نِهَايَةٌ
... وأخيرا أحاطوا به من كل جانب في أوج منامه مقطبين، وفي جوف عينيه أشعلوا وجوههم الصغيرة الدامية نارا حامية مندفعين، فحاصروه بزفراتهم الملتهبة اللافحة غير مقصرين، ولم يتركوا له بسياج حريتهم منفذا للهروب حازمين، ثم بشدة آلامهم صاحوا عليه صيحة واحدة واثبين، فصموا سمعه غير مقصرين، وأمسكوه بأيديهم الصغيرة المبتورة النازفة أجمعين، فطرحوه ببراءتهم المقهورة أرضاً غير مشفقين، وصار ممددا تحت أقدامهم الحافية الدامية من الصاغرين، وقد كان معدوداً لديهم مذ خبروه من السافلين، ثم في لمح البصر شلوا حركته بنظراتهم الحادة النافذة متمكنين، وبثقل عزتهم جثموا على صدره وبجبل حزنهم الدفين، فزادوا عليه بعد ذلك ثقلاً على ثقلٍ بجلمود صخر كرامتهم وبشديد كرههم المتين، وبأعينهم المطفأة الساكبة دمعاً والفائضة دماً قيدوه موثقين، ورموه بحجارة جراحهم العنيدة الحارقة موجعين، فرجموه رجماً لا يليق إلا بإبليس اللعين، ثم انهالوا عليه ضربا بعصي صراخهم القوية الصلبة غير آبهين، فحطموا بشموخهم أركانه صارمين، وبتحديهم دقوا عظامه متنافسين، فتناوبوا عليه بسياط أناتهم الخافتة المديدة متهافتين، وبأساهُم المرُّ جلدوه دون عد غير مبطئين، وبغير حساب اخرجوا سهام غصتهم الحادة من كناناتها فرشقوه بها ناقمين، وسحبوا سيوف كربهم المسنونة من أغمادها فطعنوه متسابقين، ثم أرسلوا عليه لهيب نيران غضبهم المشتعل فأحرقوه حانقين، وما تبقى منه أغرقوه في دماء مصابهم المسفوحة الغزيرة مقتصين...
لم يكن يقيم لهم وزنا في ميزان جبروته، وكان يعدهم صفرا في حسابه وقفرا في طاغوته، وفضلا متطفلاً على مائدته، واسماً مجهولاً غير مثبت في معجمه المعتم بسيئاته، ولا مذكوراً حتى في خزي يومياته، وليس مخطوطاً على أي صفحة مشينة من مذكراته، ورآهم سراباً ونفياً منفياً في مناماته، وعدما ونسيا منسياً في يقظاته...
ثم إنهم في مخيلته القطران وفي ناظريه الفحم الأسود، وهو الشمس الساطعة لوحده والفرقد، وغيره فراغ ممل وظلام موحش وهباء أجردُ، وهم في ظنه أهل الشقاء وعلى أديم الأرض زوائدُ، ولا أحق بالوجود سواه وهو الحي الوحيد الأسعدُ، فتوهم أنه المصطفى بين بني جنسه وأن خلقه أوحد، ثم سعى في الأرض فسادا وظن واهماً أنه كريم غير شحيح بالإصلاح جوادٌ أفيدُ، بل هو من صناع الإحسان عمادٌ مفردُ، وأن لا رأي يعلو على رأيه وجنس حكمته علَمٌ أوحدُ، فادعى الاستقامة بما أباح لنفسه من آثام حسبها ظلما بخير الزاد له تشهدُ، وزعم ساخرا متكبراً أن فعله أرشدُ، فسولت له نفسه أن يرى الأحياء من حوله عبيداً ووحده نعم السيدُ، وأنه فريد العصر ويتيم الدهر في النعيم لا ريب مخلدُ، وأن الشقاء يقيناً على من سواه سرمدُ، وهم أجدر بالذل المقيم والهوان الجاثم والعذاب الدائم وأنكدُ، والفناء بهم لا به أليق واللعنة عليهم أوكدُ...
د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
aghanime@hotmail.com