مهاتفة صباحية

قصة قصيرة، بقلم: د. حسين علي محمد
..................................................

يا ربة البيتِ أين أنت ؟
لم ينظر إلى حجرة الاستقبال، التي تتصاعد منها بعض الأصوات النسائية الخافتة.
دخل حجرة مكتبه وترك الباب موارباً.
مهاتفة صباحية، وحر يوليو يشعل الرأس والوجه والأيدي.
شهد اليوم ما تبغيه فائزة من عراك وصياح. رغم أنها مريضة بعد موت وليدها السابع في تسعة أعوام.
ها هو يُقلب صفحات الصحف. اختلط الضحك بالبكاء. وهو يتذكّر كيف قال الجميع للمطرب الأخرس: أحسنت يا عندليبَ الغناء!
جرى في خافقه خاطر غريب:
لماذا لا يطلق السياسة ويكتب في يومياته عن شيء آخر؟ ذكرياته وهو طالب في الجامعة في أواخر الستينيات ـ أيام حرب الاستنزاف ـ وأغاني الشيخ إمام؟ عدنا للسياسة مرة أخرى.
لم لا يكتب عن نفسه هو حينما كان في السابعة عشرة من عمره عام 1967فهوى سكين الهزيمة على العنق الغض وأسال دماء قانية؟!. ألم يلتحق بقسم التاريخ في العام التالي للهزيمة ليعصم نفسه من السقوط في وهدة اليأس حينما تكلم فلاسفة الهزيمة عن شراسة العدو وكأنهم يكرسون الهزيمة من أبناء القردة؟!
لا .. لا ..
دعنا من السياسة التي سلخ في كتابتها ستا وعشرين سنة من عمره، وأبعدته عن مستقبل كان ينتظره في كتابة الشعر.
فلأكتب عن رباب التي ظلت تنتظرني، وطال انتظارها لي حتى تزوّجت بعد زواجي بخمسة أعوام!
لا .. لا.
فلأكتب عن قصائد شعر .. تتفتح لزخات المطرِ؟ يكتبها الأدباء الطالعون .. يغنون فيها للذي لا يجيء؟
تنزلقين يا "رباب" على ضباب الذاكرة في صباح القاهرة الساخن .. الذي يتداخل فيه زحام الحافلات بضجيج المقاهي، والهمس من وراء شيش الشبابيك بأغاني سوقة الزمن الأخير، وغناء سيارات الأجرة في ثرثرته الغبية التي تذكّرني بحكايات حلاّقنا القديم في قريتنا النائمة في أحضان الخضرة والسكينة.
وحدة، وقلق، ومراجعة لما كان ينبغي فعله من زمن طويل. الرغبة تُفصح عن نفسها، ها أنت يا رباب تتعثرين في فستانك الأخضر الذي تخشاه فائزة بعد أن أنجبت سبعة بنين ماتوا جميعاً قبل أن يبلغوا عامهم الأول!
هاهي تنتظره في صالة الانتظار في الصحيفة الكبرى، وهو يجيء من الشارع لا من المصعد.
لماذا حدّثت فائزة عن رباب؟
ما أكثر أخطائك يا عبد التوّاب!
مهما تألقت التنهدات في حلقك يا رباب، واكتست عيناك بألق الحب القديم .. فستدحرج الخيبةُ والقنوطُ أصداءَ كلماتِنا العفوية كلما نلتقي مصادفة، وبلا تخطيط!
ـ أهلا يا رباب …
ـ كيف حالك يا عبد التواب؟
قالت له فائزة في الصباح: لماذا لا تعترف بالفضل لأهل الفضل؟ .. أنا الذي صنعت منك هذا التمثال الجميل، وأنا الذي سأحطمه إذا رأيت هذه الرباب!.
يتصاعد الرذاذ من فمها المحشو بالبارود والمتفجرات، فيلجأ إلى كتبه وأقلامه، وأوراقه.
ها هو قد عبر الخمسين ولم يصل إلى أية وظيفة قيادية في صحيفته، حصل على الماجستير وهو في الأربعين، وترك الدكتوراه بعد أن أنجز أكثر من نصفها. ما فائدة أن تدرس التاريخ ثم تُدرّسه بعد ذلك في الجامعة وتؤلف فيه لطلابك وهم يُشوهون التاريخ في صحيفتك ـ هذه التي تجلس في بهوها مع رباب ـ كل صباح؟
ظهر زوج رباب فجأة، ثم اختفى فجأة.
في مهاتفة صباحية قالت رباب لعبد التواب إنها تحتاج نقوداً. يعرف عمق العلاقة، لم تطلب من أختها الأستاذة بمركز البحوث، ولا من أختها الموجهة بالتربية والتعليم، ولا من ابن عمها.
ليس لها أخوة ذكور.
رغم أنها لم تتزوّجه، فمازالت تحس نحوه بشيء ما لا يستطيع تحديد اسمه، لعلها تعتبره بمثابة أخ لها، تستشيره في أدق خصوصياتها.
قالت له: إن زوجها ترك وظيفة مدير عام للتسويق، وعمل في عدة مشاريع آب منها بالخيبة والخسران، وهرب وظهر، وهرب!
