاة زوجته واثنتين من بناته. وقد توفي في عام 1910.
وفي العام 1899، منحت "صحيفة التايمز اللندنية" لقب توين السفير المتجول للولايات المتحدة. إذ إنه كان قد شهد أجزاء من العالم أكثر مما شهده أي كاتب أميركي شهير آخر ممن سبقوه، وترجمت كتبه إلى أكثر من 70 لغة. وقد جعل منه رسّامو الرسوم الكاريكاتيرية أيقونة معروفة في جميع أنحاء العالم بصفة "العم سام". لقد كان توين حقا أول المواطنيين العالمي الأميركيين، لأنه شخص كان يشعر حين يكون في العالم وكأنه في وطنه الأصلي.
وقد تساءل توين في ورقة قدمها في العام الذي صدرت فيه روايته هاكلبري فن، "ما هو القانون الأكثر صرامة في وجودنا؟" وجوابه هو؟ النمو. إذ لا يمكن لأصغر ذرة من كياننا ومعنوياتنا العقلية أو البدنية أن تظل ثابتة لسنة. ... وبعبارة أخرى، إننا نتغير – ويجب أن نتغير بشكل مستمر، ونحافظ على التغير طالما حيينا." فهذا الطفل الذي ينتمي إلى أسرة تمتلك العبيد، قد نشأ ليكتب رواية تعتبر في نظر الكثير من أشد الروايات مناهضة للعنصرية بشكل عميق يكتبها أميركي من واقع تجربته الشخصية. وبسبب انزعاجه نظرا لأنه فشل في إثارة الأسئلة عن الوضع القائم الظالم خلال فترة طفولته في هانيبال، فقد أصبح توين من أشد المنتقدين لقبول الناس بما أسماه "أكذوبة التأكيد الصامت" – "التأكيد الصامت بأنه لا شيء يحدث يعرف به الرجال المنصفون والأذكياء وهم يقومون بحكم واجبهم بمحاولة وقفه." كما علمته التجربة أيضا ألا يقلل من أهمية الطاقة التحويلية للفكاهة والسخرية. ويقول هذا الكاتب الأميركي الساخر العظيم في كتاباته إن الجنس البشري، بفقره، يملك بشكل لا شك فيه سلاحا فعالا واحدا – ألا وهو الضحك. فالسلطة، والمال، والإقناع، والتوسل، والاضطهاد – كلها يمكن أن تزول بفعل خدعة هائلة - بمجرد دفعها قليلا – ومزاحمتها قليلا – وإضعافها قليلا، قرنا بعد قرن: لكنّ الضحك وحده يمكن أن يدمرها محولا إياها إلى خرق وذرات في انفجار واحد. إذ إنه لا يقوى شيء على الصمود أمام هجمات الضحك."
(شيلي فيشر فيشكين أستاذ اللغة الإنجليزية ومديرة دائرة الدراسات الأميركية في جامعة ستانفورد. وهي مؤلفة أو محررة الكثير من الكتب عن مارك توين، بما فيها "هل كان هاك رجلا أسود اللون؟"، و"مارك توين والأصوات الأفريقية الأميركية، "إضاءة الأرض"، والكتاب الواقع في 29 مجلدا بعنوان "مارك توين أكسفورد"، وأخيرا كتاب كتاب مارك توين عن الحيوانات، ومجموعة نصوص مارك توين: كتّاب عظام عن حياته وأعماله).
الزميلة شيلي فيشر فيشكين
منقول-عن وجدية