أخرج لها ألف جنيه وقال:
ـ حينما هاتفتِني في الصحيفة خرجت وأحضرت هذا الألف من حسابي بالبنك.
قالت وهي تنظر في الأفق البعيد في اللوحة المقابلة التي رسمها فنان مشهور:
ـ سآخذ خمسمائة جنيه فقط، وأردها لك على شهرين.
لم يسألها:
ـ أنا أعرف أن معك نقوداً .. فهل أخذها زوجك قبل اختفائه الأخير؟
يصاحبها ألق الجمال الذي عرفه في الحب الذي وئد قديماً، تتعثر حروفها ـ بين ثلوج الثامنة والأربعين ـ في شفتيها المخضوبتين بالجرأةِ الغائبة، وذكريات الجامعة، والمظاهرات، ومحاضرات شوقي ضيف، والنعمان القاضي، وحكايات أبي الفرج الأصفهاني المسلية، وألف ليلة وليلة، ونداءات الرحيل!
أخلى لضحكة صافية مكاناً بين جراح قلبه:
ـ كنت أحضر دروسك في قسم اللغة العربية أكثر مما أحضر في قسم التاريخ.
اعترتها هزة جاهدت في إخفائها .. فوّتت الملاحظة .. وقالت:
ولذلك أنت من الكتاب المتميزين.
كتّاب؟ .. صحفي على قدّ حالي يا رباب.
أما زلتِ تُحسنين الظنَّ بي .. وأنا الذي قلتِ لكِ ذات مساء مكفهر: تزوّجي يا رباب .. فليس عندي لصحرائك ماء!
ومع ذلك لم تتزوّجي إلا حينما عرفتِ بزواجي من فائزة في البحرين. ذهبت لأعمل في صحيفة هناك فوجدتها تعمل في تدريس اللغة العربية مثلك، إنها تُشبهك كثيراً.
هل ذكّرتني بك .. فتزوّجتها هي؟!
***
خرجا من الصحيفة بعدما شربا كوبين باردين من العصير .
الظهيرة تبصقهما بجوار المستشفى الجامعي، يتحسس سحابة الجهامة .. كل المشاوير خاطئة في فم فائزة المحشو بالكراهية والنفور. فكيف تكونين يا رباب ضفة مشتهاة، وأنتِ ثمرة محرمة في يد الهارب البعيد؟!
استقلت سيارة أجرة ومضت.
الكلمات مفلسة.
ها أنتِ بنظرتك الساهمة القديمة يا رباب لا تنتقدين تصرفي، ولا تلعنين كتاباتي التي اختفى منها الوهج القديم. وتبتسمين ..كما كنت دائماً. لعلك لا تُتابعين كتاباتي السياسية الميتة عن القارة العجوز أفريقيا، وجنرالاتها الذين لا يهرمون، وحروبها الدائمة!
أضاعت هذه الصحيفة الشمطاء تألق كتاباتي فصرت واحداً من جثثها المحنطة، أكتب الكتابات المعلبة التي لا تستثير أحداً.
أيتها الفراشة الخضراء، بين جفنيك ترقد عذاباتي، وتبحث آهاتي المتعبة عن قلبٍ حانٍ لا يسلقني بلسان كالمبرد.
أين مني سحابة الوعد التي تمطرني بالحنان والعطف؟
وأنت يا فائزة وردة قصية قصية.
كم أود خلع ذاك القميص الثقيل، فالجو خانق. وأنت تتكلمّين بالعقل الذي يؤطِّر بستانك، ويُبعد الصهيل عن مفازات السكوت!
***
مشت رباب، وابتعدت، لم تنظر إلى الخلف.
قبل أن أفكِّر في صعود الدرج للطابق الخامس ـ في نفس العمارة التي أسكن في الدور الثاني فيها ـ لمحادثة صديقي "حلمي أحمد"، كي يمنحني فسحة من الوقت ، لتأجيل خيباتي:
خيبة قديمة .. خيبة جديدة .. خيبة مقبلة. في زمن تضرّج بالسواد والحداد!
لا ..
فلأعد إلى البيت، ففائزة حزينة، ومريضة منذ أسبوع.
لأجلسْ معها وأحدّثها في حنان حتى لو لدغتني بلسانها الذي يشبه العقرب!
هذه فائزة تجلس مع صديقاتها اللائي جئن يعزينها في وليدها الأخير. الحديث مزيج من المجاملات، والأكاذيب، وكل حرف يُباعد بين غدنا الذي لا يجيء وأمنياتنا الموءودة .. وأفراحنا المؤجلة.
***
أدرت وجهي للجهة الأخرى، وفي عيني حزن رباب، وصوت فائزة ينبعث واهناً ضعيفاً، كأنه آتٍ من جب بعيد!
متى ـ يا رب ـ … لا أفعل الذي كان يجب ألا أفعله ؟
أحضرت القلم لأكتب مقالة أخرى ـ طلبها مني رئيس التحرير ـ عن راهن أفريقيا الملبَّد بالحروب وغياب الديمقراطية.
الرياض 2/7/1998